دنيس روس يرسم لـ«الشرق الأوسط» الجدول الزمني الأميركي لمستقبل غزة بعد الحرب

اقترح قوة أممية انتقالية على غرار كمبوديا قبل عودة السلطة وإجراء انتخابات

TT

دنيس روس يرسم لـ«الشرق الأوسط» الجدول الزمني الأميركي لمستقبل غزة بعد الحرب

بايدن مع نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل بعد بدء الحرب بعشرة أيام (د.ب.أ)
بايدن مع نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل بعد بدء الحرب بعشرة أيام (د.ب.أ)

يرسم دنيس روس خطاً زمنياً هو الأول من نوعه لما تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه في غزة بعد انتهاء الحرب: مرحلة انتقالية مؤقتة تمتد من عام إلى عامين بقوة دولية شبيهة بالسلطة الانتقالية للأمم المتحدة في كمبوديا لملء الفراغ بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، بالتزامن مع «إصلاح» السلطة الفلسطينية و«تنشيطها» قبل إعادة سيطرتها على القطاع، والشروع في عملية «إعادة إعمار ضخمة» بدعم عربي ودولي، وبطريقة تكفل عدم عودة «حماس» التي «لن يكون للفلسطينيين مستقبل معها»، ثم إجراء انتخابات في غضون 18 شهراً.

روس الدبلوماسي الأميركي الذي اضطلع بدور بارز في تشكيل سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وبخاصة في ما يتعلق بالنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، معروف أنه انخرط بشكل كبير في عملية السلام خلال التسعينات من القرن الماضي، وقام بـ«دور حاسم في المفاوضات التي أفضت إلى توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993» التي كانت «خطوة مهمة نحو حل الدولتين»، فضلاً عن أنه كان كبير المفاوضين خلال قمة كامب ديفيد لعام 2000 في عهد الرئيس بيل كلينتون، قبل أن يشغل منصب المنسق الخاص للشرق الأوسط في عهد الرئيس جورج بوش الأب، ثم مستشاراً خاصاً لشؤون الخليج العربي وجنوب غرب آسيا لدى وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون.

دنيس روس متوسطاً المفاوضين الفلسطيني صائب عريقات والإسرائيلي دان شامرون خلال توقيع اتفاق الحكم الذاتي في سبتمبر 1993... في حضور عرفات ونتنياهو (غيتي)

هجوم بـ«كارثتين»

كان وقْعُ 7 أكتوبر (تشرين الأول) بادياً في كل جوانب الحوار مع دنيس روس. على رغم خبرته الواسعة في شؤون الشرق الأوسط ومنازعاته، لا يخفي أنه فوجيء ليس فقط بـ«جهل» الأجهزة المخابراتية والأمنية بما كانت تخطط له «حماس»، بل أيضاً بـ«الانحلال الأخلاقي» الذي أظهره مقاتلو الحركة خلال هجماتهم ضد المستوطنات والكيبوتزات الإسرائيلية المحيطة بالقطاع. هذا الهجوم «من وجهة نظر شخص يعتقد أن التعايش ممكن» بين الشعبين، قاد إلى «كارثتين»، الأولى في إسرائيل، والأخرى في غزة.

لم يكن عنصر «المفاجأة» هذا سوى مؤشر إلى رد الفعل الاستثنائي الذي عبّرت عنه الولايات المتحدة على كل المستويات تقريباً. يعكس كلام المبعوث الأميركي المقرب للغاية من دوائر صنع القرار لدى إدارة الرئيس جو بايدن، من أي منظور يتابع المسؤولون الكبار في واشنطن، وبينهم الرئيس بايدن نفسه ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان، والمسؤولون الآخرون في الحزبين الديمقراطي والجمهوري وغيرهم، تطورات الحرب في غزة وتداعياتها. يرسم انطلاقاً منها صورة أوضح للنتائج المتوخاة من الحرب: تدمير «حماس» أولاً، ثم الشروع في مرحلة انتقالية تسبق إعادة غزة بالتزامن مع إعادة إعمارها، إلى سلطة فلسطينية معززة - ولكن منزوعة السلاح، وتنتهي أخيراً بتسوية على أساس حل الدولتين.

رقعة الحرب

الدبلوماسي الذي بدأ عمله في وزارة الخارجية في السبعينات من القرن الماضي، ونشر مجموعة كتب عن عملية السلام، ومنها «العلاقة الأميركية - الإسرائيلية من ترومان إلى أوباما: محكوم عليها بالنجاح» و«الأساطير والأوهام والسلام: إيجاد توجه جديد لأميركا في الشرق الأوسط» (مع خبير معهد واشنطن لعملية السلام ديفيد ماكوفسكي) و«السلام المفقود: القصة الخفية للكفاح من أجل السلام في الشرق الأوسط»، ركز في حواره مع «الشرق الأوسط» على الأبعاد الاستراتيجية للواقع الجديد الذي نشأ بسبب هجوم 7 أكتوبر الماضي.

قرأ روس ما تلا الهجوم من قرارات الحرب إسرائيلياً وأميركياً، في ظل مخاوف من امتداد شراراتها في اتجاهات مختلفة، أقربها بسبب العنف المتصاعد من المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، وارتفاع حدة الاشتباكات بين القوات الإسرائيلية و«حزب الله» بما ينذر بانزلاق يؤدي إلى فتح الجبهة اللبنانية، وربما السورية.

أما أخطرها عربياً فيتصل بمخاوف مشروعة من نيات مبيّتة لتهجير فلسطينيي غزة نحو مصر والأردن، في ما يخشى أن يكون «نكبة ثانية». الأميركيون يتحسّبون خصوصاً لاحتمال تورط إيران في مواجهة مع إسرائيل، في خطوة يمكن أن تقود إلى تدخل مباشر من الولايات المتحدة والدول الكبرى.

«هجوم للإذلال»

يقول دنيس روس، الذي عاين هجمات «حماس» ضد إسرائيل منذ التسعينات إن إيران «لم تكن ربما على علم مسبق» بهجمات «حماس». غير أن ذلك «لا يرفع عنها المسؤولية»؛ لأن الحركة جزء من «محور المقاومة»، الذي يسميه هو «محور البؤس»، مؤكداً أنه لم يتوقع على الإطلاق أن تنفذ الحركة الفلسطينية المتشددة هجوماً كالذي حصل في أكتوبر الماضي؛ لاعتقاده أن «إسرائيل ستكون أفضل استعداداً مما كانت عليه» لأن لديها «مزيجاً من المعلومات الاستخبارية والاستعداد العسكري الذي سيمنع أي شيء من هذا القبيل».

لم يتخيل أن مقاتلي الحركة «سيعذبون الناس قبل أن يقتلوهم» في ما يصفه بأنه «نوع من الانحلال الأخلاقي» الذي برر «احتجاز أكثر من 240 رهينة، بما في ذلك أطفال لا تتجاوز أعمارهم الأشهر التسعة». على رغم أن ماضي الإسرائيليين «حافل بالمآسي»، يسيئه خصوصاً ما يسميه «الاحتفال بالتعذيب» و«الاستمتاع بالقتل» خلال هجوم مقاتلي «حماس» في ما «كان مصمماً للإذلال والتجريد من الإنسانية»، عادّاً أن تلك «كانت كارثة في إسرائيل الآن، ثم كارثة كما نشهد الآن في غزة».

وإذ ينظر إلى ما يحدث الآن، يخلص إلى أن «علينا جميعاً أن نتعامل مع المستقبل ليس بكونه المستقبل الذي نعود فيه إلى 6 أكتوبر 2023»، الواقع «الوحيد الذي من شأنه أن يجعل هذه الكارثة أسوأ». ويتعامل بحذر مع مقولة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أن «ما حدث في 7 أكتوبر لم يأت من فراغ»؛ لأنها يمكن أن تشي بأن «ما فعلته (حماس) كان مقبولاً بطريقة أو بأخرى». جوابه هو «لا» الناهية الجازمة. غير أن سؤالاً مثل: «هل يجب أن ينتهي الاحتلال؟»، يقابله الجواب: «نعم، يجب أن ينتهي بطريقة تتفق مع أمن إسرائيل».

بايدن مع نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل بعد بدء الحرب بعشرة أيام (د.ب.أ)

مَن يمثّل الفلسطينيين؟

سيمر الإسرائيليون، في رأي روس الذي اضطلع بدور رئيسي في رسم معالم الدور الأميركي خلال إدارته عملية السلام في عهدي الرئيسين جورج بوش وبيل كلينتون وتيسيره اتفاق أوسلو الثاني لعام 1995، بعملية «حساب سياسي» بسبب 7 أكتوبر، متوقعاً أن يكون «المستقبل السياسي في إسرائيل مختلفاً عما هو اليوم» بالتزامن مع «نقاش بحثي جاد للمرة الأولى حول ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة مع الفلسطينيين»؛ لأن الإسرائيليين «لم يناقشوا» اتفاق أوسلو الذي جرى التوصل إليه عبر «قناة سريّة» بإشراف رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين.

وكذلك كان الأمر عندما قرر رئيس الوزراء السابق أرييل شارون الانسحاب من غزة في سبتمبر (أيلول) 2005. ويرى أن النقاش «يجب أن ينعكس بين الفلسطينيين أيضاً» للرد على التساؤلات: «هل تمثل (حماس) وجهة النظر الفلسطينية؟ أم أن الذين يؤمنون بالعيش المشترك يمثلون وجهة النظر الفلسطينية؟».

حل الدولتين

وإذ يقطع الأمل نهائياً في أي مستقبل للفلسطينيين مع «حماس»؛ لأن «هدفها لا يتعلق بإنهاء الاحتلال»، بل بـ«إنهاء إسرائيل»، يقترح روس «خياراً آخر» يشبه ما حصل «في 1 سبتمبر 1982، بعد حصار تسعة أسابيع من الحصار الإسرائيلي، حين غادر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات و11 ألفاً من منظمة التحرير الفلسطينية لبنان إلى تونس».

وفي دلالاته على أن «(حماس) ترفض حل الدولتين»، يستعيد كيف كانت الحركة تلجأ إلى التفجيرات لتحول دون «حل الدولتين» حتى في أعقاب اغتيال رابين، حين أعلن «الفلسطينيون الحداد أيضاً؛ مما أوجد رابطة حقيقية في عيون الإسرائيليين».

ويحذّر من أنه «إذا خرجت (حماس) من هذه الحرب وكأنها انتصرت»، سيندفع الإسرائيليون إلى مواقف أكثر تشدداً وسيبنون الجدران أعلى وأعلى»، ملاحظاً أن محادثاته مع المسؤولين العرب الآن «تشي باستعداد للقيام بعمل عملي لصالح الفلسطينيين أكثر مما رأيته من قبل»، إن لجهة إعادة إعمار غزة، أو لجهة «إصلاح» السلطة الفلسطينية.

وإذ يدعو إلى «معالجة» كل المسائل في سياق «عملية جامعة»، يرى أن «المرحلة الأولى من إعادة بناء غزة يجب أن تضمن عدم إعادة تسليحها». أما الثانية، فتشمل «إعادة صوغ وتنشيط السلطة الفلسطينية» في ما يمكن أن يستمر «سنة أو سنتين»، مشدداً على دور الدول العربية في إيجاد «أفق سياسي» لكي «يكون هناك إحساس بماهية نقطة النهاية بين الإسرائيليين والفلسطينيين».

ويرى أن الدور الأميركي سيكون «تحديد الوجهة السياسية: دولتان لشعبين» تحت شعار «إنهاء الاحتلال بما يتوافق مع الحاجات الأمنية الإسرائيلية»، ومعالجة ما يحتاج إليه الفلسطينيون، وهو «معرفة أنه ستكون هناك نهاية للاحتلال»؛ لأن «(أوسلو) فشل لأنه لم ينه الاحتلال».

جداول زمنية

يعرف دنيس روس، أنه «يتعين علينا أن نتجاوز العنف» قبل القيام بأي أمر آخر لوضع «اللبنات الأساسية»، وأولها اللبنة المتعلقة بطبيعة «الإدارة في غزة» قبل عودة السلطة الفلسطينية، وهي «إدارة مؤقتة تحت مظلة دولية، يفضّل أن تكون بتفويض من الأمم المتحدة»، موضحاً أنها ستكون «إدارة مدنية يدير فيها التكنوقراط الفلسطينيون الواقع اليومي في غزة» من غير أن تكون «واجهة لـ(حماس)»، وفي ظل «قوة مختلطة، قوة شرطة أكثر من أي شيء آخر تساعد على ضمان القانون والنظام»، مع إعداد «برنامج إعادة إعمار ضخم مع آلية لضمان أن المواد تذهب إلى الغرض المقصود»، على أن يكون «مرتبطاً بنزع السلاح وعدم إعادة التسلح داخل غزة». ويلي ذلك خطوة إجراء الانتخابات في غزة والضفة الغربية «في غضون 18 شهراً».

لا ينظر دنيس روس بإعجاب إلى تجربة الأمم المتحدة في لبنان، حيث أخفق قرار مجلس الأمن الرقم 1701 لعام 2006 في تحقيق الغاية المتوخاة منه، وهو «منع إعادة تسليح (حزب الله)» و«منع أي وجود لـ(حزب الله) في الجنوب»، حيث منطقة عمليات القوة المؤقتة للأمم المتحدة في لبنان (اليونيفيل).

وهو يدعو عملياً إلى الإفادة من «تجربة الأمم المتحدة في كمبوديا بعد الخمير الحمر» عندما أنشئت «إدارة انتقالية جادة تحت تفويض الأمم المتحدة، وأدارتها بقوات جادة ذات صدقية» بهدف «إعطاء الفلسطينيين فرصة في المستقبل». ويحذر من أنه إذا بقيت «حماس» في السلطة و«تمكنت من القتل واتخاذ القرار في غزة، فلن يكون هناك مستقبل للفلسطينيين في غزة».

ويستدرك أن «على إسرائيل أن تنسحب، لكنها لا تستطيع أن تنسحب وتترك فراغاً. لذلك؛ يجب أن يأتي طرف ما ويملأه»، واصفاً السلطة الفلسطينية بأنها «ليست ذات صدقية»، بالإضافة إلى أنها «لا تريد أن تأتي (إلى غزة) على ظهر الدبابات الإسرائيلية». ويكرر أن «إدارة مفوضة دولياً لفترة انتقالية» ستكون مخصصة «لمساعدة الفلسطينيين. لا لخدمة الأغراض الإسرائيلية».

مستقبل غزة

على رغم الصورة القاتمة اليوم، يريد دنيس روس أن «يكون هناك مستقبل مفعم بالأمل لغزة... وألا تُفصل عن الضفة الغربية»، مبدياً كل العجب عندما يسأله البعض: «هل هناك حل الدول الثلاث؟». لكنه يستعجل الجواب: «هناك حل الدولتين» استناداً إلى «عملية إعادة إعمار واسعة النطاق مع نزع السلاح» بشرط ألا يكون مجرد شعار، بعدما «نجحت إسرائيل في تدمير معظم البنية التحتية العسكرية التي كانت (حماس) تبنيها».

ويؤكد أنه «بسبب (حزب الله) وبسبب إيران، كانوا يصنعون طائراتهم من دون طيار. إنهم يصنعون قذائف الهاون الخاصة بهم، ويصنعون صواريخهم الخاصة»، محذراً من أن بقاء «حماس» يعني إعادة بناء هذه القدرات العسكرية، وبالتالي فإن «المانحين الذين يستثمرون بشكل كبير في غزة» لن يفعلوا ذلك «إذا علموا أن (حماس) ستفعل ذلك مرة أخرى».

وإذ يشدد أخيراً على أن «(حماس) ليست الفلسطينيين»، فهؤلاء «يريدون التعايش» مع الإسرائيليين، الذين ينبغي أن «يرسلوا تلك الإشارات أيضاً». ولعل هذا الرد الأبرز على من يسأل عما إذا كانت «حياة اليهود البيض» أهم أو أغلى في الغرب من حياة الفلسطينيين العرب. هذا واحدة من رسائل دنيس روس، المولود لأم يهودية، مذكراً بأن «غالبية الإسرائيليين يأتون من الشرق الأوسط. وهم يهود من العالم العربي» وبأن الرئيس بايدن والوزير بلينكن «يؤكدان على ضرورة بذل المزيد من الجهد لحماية حياة الفلسطينيين وتلبية حاجاتهم الإنسانية».


مقالات ذات صلة

غارة إسرائيلية تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت بعد إنذار بالإخلاء

المشرق العربي دخان يتصاعد من الضاحية الجنوبية لبيروت بعد قصف إسرائيلي اليوم (ا,ف,ب)

غارة إسرائيلية تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت بعد إنذار بالإخلاء

استهدفت غارة إسرائيلية، ليل الثلاثاء-الأربعاء، الضاحية الجنوبية لبيروت بعد إنذار اسرائيلي بالإخلاء في أحد أحياء المنطقة، كما أظهرت لقطات بثّ مباشر.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي فلسطينيون يتجمعون على أنقاض مبنى دمرته غارة إسرائيلية على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة 12 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

الأمم المتحدة تندد بـ«أعمال تذكّر بأخطر الجرائم الدولية» في قطاع غزة

ندّدت مسؤولة أممية رفيعة، الثلاثاء، بـ«وحشية يومية» تواجه سكان قطاع غزة المحاصر، الذي تقصفه إسرائيل، واصفة ما يجري هناك بـ«أعمال تذكّر بأخطر الجرائم الدولية».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الولايات المتحدة​ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (أرشيفية - رويترز)

واشنطن: بلينكن أكد لإسرائيل أهمية تحسين الوضع الإنساني بغزة

قالت وزارة الخارجية الأميركية إن الوزير أنتوني بلينكن شدد على أهمية تحسين الوضع الإنساني في غزة خلال اجتماع مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي سائق يقوم بفحص البضائع عند الحدود أثناء مرور شاحنات مساعدات عبر معبر إيريز على الحدود مع شمال قطاع غزة (إ.ب.أ)

غزة: فتح معبر جديد لدخول المساعدات الإنسانية

أعلن الجيش الإسرائيلي، الثلاثاء، فتح معبر جديد لدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة بعد ضغط أميركي.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شمال افريقيا مائدة تجمع مصريين وغزيين داخل شقة في القناطر الخيرية (الشرق الأوسط)

«غزيو مصر» لم يحملوا الغربة في حقائبهم

بينما يجمع الغزيون الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» في مصر، على رغبتهم في العودة إلى القطاع، فإن أحداً منهم لم يشر إلى «الغربة»، أو يشكو «الوحشة والقلق».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».