العصر الذهبي للثقافة السعودية

وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود
وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود
TT

العصر الذهبي للثقافة السعودية

وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود
وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود

نودّع عام 2023، بكل ما حمل في طياته من إنجازات ودروس مستفادة، ونرحب بالعام الجديد بعزيمة كبرى لاغتنام الفرص الجديدة وتعزيز المكتسبات، للمضي قدماً في رحلة وزارة الثقافة، رحلة الأحلام الكبيرة، التي كان مولاي خادم الحرمين الشريفين وسمو سيدي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء - حفظهما الله - مصدر إلهامها وتمكينها، والمبدع السعودي عنوانها، وإرثنا المتنوع سر قوتها، والمستقبل المشرق وجهتها.

وبعد مضي خمسة أعوام ونصف، نجحت الرحلة في تحقيق مكتسبات استثنائية في فترة زمنية قياسية، جعلت من تجربة السعوديين في مأسسة القطاع الثقافي تجربة فريدة وملهمة، وأصبحت الأحلام واقعاً، بفضل دعمٍ ضخم من قيادةٍ رشيدة تؤمن بمركزية الثقافة في تنمية الإنسان والأوطان، وبشراكةٍ فاعلة مع المثقف والمبدع السعودي، وبجهودٍ دؤوبة من شابات وشبان سعوديين عملوا بجد في المنظومة الثقافة.

وعلى الرغم من تشعّبات القطاعات الثقافية، فإن المنظومة سارت بروحِ فريقٍ واحد، ونجحت منذ ذلك الحين في تحفيز القطاع بإطلاق 500 مبادرة لتطوير جوانبه المختلفة، وتأسيس 11 هيئة ثقافية إلى جانب 25 كياناً ثقافياً، نفخر بها، وقد شاركنا العالم تفاصيلنا الثقافية الملهمة عبر المحافل الدولية لتعظيم التبادل المعرفي والثقافي، ما ساهم في عكس ما تتميز به الثقافة السعودية من عمق تاريخي وقيمة فريدة.

وشهدت الأعوام الماضية توسيع دائرة الشراكات العالمية مع الدول الصديقة والمنظمات الثقافية الدولية، وأصبحت المملكة واحدةً من نقاطِ جذب الثقافة والفنون حول العالم، كما تبنّت رؤيةً واضحة لأهمية تعزيز الثقافة على المستوى الدولي، وذلك عبر مبادراتها التي حظيت بدعمٍ وتأييدٍ دولي.

حقائق

11 مليون زائر

جذبتهم 4000 فعالية ثقافية في السعودية

وتمكّنت رحلتنا من المساهمة في تعزيز الهوية الوطنية عبر مجموعةٍ من المبادرات التحولية والنوعية، وتوفير المحتوى الثقافي وتسهيل الوصول إليه في مختلف مناطق المملكة عبر أكثر من 4000 فعالية ثقافية، جذبت 11 مليون زائر، كما انعكست جهود المنظومة في رفع مستوى الوعي بأهمية الثقافة وتأثيرها على الفرد والمجتمع، حيث أصبح 92 في المائة من سكان المملكة يرون أهمية الثقافة في حياتهم اليومية بحسب الدراسات، وتضاعفت استثمارات القطاع الخاص في القطاعات الثقافية، وازدادت مساهمة القطاعات الثقافية في الناتج المحلي الإجمالي.

تجاوز 3 مستهدفات

كما حققت المنظومة إنجازات مهمة على مستوى العرض والطلب والممكّنات، ونجحت في تجاوز ثلاثة من مستهدفاتها لعام 2030، حيث وصل عدد خريجي التخصصات الثقافية إلى أكثر من 28 ألفا، بينما كان المستهدف الوصول إلى 26 ألفا، كما قفز عدد الموظفين في القطاعات الثقافية إلى 244 ألفا، فيما كان مستهدف عام 2030، 140 ألفا، بالإضافة إلى تجاوز مستهدف عدد المشاركات السعودية في الفعاليات الثقافية الدولية لتصل إلى 35 مشاركة.

وأمام كل ما تحقق، أثبتت التجارب قدرة المنظومة الثقافية على التكيف مع المتغيرات، ومرونتها في خلق نماذج عمل مبتكرة ومستدامة، ولعل التجربة السعودية تجاه أكبر تحدٍّ واجه القطاعات الثقافية في العالم، كوفيد 19، خير برهان على ذلك.

طموحات 2024

وبالنظر إلى المستقبل، ندخل عام 2024 بطموحاتٍ كبيرة حيث سنعمل على تعزيز تلك المكتسبات، ورفدِها بالمزيد من الإنجازات في عالمٍ سريع التطور والتغير، حيث تبرز عدة تحولات كبرى ستؤثر في قطاع الثقافة خلال الأعوام القادمة، وستخلق فرصاً جديدة، ومع أن التحولات المجتمعية وتفضيلات المستهلكين تؤثر على القطاع، فإنها تساعد المنظومة بشكل أساسي على تخطيط القطاع، كما تدفع التحولاتُ الاقتصادية حول العالم القطاعَ الثقافي إلى اعتمادِ مناهجَ جديدةٍ لاستمرار ازدهاره، وتُبرز أهمية التمويل والدعم، كما تعطي التطوراتُ التقنية فرصاً غير محدودة للنمو، وتساهم في خلق فضاءاتٍ جديدة.

3 ركائز أساسية

وتعتمد أولويات المنظومة الثقافية في السعودية بدءاً من العام الجديد على ثلاث ركائز أساسية تتمثل في: الثقافة من أجل زيادة الإبداع ومشاركة المجتمع، ومن أجل النمو الاقتصادي، ومن أجل الاعتزاز الوطني والتبادل العالمي، مع التركيز على تحقيق مزيد من التقدم على نطاق العرض، سواءً في التشجيع على الابتكار والإنتاج والنشر، أو الطلب (الوعي والاستهلاك)، بالإضافة إلى الممكِّنات كالتمويل، والتعليم، والتدريب المهني، والقوانين والأنظمة، والتقنية.

عازمون على تعزيز شراكاتنا الدولية، وتشجيع خطط إدماج الثقافة وتكامُلِها مع السياسات العامة؛ لتحقيق أهداف التنمية المستدامة حول العالم، وحماية التراث العالمي من تحديات التغير المناخي، والصراعات والمخاطر الأخرى، والمساهمة مع الأصدقاء حول العالم لحماية الكنوز الثقافية التي تعد جزءاً من حضارتنا الإنسانية.

إن تعزيز الثقافة ضرورة أساسية، والحفاظ عليها مسؤولية حضارية، لذلك سنمضي لتحقيق رؤية السعودية 2030، حيث ستصل رحلة وزارة الثقافة إلى منتصف طريقها نحو 2030 في يونيو (حزيران) القادم، وليس أمامنا إلا تحقيقُ تطلّعاتِ قيادتِنا وطموحاتِ بلادِنا التي تستحق أن تزدهر بمختلف ألوان الثقافة، لإثراء نمط حياة الفرد، والإسهام في تعزيز الهوية الوطنية، وتشجيع الحوار الثقافي مع العالم.

 


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

نهاية «التعايش القسري» بين العشائر العربية و«قسد» في الجزيرة السورية

سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)
سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)
TT

نهاية «التعايش القسري» بين العشائر العربية و«قسد» في الجزيرة السورية

سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)
سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)

تتفاوت مواقف العشائر العربية في منطقة الجزيرة السورية من «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» بين القبول والرفض والتحفظ؛ فبعض العشائر تتعاون معها في إدارة مناطقها، بينما ترفضها عشائر أخرى وتعارض وجودها كلياً، فيما تتخذ عشائر ثالثة مواقف وسطية أو متغيرة بناء على التطورات الميدانية والسياسية.

وفي حين يرى بعض العشائر في «قسد» حليفاً ضرورياً للحفاظ على الأمن والاستقرار في مناطقها، خصوصاً في ظل التهديدات المستمرة من قبل تنظيم «داعش» وغيره من الجماعات المسلحة، تتهم عشائر أخرى «قسد» بممارسة التمييز ضد العرب، وبتهميشهم في الإدارة المحلية؛ ما يدفعها إلى رفض التعاون معها ومعارضتها. وفي تصعيد جديد للمواقف الشعبية في شمال وشرق سوريا، أصدر شيوخ ووجهاء عشائر عربية من محافظات دير الزور والحسكة والرقة بياناً موجّهاً إلى قيادة التحالف الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة، طالبوا فيه بوقف الدعم العسكري والسياسي المقدّم لـ«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» وجميع التشكيلات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة السورية.

مشهد لنهر الفرات الذي يعبر الجزيرة السورية وقد بدا في الخلفية جسر دير الزور الأثري مدمراً (غيتي)

وأكد البيان أن ممارسات «قسد» التي وصفها بـ«القمعية»، أدَّت إلى فقدان الأمن والاستقرار وانتشار الفوضى في المنطقة، محمّلين التحالف الدولي المسؤولية المعنوية والقانونية عن استمرار هذا الوضع.

فقد وثَّقت وسائل إعلام محلية، مقتل الطفل فريد الهريش في بلدة أبو حردوب برصاص عنصر من «قسد»، بتاريخ 26 يونيو (حزيران) الماضي. وفي 2 يوليو (تموز)، لقي الطفل علي العوني حتفه، أثناء جمعه للقمح قرب حاجز عسكري. ولا تقتصر الانتهاكات على القتل المباشر، بل تتسع لتشمل اختطاف الأطفال وتجنيدهم قسرياً، عبر منظمة «الشبيبة الثورية»، أو فرض دفع بدل يقارب 300 دولار للإعفاء من الخدمة العسكرية. ويفرض أخيراً على الزائرين من الخارج ممن تجاوزوا الخامسة والعشرين إجراءات بيروقراطية، ودفع مبالغ مالية لاستصدار إعفاءات.

وشدّد الموقعون على البيان على تمسكهم بـ«وحدة سوريا ورفضهم لأي مشاريع انفصالية»، داعين إلى إعادة سلطة الدولة السورية على كامل المناطق الشرقية والشمالية، ودمج العناصر الراغبين من «قسد» في صفوف الجيش السوري بقيادة الحكومة الشرعية. وفي الأول من يوليو (تموز)، وجَّه 14 شخصاً من شيوخ ووجهاء عشائر وقبائل العقيدات وشمّر والبوشعبان والبقارة، إضافة إلى عشائر البوليل والمشاهدة والبوسرايا من محافظات دير الزور والحسكة والرقة، بيانهم إلى قيادة التحالف الدولي، كما وجّهوا نداء إلى من سموهم «أبناءهم» المنخرطين في صفوف «قسد»، داعين إياهم إلى الانشقاق عنها والعودة للمشاركة في إعادة بناء الدولة.

غليان في الجزيرة

في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، قال ناصر حمود الفرج أحد الشيوخ الممثلين عن عشيرة البوشعبان ومن الموقِّعين على البيان، إن بيانات أخرى سبقته وحملت «الموقف ذاته، وعبّرت عن صوت أبناء العشائر، لكن الظروف الحالية، وتراكم الانتهاكات، والطلب الشعبي المتزايد، فرضت علينا أن نرفعه مجدداً، وبنبرة أكثر وضوحاً».

العشائر العربية وقد أعلنت «النفير العام» لمحاربة «قسد» في الجزيرة السورية عام 2023 (غيتي)

وكانت العلاقة بين «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» والعشائر، في شمال شرقي سوريا، تشكلت على أساس المصالح المتبادلة، من حيث تقديم الدعم لهذه القوات مقابل تأمين مناطقهم، ومنع وصول تنظيم «داعش» إلى مناطقهم بعدما فَرَض سيطرته على أجزاء واسعة من غرب العراق وشرق سوريا، في يونيو (حزيران) 2014. إلا أن العلاقة شهدت تقلبات حادة؛ فانتقلت من مرحلة التنسيق المشترك بين «قسد» وعشائر البقارة وشمر وغيرهما وخوض الحرب ضد «داعش» بين عامي 2015 و2017، إلى احتجاجات صاخبة خلال عامي 2018 و2019 ضد التجنيد الإجباري للشبان والفتيات، وتهميش دور العشائر في الإدارة الذاتية والاستئثار بالموارد الطبيعية، كالنفط والمياه، والأهم رفض العشائر للتقارب مع نظام بشار الأسد الذي بدأت الإدارة الذاتية التفاوض معه بعد العملية العسكرية التركية «نبع السلام».

وشدد الفرج على أن توقيت البيان «لم يُفرض من الخارج، بل جاء بناء على رغبة أبناء العشائر في الداخل، الذين يطالبوننا علناً بالتحرك، وإنهاء حالة التهميش والخنق التي تُمارَس ضدهم منذ سنوات»، بحسب قوله، مشيراً إلى ما سماه «حالة غليان واضحة في الجزيرة السورية» لرفض «الوصاية الأجنبية والانفصال عن سوريا أو المحاصصة وضرورة التحاق جميع مكونات الشعب السوري بالدولة السورية الجديدة».

وحول الأسباب التي دعت العشائر لاصدار البيان، قال الفرج إن «ما يجري في شرق الفرات لا يمكن الاستمرار في تجاهله. صوت العشائر اليوم أصبح أعلى، وأكثر تنظيماً، وأكثر وعياً. نحن نمثل هذا الصوت، وسنستمر في نقل مطالب أهلنا إلى كل الأطراف الدولية والإقليمية، حتى تعود الجزيرة لأهلها، وينتهي زمن الوصاية». وذكر الشيخ بأن أبناء الجزيرة السورية يعانون منذ سنوات طويلة من «ممارسات قمعية متعددة» لقوات «قسد» تتعلق بالتهميش المتعمَّد لأبناء الجزيرة السورية تتراوح من فرض مناهج تعليمية «مؤدلجة» لا تعكس «ثقافة وهوية المنطقة»، وصولاً إلى فرض واقع أمني والاستيلاء على الثروات الزراعية والنفطية وتوظيف بعض إيراداتها «لشراء الولاءات»، في حين يعيش سكان المنطقة حالة من الفقر والعوز. هذا بالإضافة إلى قمع الحريات ومنع الاحتجاجات والاعتقالات التعسفية لكل مَن يعبّر عن رأي مخالف.

خيار التحرك العسكري

وأوضح الفرج أن هذه العشائر «تمثل خطاً مستقلاً»، يحمل مطالب واضحة من سكان في الجزيرة السورية التي وصفها بـ«المحتلة»، مشدداً على أنها «لا تعمل ضد أحد، بل تعمل من أجل إخراج قوات (قسد) الانفصالية من المنطقة، سواء عبر الحل السلمي أو بالتحرك العسكري بمساندة القبائل، إذا اقتضى الأمر». والتحرك العسكري، وفقاً للشيخ الفرج «ليس من أجل القتال بل من أجل استعادة الحق وضمان وجود عربي فاعل داخل الدولة السورية الواحدة بعيداً عن الوصاية أو الإقصاء».

من المواجهات المسلّحة بين مقاتلين من العشائر العربية و«قسد» و«حزب العمال الكردستاني» في منطقة منبج في الشمال السوري في سبتمبر 2023 (غيتي)

وبعكس الشائع، لا تقتصر قوات «قسد» على العنصر الكردي فحسب، وإن كانت تتشكل بشكل أساسي من «وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)»، ولكنها تضم أيضاً مكونات عربية وازنة مثل «قوات الصناديد» التابعة لقبيلة شمّر ذات العمق التاريخي والجغرافي، ومكونات سريانية، كالمجلس العسكري السرياني، وبعض الفصائل العربية الاخرى. وتحاول «قسد» دائماً تظهير تواصلها مع شيوخ ووجهاء القبائل في مناطق سيطرتها، ولكن هذا لا يعني ولاء مطلقاً من كل أفراد القبيلة.

وتُبرِز العلاقة بين «قسد» والعشائر شكلاً معقداً ومتداخلاً في التحالفات والولاءات بين القوى الفاعلة سواء النظام السوري السابق الذي أيَّدته بعض فروع عشائر البقارة والعقيدات وطي، أو الولايات المتحدة وقوات «قسد» التي حظيت بتأييد عشائر أخرى، مثل شمر وبعض فروع عشيرة البقارة. وعلى الرغم من أن الموقف العام لعشيرة العقيدات، خصوصاً قياداتها التقليدية، هو العداء لـ«قسد»، فإن هناك انقساماً داخل القبيلة نفسها. بعض فروع العقيدات أو أفراد منها يوالون «قسد»، وينخرطون في تشكيلاتها، مثل بعض قيادات «مجلس دير الزور العسكري»، حتى أزمة اعتقال «قسد» لرئيس المجلس، أحمد حامد الخبيل الملقب «أبو خولة» عام 2023، التي كتبت نهاية أي شكل من العلاقات بينهما.

وكشف الفرج عن جهوزية «شريحة كبيرة جداً من أبناء القبائل والعشائر للتحرُّك، وهم بانتظار اللحظة المناسبة سياسياً وأمنياً». وقال: «الموقف لم يعد قابلاً للتأويل (...) نحن كعشائر عربية نطالب (التحالف الدولي) بدور فعّال، ونرفض أن نكون مجرد تابعين لمشروع لا يمثلنا».

وحتى هذه اللحظة، لا يوجد تواصل مباشر بين العشائر وقيادة التحالف الدولي وفقاً للفرج، الذي قال إنهم «بانتظار موقف واضح (من الأميركيين)، بعدما وصلت إليهم رسائلنا عبر قنوات مدنية واجتماعية». وطالب الفرج التحالف بـ«إعادة تقييم دعمه لقوات «قسد» التي تمثل طرفاً انفصاليا لا يحظى بشرعية مجتمعية حقيقية، من شأنه أن يفاقم حالة الانقسام في المجتمع السوري، ويؤثر سلباً على وحدة الأراضي السورية وسيادة الدولة».

طابور من الأسرى ينتظر تسليمه بحلب في الجزء الأول من الاتفاق بين الحكومة السورية و«قسد» أبريل الماضي (خاص بالشرق الأوسط)

وفي أعقاب الاشتباكات التي اندلعت خريف عام 2023 بين قوات «قسد» وبعض العشائر العربية في دير الزور، وبعد تدخلات من جهات محلية ودولية (مثل التحالف الدولي)، قامت «قسد» بالإفراج عن دفعات من المعتقلين، في محاولة لتبريد الأجواء مع العشائر. وبعض هؤلاء اعتُقِلوا على خلفية الاشتباكات المسلحة، وبعضهم الآخر اعتقل بتهم الانتماء لـ«داعش» أو غيرها؛ إذ شنت «قسد» في ذلك الوقت حملة توقيفات ضد أبناء العشائر بتهمة جاهزة. وتمت هذه الإفراجات «بضمانات من شيوخ العشائر»، كجزء من جهود تهدئة الأوضاع. واستمرت عمليات الإفراج عن دفعات من المعتقلين لأشهر عديدة، آخرها كان في سبتمبر 2024. كما أن هناك اتفاقات بعد اتفاق العاشر من مارس (آذار) 2025، بين «قسد» والحكومة السورية الحالية تضمنت بند «تبييض السجون» وإطلاق سراح المعتقلين من الطرفين.

وفي أبريل (نيسان) 2025، تم تنفيذ المرحلة الأولى من عملية تبادل المعتقلين بين دمشق و«قسد» في حلب. وشملت هذه العملية إطلاق سراح نحو 250 معتقَلاً من الطرفين، حيث أفرجت السلطات السورية عن 140 معتقلاً من «قسد»، مقابل إفراج «قسد» عن نحو 100 معتقل، وهو اتفاق تعثَّر في مراحل لاحقة.

على الجانب الاخر، كشف الفرج أن هناك تواصلاً مع الدولة السورية، لا سيما أن أغلب قيادات الدولة الجديدة هم من أبناء هذه العشائر نفسها، ومن مناطق تخضع حالياً لسيطرة «قسد»، مبيناً أن «تواصلنا مع دمشق ليس على حساب أحد، بل لصالح استعادة السيادة وبناء شراكة وطنية تحفظ كرامة الجميع وتحافظ على وحدة سوريا»، وهذا سيكون أولاً من خلال عودة الجيش العربي السوري إلى كامل الأراضي السورية، من الشمال الشرقي حتى الجنوب والحدود، ضمن إطار وطني جامع، يشمل شراكة حقيقية مع العشائر والفاعليات الاجتماعية، لا مجرد حضور أمني أو إداري شكلي»، وفق ما قاله لـ«الشرق الأوسط».

ديوان لمقاتلي عشائر عربية في الجزيرة السورية إبان الاشتباكات مع «قسد» و«العمال الكردستاني» في 2023 (غيتي)

من جهته، قال شيخ «البو سرايا»، زياد الشلاش، أحد الموقّعين على البيان، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن عشيرته «على تواصل مستمر مع الحكومة السورية في سبيل توحيد الأراضي السورية ورفض أي شكل من أشكال التقسيمات المفروضة كأمر واقع». وتابع: «تواصل شخصياً مع السيد مظلوم عبدي، وهو رجل حريص على وحدة سوريا واستقرارها، ولذلك نرى أنه من الواجب دعم موقفه وتقويته». وأضاف الشلاش: «نحن لا نريد لأبناء العشائر العربية أن يكونوا وقوداً لمشاريع انفصالية، ولهذا دعوناهم للانشقاق. وفي الوقت نفسه، لا نريد لإخوتنا الكرد أن يُزج بهم في معارك لا تخدمهم، أو أن يكونوا حَطَباً لإرضاء مطامع بعض القوميين القادمين من خارج سوريا».

تغيير في الخطاب

كانت نخب اجتماعية من أبناء الجزيرة السورية والفرات أعلنت، منتصف أبريل (نيسان) الماضي، تأسيس «مجلس التعاون والتنسيق في الجزيرة السورية والفرات»، بهدف الدفاع عن مصالح أبناء الجزيرة. جاء الإعلان مع إصدار العشائر العربية بيانات ترفض وصاية «قسد» على منطقة الجزيرة السورية، بصفتها «قوة احتلال»، وبحسب بيان التأسيس الذي اطلعت عليه «الشرق الأوسط»، فإن المجلس يسعى لتوحيد الصوت السياسي والإعلامي والمدني في مواجهة «سلطات الأمر الواقع، المتمثلة بـ(قسد)»، ورفض مشاريع التقسيم التي تهدد وحدة سوريا. وكذلك رفض ادعاء تمثيل «قسد» لعرب الجزيرة والفرات في أي مفاوضات مع الحكومة السورية، أو في أي محفل سياسي داخلي وخارجي.

شباب جامعيون من أبناء دير الزور في حملة تنظيف وتلوين لجدران المدينة بعد سقوط نظام بشار الأسد (غيتي)

وتُشكّل محافظات دير الزور والرقة والحسكة، الواقعة في شرق وشمال شرقي سوريا، نسيجاً متنوعاً يعكس تاريخ المنطقة وثقافاتها المتعددة. يشكل العرب المكون السكاني الأكبر والأكثر هيمنة في هذه المحافظات، خصوصاً في دير الزور والرقة حيث تُعد العشائر العربية الكبيرة والممتدة، مثل العقيدات والبقّارة والشعيطات (التي قتلت منها داعش 800 شخص في مجزرة واحدة) والجبور، العمود الفقري للتركيبة السكانية. أما في الحسكة، فبينما يشكل العرب غالبية سكان الريف الجنوبي والغربي، تُعد القومية الكردية المكون الأكبر في مناطق الشمال والشمال الشرقي، حيث تتركز مدن، مثل القامشلي ورأس العين، وتمتلك وجوداً نسبياً في باقي المحافظة. إلى جانب المكونين العربي والكردي، توجد أقليات عرقية ودينية أخرى مهمة تساهم في ثراء التنوع السكاني. فـالسريان، وهم مسيحيون، يتركزون بشكل خاص في الحسكة، ولهم وجود تاريخي وثقافي عريق في المنطقة، ويمثلون الغالبية في بعض القرى والبلدات الخاصة بهم، مثل تل تمر. كما يوجد في هذه المحافظات عدد أقل من التركمان والشركس والأرمن، لا سيما في مدن، مثل الحسكة والقامشلي. لذلك فإن أي خيار سياسي- عسكري لا يراعي هذا التنوع ومصالحه مرشح للانفجار في اي لحظة.

وفي تغيُّر ملحوظ بالخطاب الإعلامي والرسمي، باتت مواقع إخبارية رسمية أو مقربة من الحكومة السورية تلقي الضوء على «انتهاكات» لقوات «قسد» ضد مدنيين في مناطق الجزيرة السورية على غير عادتها، كما أن مسؤولين سوريين باتوا أكثر وضوحاً في الحديث عن الموقف من قوات «قسد»، بعيداً عن الخطاب الإعلامي الرسمي الذي يركز على اتفاقية العاشر من مارس الموقَّعة بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات «قسد» مظلوم عبدي، ونشاطات اللجان المكلفة وضع تفاصيل الاتفاق قيد التنفيذ.

ففي 30 يونيو الماضي، أوضح محافظ دير الزور، غسان السيد أحمد، أن الخيار العسكري ضد «قسد» لا يزال مطروحاً على الطاولة كخيار أخير في حال فشلت جميع المساعي والجهود التفاوضية معها.

وأكد أن هناك استعداداً عسكرياً كاملاً، حيث تم تجهيز ثلاث فرق عسكرية متكاملة وجاهزة للتدخل حال تعثر المفاوضات، دون الكشف عن تفاصيل أخرى، مؤكداً على أن الوضع الأمني بوجود «قسد» يؤثر بشكل مباشر على عمل بعض المرافق الحيوية، مثل استمرار تعليق العمل بمطار دير الزور، نظراً لحاجة الطيران إلى «التحليق الجوي فوق المناطق التي تسيطر عليها»، وهو ما يتطلب ترتيبات أمنية وفنية خاصة، حسب قوله.

إلى جانب تسبب «قسد» في تعثر كبير بمشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية، وعلى رأسها الجسور الرئيسية التي تربط بين مناطق المحافظة المختلفة.

حلّ سلمي وتيارات متنازعة

ويرى رئيس وحدة الدراسات في مركز «أبعاد» للدراسات الاستراتيجية، ومقره لندن، الباحث السوري فراس فحام، أن الحشود العسكرية للجيش السوري هي بسبب «الانتهاكات اليومية لقوات (قسد) في منطقة شرق الفرات (منطقة الجزيرة)، وكذلك قيامهم بحالات القنص والمداهمات والاعتقالات العشوائية والاغتيالات بحق أبناء العشائر والقبائل العربية».

أحمد الحمزة السطم ناشط مدني اعتقلته «قسد» من منزله في حي المشلب بمدينة الرقة 20 مايو 2025 (الشبكة السورية)

وكانت «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» وثقت مقتل عشرة مدنيين على يد «قسد» في عام 2024، من بينهم طفلان تحت التعذيب. وفي فبراير (شباط) 2025، وثّقت الشبكة مقتل 65 مدنياً، بينهم طفل وسيدتان قُنِصوا على يد قوات «قسد» في مدينة حلب.

وتوقع «فحام» أن يتم تنفيذ الاتفاق بين الحكومة و«قوات (قسد) بعيداً من المواجهات العسكرية التي ستكون لها تداعيات سلبية على جميع الأطراف»، لكن هناك أكثر من تيار أو جناح داخل «قوات (قسد) يرفض بشكل قاطع الحل السياسي، لرغبتهم في الاحتفاظ بمنطقة الجزيرة السورية الغنية بالنفط والغاز والثروات الزراعية والمياه، وهي مناطق حيوية ضمن مشروعهم المحمي دولياً من التحالف الدولي، بذريعة محاربة إرهاب تنظيم (داعش) الذي أعطاهم شرعية البقاء وتلقي الدعم الدولي».

وحذر فحام من أن المنطقة عبارة عن «بركان خامل حالياً، ولكن لن يدوم خموله طويلاً، لذلك إذا لم يحصل اتفاق فستكون هناك مواجهات دامية قد تستدعي تدخُّل أطراف أجنبية، مثل الجيش التركي؛ سواء براً أو جواً، نظراً إلى أن أنقرة ترفض أي اتفاق يعطي لقوات (قسد) نوعاً من الإدارة الذاتية أو الفيدرالية».

نهاية التعايش القسري

على صعيد ذي صلة، يرى مضر حماد الأسعد، رئيس المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية، أن الخيارات المتاحة أمام «قسد» باتت ضيقة جداً، بعد ما صدر عن المبعوث الأميركي لسوريا توماس باراك الذي حدَّد فيها أن «الحكومة السورية هي الطرف الوحيد الذي يمكن التفاوض معه»، وقد تشهد المنطقة مستقبلاً عملية عسكرية للجيش السوري بضوء أخضر أميركي، وإن كان غير معلن، بالتنسيق مع تركيا. والرهان دائماً على أن أي معارك عسكرية ستؤدي إلى تحرك عشائري في مناطق سيطرة (قسد) والتسبب بانهيارها»، حسب قوله.

صورة جويّة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» بمشاركة «قوات التحالف الدولي» في دير الزور شمال شرقي سوريا في 2022 (غيتي)

وكشف الأسعد عن تيار أو جناح داخل قوات «قسد» يرتبط مباشرة بحزب العمال الكردستاني، يتبنى خيار المواجهة العسكرية مع الحكومة السورية لتكريس الأمر الواقع، مؤكداً على أن المطلوب من قوات «قسد» مرحلياً تسليم كامل محافظتي الرقة ودير الزور، والانكفاء إلى محافظة الحسكة، وبخلاف ذلك «قد» تشهد المنطقة مواجهات عسكرية «محدودة» كما يصفها في ختام حديثه لـ «الشرق الأوسط». ويُبرز البيان العشائري الأخير تصاعدا حادّا في رفض القبائل العربية لسيطرة «قسد» على مناطق شمال وشرق سوريا، كما يعكس تحولا نوعيّا في موقف العشائر من التعايش «القسري» طيلة سنوات الثورة إلى المطالبة العلنية بإنهاء الوجود العسكري والإداري لتلك القوات وفرض سلطة الدولة بالكامل.

ورغم تباين المواقف التاريخية بين العشائر، يبدو أن السخط المتصاعد على خلفية التهميش والاعتقالات وغيرها قد وحّد خطاباً عشائريّاً يطالب بعودة الجيش السوري. وتظل الخيارات معلقة بين التفاوض والمواجهة العسكرية، خصوصاً مع تصريحات رسمية سورية عن جاهزية القوات الحكومية. هذا التصعيد يضع التحالف الدولي في عملية موازنة حرجة بين دعم حليفه «قسد» المُتنازع على شرعيته محليّاً، وضغوط العشائر التي تُحذِّر من انفجار الوضع، وهو ما لا تريده واشنطن، وتعمل على تجنّبه.