«التعاون الخليجي» يستعد لدور استراتيجي أكبر

جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)
جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)
TT

«التعاون الخليجي» يستعد لدور استراتيجي أكبر

جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)
جانب من أعمال القمة الخليجية مع دول «الآسيان» برئاسة الأمير محمد بن سلمان في الرياض (واس)

كان مجلس التعاون، ودوله الأعضاء منفردةً، خلال عام 2023 في عين العاصفة وملء السمع والبصر، ومن المتوقع أن يستمر على هذا المنوال في عام 2024. وهو دور غير مألوف للمجلس الذي فضّل في الماضي أن يعمل في صمت، بعيداً عن الأضواء. بعض التغيير أتى من الخارج، إذ ارتفع سقف توقعات شركائه الدوليين والإقليميين حول قدرته على التحرك والتأثير، بعد تتالي عدد من الأحداث والفعاليات التي كان لدول المجلس -مجتمعة أو منفردة- دور ناجح ومؤثر فيها.

وبعض هذا التغيير كان وليد ديناميكياته الداخلية، حين استعاد المجلس تماسكه في قمة العُلا في عام 2021، متزامناً مع النمو الاقتصادي غير المسبوق منذ ذلك الحين، وكانت منطقة الخليج أسرع المناطق في العالم نمواً وتعافياً من جائحة «كورونا»؛ إذ تجاوز حجم الاقتصاد الخليجي تريليوني دولار، لأول مرة في تاريخه، في عام 2022، وتجاوز 2.3 تريليون في 2023، في حين استمرت معظم المناطق الأخرى في الركود الاقتصادي بعد الجائحة نتيجة الحرب في أوكرانيا، وهو ما مكّن دول المجلس من مضاعفة حضورها الاستراتيجي.

اجتماع وزاري خليجي في عمان نوفمبر الماضي (د.ب.أ)

خلال عام 2023 كان هذا الحضور واضحاً، بدءاً بتوجّه المجلس إلى شراكات جديدة، فبعد إعلان الشراكة الاستراتيجية بين دول المجلس والصين في أول قمة بين الجانبين، كان ثمة نشاط غير مسبوق في تعميق هذه الشراكة سياسياً وأمنياً واقتصادياً.

فلعبت بكين دوراً مهماً في الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران، حين وقعتا اتفاقاً لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بعد قطيعة استمرت سبع سنوات، أعقبها نشاط دبلوماسي حثيث، كانت الصين حاضرة ومؤثرة فيه، ومن المأمول أن يكون لهذا التقارب دور ملحوظ في عام 2024؛ إذ أشارت الدولتان إلى رغبتهما في ترجمة هذا الاتفاق إلى خطوات عملية نحو التهدئة، وتصفير ما يمكن من أزمات المنطقة.

وبالمثل يُتوقّع أن تخطو الشراكة الخليجية - الصينية خطوات واثقة في عام 2024، في إطار خطة العمل المشترك التي أقرها الجانبان للفترة المقبلة، سواء في المجالات التقليدية، مثل الاقتصاد والحوار السياسي، أو في مجالات جديدة، مثل الأمن النووي والاستخدامات السلمية للطاقة النووية.

التنوع الاستراتيجي

وفي سياق التنوع الاستراتيجي، عقد المجلس قمماً متعددة مع عدة مناطق من العالم، ففي شهر يوليو (تموز) استضافت جدة أول قمة بين مجلس التعاون وآسيا الوسطى، بمشاركة قادة دول المجلس الست ودول آسيا الوسطى الخمس (أوزبكستان، وتركمانستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وكازاخستان)، أعقبتها قمة تاريخية أخرى بين مجلس التعاون ودول رابطة جنوب شرقي آسيا (الآسيان) في الرياض.

وصحب إعلان الشراكات الاستراتيجية في هذه القمم الاتفاق على خطط مزمّنة للعمل المشترك في عدد من المجالات ذات الأولوية، مثل الحوار السياسي والأمني، والتعاون الاقتصادي، خصوصاً الاستثمار، وتعزيز الحوار الثقافي والسياحة. وفي نيويورك عقد وزراء خارجية دول المجلس اجتماعاً لتأسيس شراكة جديدة مع رابطة الدول الكاريبية، وهي منظمة تجمع 25 دولة من دول البحر الكاريبي، وتم الإعلان أيضاً عن خطة للعمل المشترك في الحوار السياسي وتعزيز الاستثمار والسياحة. وتلا هذا الاجتماع قمة في الرياض في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) مع منظمة إقليمية أخرى هي «المجموعة الكاريبية».

نشاطات 2024

ومن المقرر أن يشهد عام 2024 تعميقاً لهذه الشراكات الجديدة، والبدء في شراكات أخرى، في إطار تنويع التحالفات الاستراتيجية لدول المجلس. ورغم أهمية هذه الشراكات فإنه من الخطأ الاعتقاد بأنها سوف تكون بديلاً عن العلاقات التقليدية لدول المجلس مع الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبا وغيرها، التي ستظل شراكات مهمة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً.

ففي الوقت الذي دُشّنت فيه الشراكات الجديدة، استمرت دول المجلس في تعزيز علاقاتها التقليدية، فعقدت عدة اجتماعات مع الولايات المتحدة تناولت جوانب مختلفة من شراكتهما الاستراتيجية، بما في ذلك اجتماعان مع وزير الخارجية الأميركي في الرياض ونيويورك، واجتماعات خُصصت لمناقشة الأمن البحري والدفاع الصاروخي ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى التجارة والاستثمار وغيرها.

وبالمثل دار حوار معمق في موسكو مع وزير خارجية روسيا، تناول الحرب في أوكرانيا وأزمات المنطقة. ومن المتوقع أن يشهد عام 2024 تطورات مهمة في الشراكة مع الولايات المتحدة، واستكشاف نقاط التقاء مع الجانب الروسي في إطار الحوار الاستراتيجي الذي يدور بين الجانبين منذ عام 2011.

أما الاجتماع السنوي للمجلس الوزاري الخليجي - الأوروبي، فقد وضع الأسس لأول مرة لحوار أمني مع الاتحاد الأوروبي. وتعود هذه الشراكة الخليجية - الأوروبية إلى أكثر من 35 عاماً؛ لكنها في الماضي كانت تركز على القضايا الاقتصادية والفنية، مع تبادل وجهات النظر حول القضايا السياسية، دون الدخول في المواضيع العسكرية والأمنية.

ولذلك فمن المتوقع أن يشهد عام 2024 تطوراً ملحوظاً للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك مع الدول الأوروبية منفردة، خصوصاً في إطار الحفاظ على الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي.

التنوع في الشراكات

والحقيقة أن التنوع في الشراكات مؤشر على نضج النظرة الاستراتيجية، فمن الوهم اعتقاد أن الدخول في هذه الشراكات يعني التوافق التام في وجهات النظر مع الدول والمنظومات المعنيّة، حيث لا تتفق وجهات النظر دائماً حيال جميع القضايا، كما هو مشاهد الآن في تباين وجهات النظر مع الولايات المتحدة حيال الحرب في غزة. وبالمثل مع روسيا، حيث لا يتفق الجانبان على جوانب مهمة في عدد من القضايا، بما في ذلك أوكرانيا وسوريا وإيران.

ففي التعامل مع هذه الدول والمنظمات الفاعلة يجب أن نُدرك أن تباين وجهات النظر أحياناً هو القاعدة، والتوافق هو الاستثناء، وأن نعمل على احتواء الاختلافات، وتوسعة دائرة التوافق من خلال الحوار المستمر، وتطوير التعاون في المجالات المتفق عليها، دون أن نتوقع أن يحدث التوافق في جميع القضايا.

وهذا أحد أسرار تطور العلاقة مع جمهورية الصين الشعبية -مثلاً- التي يختلف نظامها السياسي والاقتصادي اختلافاً جذرياً عن النظم السياسية والاقتصادية في دول المجلس، وكان الجانبان يتخذان مواقف متعارضة في كثير من القضايا على المستوى الدولي والإقليمي. أما العلاقات الاقتصادية فلم تكن تُذكر؛ إذ كان حجم التجارة الإجمالي بين الصين ودول المجلس مجتمعة أقل من ثلاثة مليارات دولار منذ 30 عاماً.

الشريك الأول

أما اليوم فإن الصين هي الشريك التجاري الأول لدول المجلس، إذ يتجاوز حجم التجارة بين الجانبين 230 مليار دولار، أو نحو 77 مرة ما كان عليه قبل ثلاثة عقود. وتمثل التجارة مع الصين أكثر من 20 في المائة من حجم التجارة الإجمالي لدول المجلس، وتستورد الصين نحو 30 في المائة من نفطها من دول المجلس، ونحو 10 في المائة من وارداتها من الغاز الطبيعي.

وتشكل الصين مقصد أكثر من 25 في المائة من صادرات دول المجلس الكيميائية والبتروكيميائية. وتتنامى الاستثمارات الخليجية في الصين، والصينية في الخليج، بشكل متسارع، كما تشارك دول الخليج في «مبادرة الحزام والطريق» بشكل فعال، حيث تشكل منطقة الخليج جزءاً مهماً من طريق الحرير البحري. أما اتفاقية التجارة الحرة بين الجانبين فقد أشرفت على الانتهاء.

ودون شك، ساعدت هذه العلاقة الاقتصادية المتميزة على انتقال الجانبين الصيني والخليجي من مرحلة التوجس والحذر -إن لم يكن العداء في فترة من الفترات- إلى شراكة استراتيجية مبنية على الاحترام والثقة المتبادلة، تمتد الآن إلى السياسة والأمن، على الرغم من بقاء عدد من النقاط المهمة التي تتباين فيها وجهات النظر.

وبالإضافة إلى هذه الشراكات الاستراتيجية الجديدة والمتجددة، شهدت دول المجلس أحداثاً مهمة، ومن المتوقع أن تستمر هذه الدول في استضافة مثل هذه الأحداث خلال عام 2024.

استضافت جدة -على سبيل المثال- القمة العربية الثانية والثلاثين التي شهدت عودة سوريا إلى الجامعة العربية، بعد أن توصلت الدول العربية إلى اتفاق مع الحكومة السورية، بما في ذلك العمل بشكل حثيث للتوصل إلى حل سياسي، ومعالجة مشكلة تهريب المخدرات. وتظل «لجنة الاتصال العربية» بمشاركة المملكة العربية السعودية وعضوية عدد من الدول العربية عنصراً مهماً في السعي لعودة سوريا إلى وضعها الطبيعي ودورها العربي التاريخي.

السودان والأمل

وتستضيف جدة المحادثات بين الأطراف السودانية، بمشاركة الولايات المتحدة ومنظمات أفريقية، وتظل منصة جدة أهم مصدر للأمل لحل الأزمة في السودان.

أما قضية فلسطين، فقد كانت محور النشاط الدبلوماسي لدول مجلس التعاون، خصوصاً المملكة العربية السعودية، حتى قبل اندلاع حرب إسرائيل على غزة وبعدها، ومن المؤكد أن هذا الاهتمام سوف يستمر خلال عام 2024. فقد كانت القضية حاضرة بقوة خلال القمم والاجتماعات الوزارية كافة، التي أشرت إليها، وتمكنت دول المجلس من الحصول على دعم ملموس للحق الفلسطيني، بما في ذلك من كثير من حلفاء إسرائيل الذين وافقوا على أن الحل لهذه القضية يتمثل في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.

في شهر سبتمبر (أيلول)، أطلقت المملكة العربية السعودية من نيويورك، خلال افتتاح الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، مبادرة لإحياء جهود السلام لحل القضية الفلسطينية، بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والأردن ومصر.

وبعد اندلاع الحرب، دعت سلطنة عمان إلى اجتماع طارئ لوزراء خارجية دول مجلس التعاون عُقد بمسقط في شهر أكتوبر (تشرين الأول) لوضع الخطوط العريضة لسياسة المجلس تجاه هذه الأزمة، ثم دعت المملكة العربية السعودية إلى قمة عربية - إسلامية طارئة، عُقدت بالرياض في نوفمبر، وصدر عنها توافق عربي - إسلامي، وشكلت لجنة وزارية برئاسة وزير الخارجية السعودي، بهدف بلورة تحرك دولي لوقف الحرب على غزة، والضغط من أجل إطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية لتحقيق السلام الدائم والشامل، وفق المرجعيات الدولية المعتمدة، وفقاً للبيان الختامي لهذه القمة، وربما كانت أعمال هذه اللجنة أهم جهود تُبذل في هذا المجال منذ سنوات.

وعلى الرغم من معارضة إسرائيل الشرسة لأي تحرك دولي لحل القضية الفلسطينية، فإن معظم دول العالم -بما في ذلك حلفاء إسرائيل وشركاؤها التقليديون- صوتت لتأييد الحق الفلسطيني، ولم يبقَ مع إسرائيل والولايات المتحدة سوى دويلات تُعد على أصابع اليد الواحدة. ويُلاحظ أن الولايات المتحدة تلعب دوراً مزدوجاً، فهي تؤيد إسرائيل تأييداً شبه مطلق في الحرب على غزة؛ لكنها مع التوافق الدولي بشأن حل الدولتين على حدود 1967.

من المتوقع أن تستمر جهود المملكة العربية السعودية خلال عام 2024، مدعومة من قبل دول المجلس الأخرى، في جهودها لإنهاء الحرب في غزة، وإحياء عملية السلام لدعم الحق الفلسطيني المشروع في دولته المستقلة.

بالإضافة إلى دورها في السياسة والحفاظ على الأمن الإقليمي، من المتوقع أن تستمر منظومة مجلس التعاون في لعب دور محوري خلال عام 2024 في الاقتصاد والثقافة والرياضة، وأن تترسخ شراكاتها العربية والإقليمية والدولية خلال العام المقبل. فعلى سبيل المثال، خلال السنوات المقبلة تستعد المنطقة لاستضافة كثير من الأحداث المهمة، بما في ذلك استضافة الرياض لمعرض «إكسبو 2030» وكأس العالم 2034، كما استضافت دبي «إكسبو 2020» والدوحة كأس العالم في 2022.

وتُظهر آلية التنافس هذا العام على «إكسبو» وكأس العالم مؤشراً مهماً على الاعتراف بالدور المحوري للمملكة، ولدول مجلس التعاون بشكل عام. فقد انسحب المنافسون المحتملون لاستضافة كأس العالم، وظلت المملكة المرشح الوحيد.

أما في منافسات «إكسبو 2030»، فقد صوتت 119 دولة لصالح السعودية، مقابل 29 صوتاً لصالح كوريا و17 صوتاً لصالح إيطاليا، وهي نتيجة مذهلة وغير مسبوقة، خصوصاً حين نأخذ بعين الاعتبار الوزن الاقتصادي والسياسي للدولتين المنافستين، والجهود الكبيرة التي بُذلت في الترويج لترشيحهما.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

TT

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)
عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)

في الثالث عشر من يوليو (تموز) الحالي، وفي تمام الساعة السادسة والربع مساء بتوقيت واشنطن، تردد طنين الأخبار العاجلة في كل أرجاء البلاد، والعالم: الرئيس السابق دونالد ترمب أُصيب بإطلاق نار في حدث انتخابي في بنسلفانيا.

ترمب المدمَّى الوجه، وقف مُحكماً قبضته أمام الكاميرات، ومشى بثبات برفقة أعضاء الخدمة السرية المسؤولين عن حمايته، فاستقلَّ سيارته متوجهاً إلى مستشفى محلي لتلقي العلاج.

لحظات صدمت الشارعين الأميركي والدولي. فمحاولة اغتيال رئيس أميركي سابق هي لحظة مخيفة، وتاريخية في الولايات المتحدة، تعيد إلى الأذهان مشاهد اغتيال رؤساء سابقين كجون كينيدي وأبراهام لينكولن، ومحاولة اغتيال رونالد ريغان، الرئيس الجمهوري السابق، وتعد تكراراً لسوابق خطيرة من الإخفاقات الأمنية لعناصر الخدمة السرية كادت تودي في هذه الحالة بحياة رئيس سابق ومرشح رئاسي.

فشل أمني «ذريع»

بمجرد اتضاح الصورة بعد مغادرة ترمب ساحة الجريمة، صُعق الجميع لدى رؤية ما جرى: منفّذ الاعتداء، الأميركي البالغ من العمر 20 عاماً ماثيو كروكس، متسللاً بوضوح فوق سطح أحد المباني القريبة من موقع الخطاب، وبيده بندقية «آر 15».

دونالد ترامب مغادراً المنصّة بعد انتهاء مؤتمر الحزب الجمهوري في ملوواكي (أ ف ب)

كروكس تمكن من الاقتراب بشكل مثير للعجب من ترمب الموجود على مسافة 140 متراً منه، وإطلاق النار قبل قنصه من أحد عناصر الخدمة السرية، فيما وُصف بأكبر خرق أمني منذ محاولة اغتيال ريغان.

ويتحدث مارك هيريرا رقيب الشرطة السابق ومدير الأمن المسؤول عن المنشآت التجارية التابعة لوزارة الأمن القومي عن الإخفاقات الأمنية المحيطة بالحادثة، فيقول في حديث مع «الشرق الأوسط» إن أحد أسباب القلق الأساسية هي المحيط الأمني. وأوضح: «لقد تمكن مطلق النار من الوصول إلى موقع مشرف على الحدث، مما يدل على تقصير شديد في حماية المحيط بشكل فعّال».

ويؤكد هيريرا أهمية توسيع المناطق المحمية قدر المستطاع خصوصاً في المناطق المرتفعة التي توفر «موقعاً استراتيجياً»، ويقول محذراً: «مواقع من هذا النوع تسمح لطلقات البندقية بإصابة أهدافها بدقة مدمرة»، على غرار ما حصل في عملية اغتيال الرئيس الـ35 جون كينيدي الذي قضى بعد إصابته بطلقات نارية وهو في سيارته إلى جانب زوجته جاكلين في ولاية تكساس في عام 1963».

عناصر من جهاز الخدمة السرية يحيطون المرشح الجمهوري دونالد ترامب وهو يدخل سيارته بعد تعرضه لمحاولة اغتيال (أ ب)

العميلة السابقة في مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) كاثرين شوايت، تلفت إلى وجود «ثغرات» محتملة في خطة عناصر الخدمة السرية لحماية ترمب، وتفسر قائلة في حديث مع «الشرق الأوسط»: «سيتم النظر على وجه التحديد فيما إذا كان المحيط الأمني للمكان ضيقاً بما سمح لمطلق النار من الاقتراب. كما سيتم تقييم التقارير عن رؤيته قبل إطلاق النار لتحديد ما إذا كانت هناك فرصة ضائعة للتدخل قبل ذلك». وذلك في إشارة إلى شهادات شهود عيان في موقع الحادثة قالوا إنهم نبهوا العناصر الأمنية إلى وجود مسلح على سطح المبنى قبل إطلاق النار بدقائق، كهذا الشاهد الذي قال لشبكة (بي بي سي) إنه رأى المسلح قبل أن يطلق النار: «كنت أفكر، لماذا لا يزال ترمب يتكلم؟ لماذا لم يسحبوه من المنصة؟ ثم سمعنا 5 رصاصات...».

ويسلّط هيريرا الضوء على مشكلة أخرى وهي ردة فعل عناصر الخدمة السرية بعد إصابة ترمب، فيرى أن إخراجه من موقع الحادثة كان غير منظم «مما أدى إلى تعريضه للخطر في 3 مناسبات منفصلة»، ويشدد على ضرورة أن يكون الرد على هذه التهديدات سريعاً وحاسماً لضمان سلامة الرئيس، وهو ما لم يظهر في الرد على هذه الحادثة، على حد تعبيره.

تحقيقات واتهامات

على ضوء هذه المعطيات، تواجه الخدمة السرية ومديرتها كيمبرلي تشيتل، المرأة الثانية التي تتسلم هذا المنصب في التاريخ الأميركي، انتقادات حادة بسبب هذه الإخفاقات الأمنية، وصلت إلى حد فتح تحقيقات تشريعية بهذا الخصوص، واستدعاء تشيتل للإدلاء بإفادتها أمام الكونغرس في مواجهة دعوات لاستقالتها. ويقول النائب الجمهوري جايمس كومر، رئيس لجنة المراقبة والإصلاح الحكومي، الذي استدعى تشيتل: «هناك كثير من الأسئلة يطالب الشعب الأميركي بالحصول على أجوبة عنها».

ولا تقتصر هذه الدعوات على الجمهوريين فحسب، بل تتخطاها لتشمل الديمقراطيين على رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أوصى بفتح تحقيق مستقل بشأن الأمن القومي لتقييم ما جرى متعهداً بـ«مشاركة نتائج التحقيق مع الشعب الأميركي».

شرطيان أميركيان يقفان أمام منل توماس ماثيو كروكس المتهم بالتورط في محاولة اغتيال ترامب (رويترز)

وبانتظار هذه التحقيقات المتفرقة، فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) تحقيقه الخاص في عملية الاغتيال، وهذا ما ذكرته شوايت، مشيرةً إلى أن «إف بي آي»، التابع لوزارة العدل، والخدمة السرية، التابعة لوزارة الأمن القومي «سيعملان معاً مع وكالات فيدرالية أخرى للغوص في تفاصيل ما جرى وتشخيص نقاط الضعف». وأضافت: «هذا يتضمن مراجعة الخطط وإجراء مقابلات مع عناصر الأمن وقوات الأمن المحلية».

وتفسر شوايت، التي شمل عملها التنسيق مع الشرطة المحلية للتحقيق في حوادث إطلاق النار والرد عليها، مهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي المسؤول عن الحوادث الداخلية في الولايات المتحدة، فتقول: «يعمل عناصر (إف بي آي) مع الخدمة السرية بشكل متواصل لمشاركة الاستخبارات حول التهديدات المحدقة بالأشخاص الذين يتطلبون الحماية، ويشارك المكتب بالتعاون مع عناصر الشرطة المحلية بالتخطيط للأحداث العامة»، لكنها تستطرد مشيرةً إلى أن «إف بي آي» هي الوكالة الوحيدة المسؤولة عن التحقيق في كل مرة يحصل فيها اعتداء على مسؤول فيدرالي، وتعطي مثالاً على ذلك بالتحقيقات في محاولات اغتيال الرئيسين السابقين رونالد ريغان وجيرالد فورد قائلة: «(إف بي آي) تجمع الأدلة وتحللها وعناصرها سيجرون مقابلات مع الحاضرين لوضع جدول زمني وصورة كاملة لمن كان متورطاً في الاعتداء. وفي حال اتضحت ضرورة توجيه تهم جنائية يطلب المكتب من وزارة العدل النظر في توجيه هذه التهم».

توصيات

وبانتظار هذه التحقيقات، تُجري الخدمة السرية تحقيقاتها الخاصة حول الثغرات الأمنية المحتملة، والإصلاحات التي يجب أن تُفرض للحؤول دون تكرار حوادث من هذا النوع. ويقول فيريرا إنه من الضروري جداً تعزيز تدريبات القوى الأمنية في الخدمة السرية المسؤولة عن حماية شخصيات بارزة، معتبراً أنه كان من الواضح من خلال رد فعل العناصر الموجودين حول ترمب أن بعضهم يفتقر للتدريب الكافي. ويفسر ذلك قائلاً: «لقد رأينا فريق الخدمة السرية يتردد عدة مرات ويعرّض الهدف (ترمب) للخطر. يجب تحديد الأدوار والمسؤوليات بوضوح لكل عضو في الفريق. هذا يخفف من التردد ويضمن اطّلاع الجميع على مهامهم المحددة في حال الطوارئ». ويضيف فيريرا، المسؤول عن تأمين الحماية الأمنية لمنشآت وزارة الأمن القومي التجارية: «يجب أن تمر الفرق بتمارين مكثفة، مما يعني إجراء تدريبات منتظمة وواقعية تحاكي مجموعة متنوعة من التهديدات المحتملة لضمان سرعة التصرف. كما يجب التركيز بشكل أساسي على التدريب في أجواء ضاغطة لمساعدة العناصر على الحفاظ على رباطة جأشهم واتخاذ قرارات سريعة تحت الضغط».

إخفاقات سابقة

تكرَّر على لسان الكثيرين مقارنة بين حادثة إطلاق النار على ريغان في العاصمة الأميركية واشنطن في عام 1981 التي أُصيب خلالها بجروح أدت إلى مكوثه في المستشفى لمدة 12 يوماً، وحادثة إطلاق النار على ترمب من حيث الإخفاقات الأمنية. وهذا ما قاله النائب الديمقراطي روبن غاليغو، الذي تحدث عن «أكبر فشل أمني على أعلى المستويات منذ محاولة اغتيال الرئيس ريغان».

يتفق عنصر الخدمة السرية المتقاعد تيم مكارثي مع توصيف ما جرى بـ«الفشل الأمني»، ويقول مكارثي الذي كان ضمن العناصر المكلفين بحماية ريغان، وأُصيب بطلقة نارية في صدره جراء محاولة الاغتيال: «عندما يُصاب شخص تحت حماية الخدمة السرية، فهذا يعد فشلاً لأن هذا يجب ألا يحصل». ويتابع مكارثي في مقابلة مع شبكة (إن بي سي): «قد يكون الأمر فشلاً فردياً أو من نوع آخر، لكنه فشل من دون أدنى شك. إن محاولة اغتيال ريغان كانت فشلاً أمنياً لأنه أُصيب بجراح. وما جرى مع ترمب هو فشل أمني ويجب أن ننظر إلى أسبابه».

وهذا ما تعهد به النائب غاليغو الذي قال في رسالة إلى مديرة الخدمة السرية: «لا يمكن تكرار ما جرى، وأنا أطالب بتحمل المسؤولية».

وهي ليست المرة الأولى التي تواجه فيها تشيتل انتقادات من هذا النوع، فقد سبق أن تعرضت لموجة من الانتقادات جراء أحداث اقتحام الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وذلك بعد أن أصدر تحقيق فيدرالي تقريراً قال فيه إن الوكالة محت رسائل هاتفية لعناصرها خلال الأحداث، كان من الممكن لها أن تسلّط الضوء على الإخفاقات الأمنية في ذلك اليوم. وبررت الخدمة السرية سبب محو الرسائل بـ«تغيير في تقنيات النظام الهاتفي» في الوكالة.

وواجهت الوكالة انتقادات متكررة كذلك بعد دخول متسلل إلى منزل مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، الذي يتمتع بحماية عناصر الخدمة السرية في عام 2023.

وفي 2021 تأخر عناصر الوكالة 90 دقيقة في إجلاء نائبة الرئيس كامالا هاريس من موقع وجود قنبلة خارج اللجنة الوطنية الديمقراطية.

أما في عام 2014 فقد تمكن متسلل من القفز فوق سور البيت الأبيض والدخول من الباب الأمامي قبل إلقاء القبض عليه في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.

ناهيك بفضيحة دعارة في كولومبيا في عام 2012 على هامش قمة الأميركيتين شملت أكثر من 20 امرأة في فندق في «كارتاخينا» تورط فيها عناصر من الوكالة ولطخت سمعتها.

ما «الخدمة السرية»؟

لم تكن مهمة الوكالة حماية المسؤولين في بداية عهدها، فقد أسَّسها الرئيس السابق أبراهام لينكولن في الخامس من يوليو (تموز) 1865 للتصدي لتزوير العملة، وكانت حينها تحت سلطة وزارة الخزانة.

بعد اغتيال الرئيس السابق ويليام كينلي، عام 1901 وجّه الكونغرس الوكالة إلى توفير الحماية للرؤساء لتصبح الوكالة الاستخباراتية الأولى الداخلية في الولايات المتحدة، قبل أن يتم تجيير مهمة جمع الاستخبارات الداخلية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي لدى تأسيسه في عام 1908.

وبينما اقتصرت مهمة تأمين الحماية على الرؤساء فقط في بداية الأمر، عاد الكونغرس وطلب توسيع نطاقها بعد اغتيال السيناتور السابق والمرشح الديمقراطي للرئاسة روبرت ف. كينيدي في عام 1968 لتشمل عائلات الرؤساء والمرشحين للرئاسة ونوابهم.

في عام 2003 نُقل الإشراف على الوكالة من وزارة الخزانة إلى وزارة الأمن القومي، وهي تتضمن 8300 عنصر، وتصل موازنتها السنوية إلى 3.2 مليار دولار.

أسماء مشفرة

يستعمل عناصر الخدمة السرية أسماء مشفرة للرؤساء وعائلاتهم والمسؤولين الأجانب والمقرات الفيدرالية الأميركية لدى التواصل فيما بينهم. وقد بدأت هذه السياسة لأسباب أمنية قبل تشفير التواصل الإلكتروني، لتصبح اليوم تقليداً معتمداً لدى الوكالة، وهنا بعض الأسماء المعتمدة:

باراك أوباما: رينيغايد، أو المتمرد.

دونالد ترمب: موغل، أي القطب أو الشخص المهم.

جو بايدن: سيلتيك، أي الشخص من أصول أوروبية – آيرلندية.

البيت الأبيض: القصر.

الكونغرس: بانشبول، أو وعاء العصير.

البنتاغون: كاليكو، في إشارة إلى شكله الخماسي.

وزارة الخارجية: بيردز، أي أو عين الطائر.

الموكب الرئاسي: بامبو.