هل أزفت ساعة نهاية «البحبوحة» الأوروبية؟

الغضب الشعبي يتراكم على امتداد القارة على وقع الأوضاع الاقتصادية المتردية

TT

هل أزفت ساعة نهاية «البحبوحة» الأوروبية؟


حرق سيارات في أحد شوارع باريس يونيو الماضي (أ.ب)
حرق سيارات في أحد شوارع باريس يونيو الماضي (أ.ب)

منذ عقود والعالم ينظر إلى بلدان الاتحاد الأوروبي كواحة رخاء وأمان واستقرار، وكمصدر لفرص عمل كريمة وبناء مستقبل افضل في منأى عن الحروب والاضطرابات والأزمات المتوطنة التي أغرقت مواطني غالبية الدول النامية في حال من اليأس وانسداد الأفق؛ ما دفع بكثيرين منهم إلى ركوب كل المخاطر للوصول إلى الأرض الأوروبية الموعودة. لكن منذ سنوات، ثمة عواصف تعتمل في سماء المشهد الأوروبي وتعكّر صفاء البحيرة التي بدأت تتقاطع في مياهها تيارات الغضب والقلق التي ولّدها تعاقب الأزمات الاقتصادية والتغييرات الهيكلية التي باتت تهدد نظام الرفاه الذي يشكّل إحدى الركائز الأساسية للمشروع الأوروبي. بعد شتاء حافل بالاحتجاجات الحاشدة في المملكة المتحدة، والنمسا، وألمانيا والجمهورية التشيكية، شهدت أوروبا ربيعاً غاضباً، خاصة فرنسا التي ترفض القبول بأن ساعة «نهاية البحبوحة» قد أزفت، حسب تعبير إيمانويل ماكرون، في حين تشعر غالبية الأوروبيين بأن ركائز دولة الرفاه تتقوّض بسرعة، وتتدهور خدمات أساسية مثل الصحة والتعليم الرسمي، في الوقت الذي أصبح المسكن ترفاً، والطبقة الوسطى على شفا الانهيار. كل ذلك تسبب في إضرابات عامة لم تشهدها أوروبا منذ سنوات كثيرة، كتلك التي عاشتها المملكة المتحدة أو الإضراب الذي شلّ قطاع النقل في ألمانيا مطلع الربيع الفائت، أو الاحتجاجات الحاشدة في عدد من المدن البرتغالية ضد ارتفاع تكاليف الإسكان، وعشرات المظاهرات ضد التضخم الجامح في معظم الدول الأوروبية.

ساحات حرب

مطلع الربيع الفائت تحولت شوارع باريس إلى ساحات حرب متنقلة بين قوات الأمن والمتظاهرين احتجاجاً على مشروع الرئيس إيمانويل ماكرون لتعديل نظام التقاعد الذي يشكّل أحد أعمدة دولة الرفاه بالنسبة للفرنسيين. وترافد في تلك الاحتجاجات أنصار الأحزاب المعارضة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تعبيراً أيضاً عن السخط المتفشي في أوساط المجتمع الفرنسي الذي تتراكم عليه الازمات منذ سنوات، وانضمّت إليهم عناصر احترفت ركوب هذه الفرص لممارسة العنف ضد الممتلكات العامة ورموز الدولة.

إنه السخط المتنامي نفسه الذي أضرم نار الإضرابات في المملكة المتحدة والبرتغال وألمانيا واليونان. تختلف الشرارات التي تطلقه باختلاف البلدان، لكن سببه الأساسي واحد، هو السأم من حياة ترتفع تكاليفها وتزداد تعقيداً.

تكلفة المعيشة هي اليوم الهاجس الرئيسي الذي يقضّ مضاجع غالبية الأوروبيين الذين يراقبون بعجز وإحباط منذ سنوات كيف تتضاءل قدرتهم الشرائية أمام الارتفاع المطرد في الأسعار بسبب تداعيات الثورة الرقمية والتحوّل نحو الاقتصاد البيئي وازدياد عدد المسنين، ومؤخراً الحرب الدائرة في أوكرانيا وما نجم عنها من مضاعفات في سوق الطاقة والسلع الغذائية. في هذا السياق، كان لا بد من التساؤل: هل إن ما شهدته فرنسا، ولا تزال، هو نذير لما ينتظر البلدان الأوروبية الأخرى؟

محركات الموسم الاحتجاجي

الموسم الاحتجاجي الذي يجتاح أوروبا منذ أشهر وتتصاعد وتيرة العنف الذي يرافقه، ليست محركاته مقصورة على الأزمات الاقتصادية وما تولّده من صعوبة العيش لنسبة متزايدة من السكان، بل هو أيضاً نتيجة حتمية لسنوات من الاستياء المتراكم والاغتراب الذاتي، خاصة عند الشباب المتحدرين من أصول غير أوروبية كما هو الحال في فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا، حيث أخفقت سياسات الاندماج في معالجة أزمة الانتماء والهوية التي يعانون منها. يضاف إلى ذلك، أن الغضب الشعبي الذي يعبر الحدود الآيديولوجية هو فرصة ذهبية لا تفوّتها الأحزاب المتطرفة، على يمين المشهد السياسي ويساره، لتوسيع دائرة نفوذها، ولا النقابات التي انحسرت قواعد مؤيديها في العقود المنصرمة.

تحرك احتجاجي في ألمانيا يوليو الماضي (أ.ف.ب)

إلى جانب كل ذلك، يتميّز جيل القرن الواحد والعشرين بنزعة انفرادية حادة، تجعله ينأى عن الانخراط في الجمعيات والتنظيمات الحزبية والنقابية حيث يتم اتخاذ القرارات بالتوافق، ويجنح بالتالي إلى عدّ كل نزاع أزمة هوية تستهدفه شخصياً ولا يتردد في الانفجار من غير مراعاة لتباين الأدوار والمهام في المجتمع، ويرفض استيعاب فكرة أنه من المستحيل أن يعيش مثلما عاش جيل آبائه.

الغضب الشعبي يتراكم على امتداد القارة الأوروبية، وهو إلى ازدياد على وقع الأوضاع الاقتصادية المتردية، وينتظر من يستغلّه عند أول شرارة احتجاجية. وفرنسا هي اليوم المرآة التي تنعكس على صفحتها الأزمة الاجتماعية المتنامية في أوروبا. أزمة الصراع بين التكنوقراط والذين خسروا معركة العولمة ويطالبون بعالم لم يعد موجوداً، ويقعون في قبضة الأحزاب الشعبوية المتطرفة.

فرنسا... «بلد الاحتجاجات»

ولا ننسى أنه إذا كانت فرنسا «بلد الاحتجاجات» بامتياز، فهي أيضاً نموذج سياسي بالنسبة للكثير من الأوروبيين، ومشكلاتها هي نفسها التي تعانيها اليوم معظم الدول الأوروبية التي يترقّب مواطنوها أدنى شرارة للاندفاع في مسيرات الغضب والاحتجاج التي يكثر الذين يصطادون في مياهها. ومن نافل القول تأكيد أن الحراك الاجتماعي حصل دوماً بغض النظر عن الجهة الحاكمة في فرنسا أكانت من اليمين أم اليسار؛ ما يعني أن الداء لا لون سياسياً له، بل هو كامن ومتجذر.

ويقول فرنسوا دوبيه، أستاذ العلوم السوسيولوجية في جامعة بوردو (جنوب غرب فرنسا): إنه منذ أحداث الشغب في ضواحي مدينة ليون «شهدنا عشرات عدة» من أنواع الحراك كافة. والخيط الجامع بينها «أن ساكني الضواحي والأحياء الشعبية يشعرون بالتهميش إن بسبب أصولهم أو ثقافاتهم أو دياناتهم». والثابت أيضاً، أن الجمعيات والحركات الاجتماعية المنبثقة عنهم وكذلك الأحزاب «لم تنجح في ترجمة النقمة والغضب إلى مطالب واضحة أو أن تفضي إلى مسار سياسي» بحيث إن الشعور العام هو الفراغ. وحدها أحداث «غينغيت» أفضت إلى شيء سياسي هو «المسيرة من أجل المساواة ورفض العنصرية» التي انطلقت من لوين ووصلت إلى باريس وكان لها وقع كبير على المجتمع.

ويلحظ الباحث الأكاديمي وجود «نمطية» محددة في تسلسل الأحداث التي تنطلق بعد سقوط جريح أو قتيل من هذه الضواحي أو الأحياء على أيدي رجال الأمن ما يثير حنقاً وحالة هياج تترجم فورياً بأعمال عنف تستهدف الإنشاءات العامة والمدارس والبلدية والمراكز الاجتماعية، ويتطور العنف إلى اشتباكات مع رجال الأمن وعمليات كرّ وفرّ، ثم يعقبها استهداف المحال التجارية وبعض السرقات. وينتج منها توقيف المئات من المتظاهرين ومن المشاغبين وتتبعها المحاكمات... وهكذا دواليك. أما ردود الفعل العامة فتنقسم تقليدياً، وفق الباحث، بين التنديد بعنف رجال الأمن وأجواء العنصرية المسيطرة بما فيها التعامل التمييزي مع شباب الضواحي الذين يقوى لديهم الشعور بالاستهداف معطوفاً على الفقر والبطالة والشعور بالتهميش. وبالمقابل، ثمة من يدين تكاثر الحضور الأجنبي والهجرات والتهديد الذي يلحق بتركيبة المجتمع وثقافته وعدم التلاؤم بين ثقافة المنشأ والثقافة الفرنسية وصعوبة الاندماج بما يحمله من تغيير في البنية المجتمعية وتهديد للهوية الفرنسية والسير نحو «أسلمة» البلاد وتحقق نظرية «الإحلال»، أي أن تأخذ موجات الهجرات القادمة من أفريقيا ومن بلدان المغرب مكان الفرنسيين. ويذهب كثيرون لإدانة تصرفات سكان الضواحي والأحياء الفقيرة المتسمة بـ«التوحش»، لا، بل إن الرئيس ماكرون لم يتردد سابقاً في التنديد بما سماه «الانفصالية الإسلاموية»، أي تبني ثقافات وتصرفات منقطعة عما هو فرنسي الطابع، في حين يتحدث آخرون عن مساحات خارجة عن الدولة الفرنسية، حيث لا تدخلها القوى الأمنية وتخضع عملياً لمهربي وتجار المخدرات. وما بين الطرفين، تجد الحكومات المتعاقبة نفسها عاجزة أكانت من اليمين أم اليسار.

أخطاء سنوات البحبوحة

حقيقة الأمر، كما يرى كثير من الباحثين، أن ما يحصل من «ثورات» اجتماعية منذ عقود عدة ليس سوى نتيجة تراكمات وأخطاء ارتكبت سابقاً. ومن بين الأخطاء، أن سنوات البحبوحة دفعت الشركات الفرنسية والأوروبية بشكل عام إلى استجلاب اليد العاملة رخيصة التكلفة وبأعداد كبيرة للعمل في المصانع والمزارع وملء فراغات المهن الصعبة أو التي يرفضها الفرنسي، وذلك زمن القفزة الاقتصادية ووضعتها في مجمعات في ضواحي المدن. وقد تحولت لاحقاً إلى «غيتوات» بطابع أجنبي يغلب عليها الفقر والجهل والبطالة وتجارة المخدرات والعنف والتهميش. وتبين الإحصائيات الحالية، أن نسبة البطالة في الضواحي والأحياء الشعبية تصل إلى 18 في المائة بينما معدلها العام لا يزيد على 7 في المائة.

حقائق

18% نسبة البطالة

في الأحياء الفقيرة في فرنسا

ويبلغ عدد هذه الأحياء التي تصنفها الحكومة بأن لها «الأولوية» في عملية الإنماء 1514 حياً. ومن الناحية السكانية، ثمة 22 في المائة من سكانها من الأجانب. واللافت، أن نسبة البطالة فيها للشباب دون سن الثلاثين تصل إلى 30.4 في المائة. ومن الناحية الجغرافية، تتوزع الضواحي الساخنة على جوار المدن الكبرى (باريس، وليون، ومرسيليا، وليل غرونوبل). والثابت، أنه إذا كانت سنوات البحبوحة لم تعرف «حراكاً» مطلبياً من هذه الضواحي فلأن المهاجرين الذين جيء بهم من الخارج كانوا في غالبيتهم من الأميين وهمّهم الوحيد كسب لقمة العيش ليس إلا وكانوا إما لا يشعرون بالمعاملة التمييزية أو أنهم كانوا يقبلونها. لذا؛ فإن الحراك بدأ مع الجيل الثاني وتوسع مع الجيل الثالث وكلاهما أكثر إحساساً بالتهميش والمعاملة التمييزية من آبائهم.

وخلال الأيام الماضية، كثرت الشهادات التي تبين أن العنصرية متفشية لدى الكثير من أفراد الشرطة الفرنسية. ويعيد الباحث إيمانويل بلانشار ذلك إلى التاريخ الاستعماري لفرنسا والرؤية الدونية لمن كانوا مستعمرين، ودليله على ذلك ما حصل مع الجزائريين والقمع الذي تعرّضوا له وعلى سبيل المثال ما حصل للمتظاهرين منهم يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) 1961، حيث تعرّضوا للقمع الشديد وسقط منهم الكثير من القتلى. ومما هو معروف أن كثيرين فضّلوا أن يرموا أنفسهم في نهر السين بدلاً من أن يقعوا بأيدي الشرطة. ودلّت تصريحات وبيانات صادرة عن نقابات الشرطة في الأيام الأخيرة على عنصرية كامنة، عادّة أن أفرادها في «حالة حرب مع مفسدين».

ليس من العدل بمكان رمي المسؤولية على جهة واحدة أكانت الدولة أم أجهزتها وتناسي مسؤولية الطرف الآخر. ورغم ما سبق، يمكن تأكيد أن أفضل حماية للمواطن أو للمهاجر في فرنسا أو في غيرها من الديمقراطيات عنوانها احترام القوانين، ومنها قوانين السير. وليس سراً أن نسبة الأجانب في السجون الفرنسية مرتفعة قياساً لنسبتهم السكانية داخل المجتمع الفرنسي. وتبين إحصائيات وزارة العدل لشهر أكتوبر عام 2021، أن 17198 أجنبياً كانوا في السجون، ما نسبته 24.5 في المائة من إجمالي السجناء، بينما نسبة الأجانب في فرنسا لا تتعدى 7 في المائة. وواضح أيضاً أنه يتعين على الأجانب التأقلم مع المجتمع الفرنسي وليس العكس، وأن الأعمال المخلّة بالأمن على أنواعها تسيء بالدرجة الأولى إلى سكان الضواحي والأحياء الفقيرة التي يتزايد تهميشها فيما الحرائق التي أضرمت أصابت بداية هذه المناطق والأحياء.

بريطانيا... فوضى غير مسبوقة

وقد تكون بريطانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية المنزلقة في منحدر شديد زادت حدته منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك؛ فإن أزمات المملكة المتحدة أقدم من «بريكست»، رغم أن الخبراء الاقتصاديين يتفقون على أنه من دون شك سرّع في انحدارها هذا.

 

جماهير غفيرة خلف سيارة تقلّ والدة نائل في مظاهرة نهاية يونيو الماضي (أ.ب)

وربما الأشهر الماضية كانت دليلاً على مدى تردي حالة البلاد وإشارة إلى مدى تراجع الكثير من الخدمات الأساسية فيها. فعلى وقع أزمة تضخم هي الأقسى منذ 40 عاماً، لفت الإضرابات بريطانيا وخرجت خدمات أساسية في قطاعات التنقل والتعليم والاستشفاء، عن الخدمة لأيام متتالية، لم تنته بعد وتحذر بالعودة في الأسابيع المقبلة. هؤلاء المضربون جميعهم، من أساتذة وأطباء وعمال سكك الحديد والبريد والمطارات وغيرهم، كلهم يطالبون برفع أجورهم لكي تتماشى مع نسبة التخضم التي ترتفع بشكل صاروخي.

ويقول ماريانو آغيرّي، الباحث في مركز «تشاتهام هاوس»: «إن حزب المحافظين البريطاني يدفع البلاد نحو الانهيار، في حين تكبّد بريطانيا سياسات (رئيس الوزراء السابق) بوريس جونسون والخروج من الاتحاد الأوروبي خسائر فادحة، والاقتصاد أشبه بسفينة توشك على الغرق في بحر اجتماعي شديد الهيجان».

وعشيّة مرور مائة يوم على وصول ريشي سوناك إلى داونينغ ستريت، أعلن عمال السكك الحديدية وموظفو قطاع التعليم، بما فيه الجامعات، أكبر إضراب في بريطانيا منذ 12 عاماً للمطالبة برفع الأجور وإلغاء التشريعات التي تلزم بتأمين الحد الأدنى من الخدمات. وفي أبريل (نيسان) الفائت، أضرب موظفو الأمن في المطارات عشرة أيام متتالية؛ مما تسبب في حال من الفوضى غير المسبوقة خلال عطلة عيد الفصح، في الوقت الذي هددت فيه قطاعات أخرى بموجة من الإضرابات إذا لم تحصل على ما يعوّض التضخم الذي زاد عن 11 في المائة منذ بداية هذا العام.

 

حقائق

330 ألف عامل

خسرتهم بريطانيا نتيجة خروجها من الاتحاد الأوروبي

وكان لخروج بريطانيا من التكتل الأوروبي أثراً مباشراً على العمالة، وأدى بحسب دراسة «معهد الإصلاحات الأوروبية» صدرت مطلع العام الحالي، إلى خسارة بريطانيا لقرابة 330 ألف عامل، معظمهم في قطاعات لا تتطلب مهارات عالية، مثل قطاعات البيع والنقل والخدمات في المطاعم والفنادق. وتحركت الحكومة في المقابل لتسهيل العمالة من خارج الاتحاد الأوروبي، خاصة من الهند، لملء الوظائف الشاغرة، ولكن في قطاعات تحتاج إلى مهارات عالية مثل النظام الحصي والتعليم وتكنولوجيا المعلومات والخدمات.

ألمانيا... أشهر حبلى

ورغم أن «بريكست» أبرز أزمة نقص العمالة في بريطانيا وفاقمها، فإن ألمانيا تعاني مثلها نقصاً كبيراً في العمالة يهدد كذلك سير الخدمات الرئيسية، خاصة في القطاع الصحي والتعليم. والسبب الرئيسي في نقص العمالة زيادة أعداد المتقاعدين مقابل عدم تدريب مختصين بشكل كافٍ في المهن التي تعاني من النقص.

ففي ألمانيا تعاقبت إضرابات قطاعات أساسية، مثل السكك الحديدية والنقل الجوي والمواصلات العامة، دائماً لطلب زيادة في الأجور تعوّض التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية، رغم أن الحكومة تطبق تدابير للتخفيف من آثار أزمة الطاقة منذ بداية الحرب في أوكرانيا. لكن إذا كانت ألمانيا لم تشهد حتى الآن نفس الفوضى التي عرفتها فرنسا والمملكة المتحدة والبرتغال؛ لأن المجتمع الألماني أكثر تنظيماً وقدرة على التكيّف مع الصعاب، ولأن التعاضد بين النقابات الألمانية الموزعة حسب القطاعات أقلّ منه بين الفرنسية الأكثر تطرفاً، فإن الأشهر المقبلة قد تكون حبلى بسلسلة من الإضرابات والاحتجاجات ما لم تسارع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات لتصحيح الأجور بعد أن اقتربت نسبة التضخم من 8 في المائة.

فنقص الأطباء، مثلاً، بات يشكل قلقاً كبيراً للحكومة الحالية دفعت بوزير الصحة كارل لاوترباخ إلى الدعوة لخلق 5 آلاف مقعد إضافي في الجامعات لتعليم وتدريب أطباء في وقت تشير توقعات معهد روبرت بوش إلى أن 11 ألف وظيفة طبيب عائلة ستكون شاغرة بحلول عام 2035، خاصة في المناطق النائية البعيدة عن المدن الكبيرة. وبشكل عام، فإن واحدة من كل 6 مهن تعاني نقصاً في المهارات، ويشكو العاملون فيها من عدم قدرتهم على توظيف المهارات التي يبحثون عنها. وبحسب دراسة لوزارة العمل الفيدرالية، فإن 200 مهنة من أصل 1200 تعاني نقصاً في المهارات، وهو رقم ارتفع عن العام الذي سبق حين كان عدد المهن التي تنقصها مهارات 148. وأشارت الوزارة أيضاً إلى إمكانية انضمام 157 مهنة إضافية إلى لائحة المهن التي تعاني نقصاً في العثور على مهارات لملء الوظائف الشاغرة. ومن بين هذه المهن التمريض والتعليم والبناء وتكنولوجيا السيارات والمهندسين والصيادلة والمختصون بتكنولوجيا المعلومات، إضافة إلى سائقي الشاحنات والباصات والعاملين في قطاع الخدمات، مثل الفنادق والمطاعم والصناعات المعدنية.

 

وتحاول الحكومة التي يقودها الاشتراكيون ملء هذه الثغرات بجذب مهاجرين من خارج دول الاتحاد الأوروبي؛ إذ يشير متخصصون إلى أن ألمانيا بحاجة لـ٤٠٠ ألف مهاجر ماهر سنوياً للتعويض عن المجتمع الهرِم والعمالة الناقصة. وجال المستشار الألماني أولاف شولتز على الهند وغانا مطلع العام للإعلان عن نية حكومته تسهيل دخول العاملين الماهرين من الدولتين خاصة العاملين في مجال تكونولوجيا المعلومات، في حين يبحث وزير العمل في البرازيل عن مهارات لملء آلاف الوظائف الشاغرة في مجال التمريض ورعاية المسنين.

وقبل أسبوعين مررت ألمانيا قانون هجرة حديثاً وغير مسبوق يسهّل إجراءات الدخول للكفاءات من خارج الاتحاد الأوروبي ويخفض متطلبات اللغة الألمانية المطلوبة كشرط مسبق للحصول على التأشيرة. ويسمح القانون الجديد كذلك للباحثين عن العمل بالدخول إلى ألمانيا والمكوث لغاية عام بحثاً عن عمل، بشرط أن يكونوا من حملة شهادة جامعية أو خضعوا لتدريب في مهنة من المهن التي تعاني نقصاً في الموظفين في ألمانيا. ولا يشترط القانون الجديد معرفة اللغة الألمانية، بل يخير المتقدم بالألمانية او الإنجليزية، إضافة إلى شروط أخرى. وبعد الحرب الروسية في أوكرانيا، استفاد مرة جديدة من أزمة اللاجئين الأوكران ومن ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم ومهاجمة الحكومة، خاصة لجهة خططها المتعلقة بالطاقة. ومررت الحكومة باقتراح من حزب الخضر المشارك فيها، قانوناً يمنع على مالكي الأبنية شراء سخانات تعمل فقط على الغاز، وإجبارهم بدءاً من عام 2024 على أن تكون السخانات الجديدة التي يتم تركيبها، تعمل بنسبة 60 في المائة بالطاقة المتجددة. وأثار القانون سخطاً كبيراً للتكلفة العالية التي تواجه أصحاب البيوت من دون تعويضات واضحة من الحكومة. واستفاد «البديل لألمانيا» من السخط ليهاجم الحكومة ويكسب أصواتاً إضافية. ورغم أن وصول «البديل لألمانيا» إلى السلطة على المستوى الفيدرالي مستبعدة لرفض كل الأحزاب الكبيرة العمل معه، فهو بدأ يحقق نجاحات تاريخية في بلديات صغيرة بشرق ألمانيا. والأسبوع الماضي انتخبت أول بلدة ألمانية في ولاية ساكوميا أنهالت رئيس بلدية من «البديل لألمانيا». وتستعد الولايات الثلاث الشرقية العام المقبل لإجراء انتخابات محلية تشير الاستطلاعات إلى أن الحزب المتطرف سيفوز بها.

قد تكون ألمانيا بدأت تتقبل أنها باتت مجتمع لاجئين من الناحية القانونية، ولكن الكثيرين يقولون بأنه من دون تغيير العقلية تجاه المهاجرين والغرباء والألمان من أصول مهاجرة، فإن القوانين المحدثة لن تنفع بجلب المهارات التي تحتاج إليها البلاد إلى دولة لا ترحب بهم وتميز ضدهم ولا تعدّهم متساوين.

الفقر والتهميش وشرارة أخطاء الشرطة

جماهير غفيرة خلف سيارة تقلّ والدة نائل في مظاهرة نهاية يونيو الماضي (أ.ب)

ليست المرة الأولى التي تعيش فيها فرنسا حالة من الاضطرابات الاجتماعية - الاقتصادية التي تفضي إلى أعمال عنف واسعة واشتباكات وسرقة ونهب وانقسامات آيديولوجية وسياسية حادة، في حين تجد السلطات نفسها عاجزة عن إطفائها إلا عن طريق اللجوء إلى القوى الأمنية، وأحياناً إلى فرض حالة الطوارئ ومنع التجول. وإذا كان الفقر والتهميش والمعاملات التمييزية تشكل الوقود الذي يغذي الاحتجاجات، فإن اخطاء الشرطة تشكل عادة الشرارة التي تشعله.

كذلك، ليست المرة الأولى التي يخرج فيها الشباب في ضواحي المدن والأحياء الشعبية لمواجهة رجال الشرطة بعد حادث كالذي أفضى إلى موت الشاب القاصر نائل مرزوق صبيحة يوم الثلاثاء 27 يونيو (حزيران) الماضي، على يد شرطي دراج أطلق النار عليه من مسافة قريبة بعد ملاحقة خطرة في شوارع مدينة نانتير الواقعة على مدخل باريس الغربي. الشرطي البالغ من العمر 38 عاماً والقابع حالياً في الحبس الاحتياطي، عدّ أن تصرف سائق السيارة المسروقة يشكل تهديداً له ما يعطيه الحق بإطلاق النار عليه، وهو ما فعله. السيناريو ليس جديداً، لا، بل هو مكتوب سلفاً وعشرات الأحداث المشابهة حصلت في العقود الأربعة الأخيرة. لكن الجديد فيها هذه المرة أن رواية الشرطي وزميله دحضهما تسجيل فيديو أظهر أن لا الشرطي ولا زميله كانا مهددين، وأن روايتهما الأصلية كانت مفبركة؛ ما ضاعف من غضب الشارع. وتفيد أرقام وزارة الداخلية، بأن 15 شخصاً قُتلوا منذ عام 2022 على أيدي الشرطة في حوادث تدقيق مروري شبيهة بما حصل مع نائل مرزوق. والسبب الرئيسي أن قانوناً صدر في عام 2017 وسّع دائرة الظروف التي تتيح لرجل الشرطة إطلاق النار.

يطول سرد وتفصيل تسلسل الأحداث التي عرفتها فرنسا في العقود الأربعة الماضية. والمتعارف عليه أن نقطة الانطلاق يمكن ردّها إلى نهاية السبعينات، وتحديداً لعام 1979، حيث شهدت ضاحية فول - فولين، اللصيقة لمدينة ليون (وسط فرنسا) أول أحداث أمنية عندما عمدت الشرطة إلى توقيف مراهق عمره 17 عاماً، اسمه حكيم، جزائري الأصل، بتهمة سرقة سيارة. وعندما شعر الأخير أن الشرطة على وشك القبض عليه، لم يتردد في جزّ أحد شرايين ذراعه ما لم يمنع الشرطة من سوقه مكبلاً؛ الأمر الذي أثار غضب سكان الحي الذين هاجموها بما توفر.

الغلطة الكبرى

هذا كان أول الغيث وتبعته في المنطقة نفسها أحداث مشابهة صيف عام 1981 في الحي المعروف باسم «غينغيت». أسابيع من الاشتباكات التي تمددت إلى مدينتي فينيسيو وفيلوربان القريبتين من ليون مع الشرطة بما يصاحبها من سيارات محروقة ومتاجر وممتلكات. والجديد فيها أنها الأولى من نوعها التي تلقى تغطية إعلامية واسعة من كافة الوسائل الإعلامية بما فيها التلفزة التي لعبت وقتها الدور الذي تلعبه حاليا وسائل التواصل الاجتماعي ما زاد من وقعها على المجتمع ولفت الأنظار لأوضاع الضواحي والأحياء الشعبية التي تحتضن نسبة مرتفعة من الأجانب المهاجرين.

إذا كانت الحكومات المتعاقبة منذ أربعين عاماً قد فضلت التعامل الأمني مع الأحداث، إلا أنها في الوقت نفسه سعت لتحسين أوضاع الضواحي من خلال خطط متنوعة منها عمليات تجديد الإنشاءات العامة والعمل لتوفير الخدمات وزيادة المدارس والمراكز الرياضية والمكتبات... إلا أن القبضة البوليسية لم تتراخ واستمر سكان الضواحي، خصوصاً الشباب منهم، في الشكوى من تعاطي الشرطة معهم ومن تعرّضهم للمتاعب والملاحقات التي ينسبونها لكونهم أجانب أو أفارقة أو مغاربة... بالطبع، لم تعرف موجات العنف السابقة بما فيها ما حصل في عام 2005 المدى الذي وصلت إليه الموجة الأخيرة التي طالت 500 مدينة على مجمل التراب الفرنسي. إلا أن عناصر الشبه بينها كثيرة وعميقة، وبالتالي انكب كثيرون من علماء الاجتماع على دراسة جذورها مسبباتها وكشف دقائقها وطرح خطط للتخلص منها. ومن جانبها، لم تبق الحكومات المتعاقبة يميناً ويساراً مكتوفة الأيدي. وثمة من ينتقد في فرنسا «السخاء الزائد» للدولة مع هذه الضواحي والأحياء. ولكن في أي حال، فإن النتائج لم تكن بمستوى الآمال، والدليل على ذلك ما حصل في الأيام الأخيرة. وهناك من يرى أن «الغلطة الكبرى جاءت في التركيز على البنيان المادي من دون السعي لتغيير الذهنيات والعقليات وهدم الصور النمطية»، بمعنى أن السياسات المتبعة «لم تنجح في خفض الرؤى والمعاملات التمييزية على أسس إثنية أو دينية أو اجتماعية» ولم تنجح في إعادة خلط السكان بحيث بقيت الأحياء الصعبة فقيرة وأكثر هشاشة وبقيت مراكز اجتذاب للمهاجرين.

 


مقالات ذات صلة

المجر: على الاتحاد الأوروبي التشاور مع ترمب قبل تجديد العقوبات على روسيا

أوروبا يانوس بوكا (إكس)

المجر: على الاتحاد الأوروبي التشاور مع ترمب قبل تجديد العقوبات على روسيا

قال الوزير المجري لشؤون الاتحاد الأوروبي، اليوم (الخميس)، إن بلاده لم تقرر بعدُ ما إذا كانت ستؤيد تمديد عقوبات التكتل على روسيا في نهاية الشهر الحالي.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا الاتحاد الأوروبي يعلن تخصيص مساعدة إنسانية لقطاع غزة بقيمة 120 مليون يورو (رويترز)

الاتحاد الأوروبي يعلن مساعدة غزة بقيمة 120 مليون يورو بعد وقف إطلاق النار

أعلن الاتحاد الأوروبي، الخميس، عن مساعدة إنسانية لقطاع غزة بقيمة 120 مليون يورو، بعد إعلان وقف إطلاق النار، الأربعاء، بين حركة «حماس» وإسرائيل.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا سفن تابعة لـ«الناتو» تبحر خلال مناورات السواحل الشمالية في بحر البلطيق 18 سبتمبر 2023 (رويترز)

«الناتو» يعزّز انتشاره العسكري في بحر البلطيق بعد تخريب كابلات

قال الأمين العام لحلف الناتو، اليوم (الثلاثاء)، إن «الناتو» سينشر سفناً وطائرات ومسيرات في بحر البلطيق ردا على تخريب عدة كابلات بحرية يشتبه في وقوف روسيا وراءه.

«الشرق الأوسط» (هلسنكي)
شؤون إقليمية تخت روانتشي يطلِع لجنة الأمن القومي على نتائج الجولة الثانية من الحوار مع الأوروبيين مطلع الشهر الماضي (موقع البرلمان)

طهران: المحادثات مع الأوروبيين في جنيف «بنَّاءة وصريحة»

وصفت إيران الجولة الجديدة من الحوار بشأن برنامجها النووي المثير للجدل مع فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة في جنيف بـ«الجدية والصريحة والبنَّاءة».

«الشرق الأوسط» (لندن - جنيف)
الخليج Kaja Kallas

إشارات أوروبية لانفراجة في عقوبات سوريا

أرسلت 6 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي إشارات بانفراجة في العقوبات المفروضة على سوريا، داعية إلى تعليقها مؤقتاً في قطاعات مثل النقل والطاقة والخدمات المصرفية.

«الشرق الأوسط» (بروكسل) عبد الهادي حبتور (الرياض)

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».