الإنسان المعاصر وأوهام الحرية

لماذا يشعر الإنسان المعاصر بأن حريته المفترضة أو الافتراضية مجرد وهم؟ (أ.ف.ب)
لماذا يشعر الإنسان المعاصر بأن حريته المفترضة أو الافتراضية مجرد وهم؟ (أ.ف.ب)
TT

الإنسان المعاصر وأوهام الحرية

لماذا يشعر الإنسان المعاصر بأن حريته المفترضة أو الافتراضية مجرد وهم؟ (أ.ف.ب)
لماذا يشعر الإنسان المعاصر بأن حريته المفترضة أو الافتراضية مجرد وهم؟ (أ.ف.ب)

منذ آلاف السنين يحاول الإنسان أن يعرف مدى حريته ويتساءل حول مصدر هذه الحرية وحول حدودها وحول إمكان رفع هذه الحدود والتمتع بالحرية المطلقة. في هذا المقال المحدود، سوف نحاول الإضاءة على أهم المنعطفات التي خاضها مفهوم الحرية الإنسانية، وصولاً إلى عصرنا الراهن. وبالتالي إلى طرح الإشكالية الآتية: لماذا يشعر الإنسان المعاصر، في ظل تطور الوعي البشري والعلوم والتكنولوجيا وانتشار المناداة بحقوق الإنسان، بأنه محاصَر ومهدَّد بمخاطر جمّة وبأن حريته المفترضة أو الافتراضية هي مجرد وهم؟
في الواقع، إن مسألة الحرية مطروحة عبر تاريخ الفلسفة والفكر بشكل عام منذ بدايات الفلسفة اليونانية مع سقراط الذي تعامل مع الفلسفة على أساس أنها سؤال دائم ورفض الادعاء بالمعرفة المطلقة، فشكّل بذلك منعطفاً أساسياً في تاريخ الفلسفة. أما أفلاطون فقد ميّز بين طبقات المجتمع وعدّ الحرية امتيازاً للنبلاء. وكذلك فقد تناولت المدرسة الرواقية مسألة الحرية، فرأى كريسيبوس أن الحرية تعود إلى نوعين من السببية؛ إذ إن الإنسان يكون حراً في الأمور التي تكون تحت مجال استطاعته فيختار ما يناسبه من القرارات الواجب اتخاذها في ظروف معينة. أما السببية الثانية فهي تعود إلى الظروف الموضوعية التي لا يمكن للفرد التحكم بها. أمّا أبيقوروس فقد ربط موضوع الحرية بالعلم ورأى بأنه بقدر ما يكون الإنسان عالماً بشؤون الطبيعة بقدر ما يكون حراً ومتحرراً من الأساطير والخرافات.
وهناك منعطف أساسي في تاريخ الفكر الحر تمثّل بالكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وهذا يعني أن ديكارت أعطى أهمية قصوى للإرادة الحرة المنطلقة من «الأنا أفكر». وهكذا انطلقت مسيرة الفكر الحر مع فلاسفة الثورة الفرنسية، وصولاً إلى عصر التنوير الذي مجّد حرية العقل والفكر. وفي مسار الحرية الإنسانية برزت الفلسفة الوجودية مع كيركيغارد الذي طرح مشكلة القلق الإنساني الفردي أمام الحرية، ومع سارتر الذي اشتهر بنضاله المستمر من أجل حقوق الإنسان والحريات السياسية والاجتماعية وربط بين الحرية والقلق الوجودي والمسؤولية وأطلق عبارته الشهيرة «نحن محكومون بأن نكون أحراراً». أما الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر فقد رأى أن الإنسان مقذوف في هذا العالم، وعليه أن يتدبر أمره. وميّز بين الكينونة والكائن ومنح الإنسان مرتبة «الكائن - هناك» (Dasein) المتميز عن الكائنات الأخرى بالفكر وحمّله مسؤولية وجوده.
وفي مقابل المدرسة الوجودية التي أعطت دوراً مهماً للذات الفردية والوعي الفردي، برزت التيارات البنيوية التي تعطي الأهمية القصوى في تفسير حركة المجتمع والتاريخ إلى الأنساق والبنى والظروف الموضوعية التي تتحكم في مسارات وخيارات الأفراد. ومن أهم أعلام هذه المدرسة، نذكر الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشال فوكو الذي شكّل ظاهرة بارزة في تاريخ الفكر الفرنسي المعاصر حيث ركّز في إنتاجه الفكري على مفهوم النسق (السيستام) الذي يتحكم بالعلاقات القائمة بين عناصره بحيث إن الفرد أو العنصر داخل النسق يأخذ معناه انطلاقاً من العلاقة التي تحكمه مع العناصر الأخرى داخل النسق نفسه. كما رأى فوكو أن النزعة الإنسانية، التي أعطت الدور الأساسي للإنسان الفرد في صناعة التاريخ، سوف تنطفئ مع تغيير الظروف التي وُلدت من رحمها، وعلى ذلك فإن فوكو تنبّأ في كتابه الشهير «الكلمات والأشياء» بموت الإنسان، معتبراً أن النزعة الإنسانية حديثة العهد لا يتجاوز عمرها مئتي عام وسوف تنطفئ مع ولادة ظروف جديدة وأنظمة معرفية جديدة (أبيستيمي).
وفي هذا السياق لا بد من ذكر عالم الأنتربولوجيا كلود ليفي شتراوس الذي بشّرنا بقرب مراحل غروب البشرية وبأن العقل البشري ثابت ولا يتقدم مع الزمن وذلك بسبب الظروف القاهرة التي تتحكم بالإنسان. في كتابه تحت عنوان «الأنتروبولوجيا البنيوية» أراد ليفي شتراوس إعادة إدماج الثقافة مع جذورها الكامنة في الطبيعة.
وفي هذا السياق أيضاً لا بد من الإشارة إلى الدور الذي لعبه صاحب مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد في تاريخ الفكر البشري وفي موضوع الحرية بالذات. من المعروف أن فرويد اكتشف أن الكائن النفسي الإنساني مكون من ثلاث طبقات: الأنا الأعلى، والأنا الواعي، والأنا الغرائزي. بالنسبة إلى فرويد، الأنا الواعي يتعرض لضغوطات من الأنا الأعلى المتمثل بالمجتمع والأخلاق العامة، ومن الأنا الغرائزي المتمثل بالشهوات الحيوانية. لذلك فإن فرويد اعتمد مفهوم اللاوعي أو بنية اللاوعي الذي يتحكم بسلوك البشر الذين يرون أنفسهم أحراراً.
وفي ظل هذا التباين سالف الذكر بين التيارات الفكرية المختلفة برز عصر التقنية الحديثة بالتزامن مع تطور العلوم المختلفة. لا شك في أن التقنية الحديثة لاقت الترحيب والانبهار من الإنسان المعاصر لأنها غيّرت حياته بطريقة سريعة ولكنها في المقابل فرضت عليه شروطاً إضافية للتكيف مع الأوضاع الجديدة والتخلي عن التقاليد التي اعتاد عليها. وفي هذا المجال برز النقد الحاد الذي مارسته «مدرسة فرانكفورت» تجاه سيطرة العقلانية التكنولوجية واتهامها بالعمل على تنميط الإنسان وإخضاعه للآلة، وهذا ما برز في كتاب هربرت مركيوز «الإنسان ذو البعد الواحد». ولا بد في هذا المجال من ذكر النقد الذي وجهه هايدغر لماهية التقنية عندما رأى أنها تأتي من مصير الكينونة الذي يحرض الإنسان باستمرار على تلبية ندائها المتدفق دوماً. كما تنبأ هايدغر بأن التقنية لن تقف عند حدود معينة لأن ماهيتها ليست تقنية بل هي تكمن في نداء الكينونة المحرّض باستمرار انسجاماً مع تدفق هذه الكينونة المتطلبة لتغيير ثوبها باستمرار. على ذلك فإن الثورة التقنية أخذت منعطفاً جديداً من خلال تكنولوجيا النانو والثورة الرقمية بحيث تحول العالم إلى قرية كونية وضاعت حدود الدول الوطنية ودخلنا في مرحلة العالم الافتراضي الذي يمنحنا امتيازات رهيبة في سرعة التواصل وتحصيل المعلومات واجتياز المسافات العابرة للقارات ولكنه من جهة ثانية يجعلنا معرّضين للانكشاف الكلي من خلال أجهزة التواصل التي نتمتع بامتلاكها ولا نعرف من يتحكم بها عن بعد. ولا بد من التذكير بأن هذه الثورة التكنولوجية بدأت تهدد معنى الإنسان الذي نعرفه كقيمة أساسية تعطي معنى للكون وللحياة. وبالفعل فقد برزت تيارات فكرية وعلمية تنادي بإمكانية ما يسمى تحويل النزعة الإنسانية من خلال العمل على إطالة عمر الإنسان إلى مئات السنين. كما برز تيار «ما بعد الإنسانية» في ظل انتشار ما يسمى الذكاء الصناعي وعالم الروبوتات.
بعد هذا العرض السريع نجد أنفسنا، نحن الذين نرى أننا نعيش كأحرار في عالم حر، محكومين بعوامل قهر للحرية من أهمها: أولاً، قوانين الطبيعة وتحديداتها بحيث لا يمكننا إهمال كوننا كائنات طبيعية تخضع لقوانين الطبيعة العضوية. ثانياً، هناك قوانين وتحديدات المجتمع الذي ننتمي إليه بحيث إننا نخضع شئنا أم أبينا للنظام الاجتماعي المسيطر في بيئتنا. وثالثاً، هناك تحديدات العامل الاقتصادي إذ إن المستوى الاقتصادي يحدد مسار كل فرد وانتماءه في المجتمع.
أخيراً وأمام كل ما أتينا على ذكره، ألا يحق لنا التساؤل حول حرية الإنسان المعاصر؟
في نهاية هذا المقال السريع ومن باب الطرفة أود التذكير بمراحل الإحساس بفقدان الحرية: في مرحلة الطفولة نخضع لعوامل الطبيعة العضوية، وفي مرحلة الشباب نشعر بضغط المجتمع والأخلاق العامة، وفي مرحلة النضج نعيش تحت ضغوط المجتمع والأسرة.
أخيراً نعود إلى عبارة سارتر الشهيرة: «نحن محكومون بأن نكون أحراراً». في هذه المفارقة يظهر أن سارتر «فيلسوف الحرية» يعود إلى الإلزام من أجل الحرية. ألا يعني ذلك أن الإنسان حر في خلق أوهام الحرية؟
* باحث وأستاذ جامعي لبناني



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».