«الحدث» وفروق التوقيت بين الممكن والمستحيل!

الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
TT

«الحدث» وفروق التوقيت بين الممكن والمستحيل!

الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)

الجدل الراهن حول «الذكاء الصناعي» لا يتعلق بإمكاناته أو آثاره في المستقبل فحسب، ولكن في تعثر «ميلاد منطق جديد» للعقل الإنساني، يستطيع أن يتعامل مع تحديات واقعنا المعاصر وتعقيداته. بمعنى أن المشكلة الحقيقية ليست فقط في مخاطر الذكاء الصناعي، وإنما فشلنا - حتى الآن - في اكتشاف الأسس الفكرية لعالمنا الجديد (داخل أنفسنا).

(1)

في مارس (آذار) الماضي، وقّع كثير من الشخصيات البارزة، منهم إيلون ماسك، على الرسالة المفتوحة الصادرة عن معهد مستقبل الحياة التي تطالب بوقف احترازي لمدة 6 أشهر: تطوير أنظمة الذكاء الصناعي الأكثر قوة.

وفقاً للفيلسوف سلافوي جيجيك، فإن «الذكاء الصناعي، على عكس الابتكارات التكنولوجية السابقة، لا يتعلق بسيادة الإنسان على الطبيعة، بل بالتخلي عن السيطرة تماماً. ذلك أن الفكرة الفوقية القديمة المتمركزة حول الإنسان، التي دعمتها التكنولوجيا، قد تفسح المجال قريباً لانعدام الأهمية البشرية، بل وانعدام معنى الهيمنة ذاته».

الذكاء الصناعي - في تصوري - هو الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من «الأحداث» غير المسبوقة، شملت الطبيعة (المناخ) والإنسان (السياسة) والتكنولوجيا، تطورت بسرعة جعلت «الوعي» بآثارها يبدو كأنه يجيء متثاقلاً (متأخراً في توقيته)، ناهيك بالتنبؤ بالأبعاد اللاحقة.

نخبة قليلة من الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين في العالم، منهم الشاعر الاستثنائي أدونيس، تنبهت إلى هذه المعضلة مبكراً، وأصدرت بياناً تاريخياً عام 1994 بعنوان «العبر مناهجية»، لخص مضمونه وأهدافه فيلسوف العلم بسراب نيكولسكو بقوله: «أحد جوانب الأزمة الراهنة للمعرفة، أننا ما زلنا نقر ونعمل مفاهيم وقيم أنموذج (قديم) لم يعد صالحاً للتعامل مع قضايا وإشكالات عالمنا المعاصر الذي يتميز بالترابط والتعقيد والتشبيك. إننا نعيش أزمة تنطوي على (مفارقة): التباعد المزداد بين نضج العقلية الإنسانية التي تتعامل مع الواقع ومشكلاته، والكتلة المعرفية المتراكمة التي تطورت (بسرعة) مذهلة في الربع الأخير من القرن العشرين».

تمثل ذلك في مجموعة من الظواهر والأحداث في العقود الأخيرة، لم يستوعبها (أو يتوقع حدوثها أصلاً) منطق العقل التقليدي، حتى صار مفهوم «الحدث» ذاته، أحد أبرز المفاهيم الاستراتيجية، الأكثر تداولاً بين النخب الفكرية.

«الحدث» - حسب آلان باديو - هو «نقطة التحول في العلاقة بين الممكن والمستحيل، وهو كل (بداية خالصة) تحدث ثقباً في نسيج معارفنا الراسخة».

وحلل دانيال سيبوني مفهوم «الحدث» من المنظور النفسي، في 3 أجزاء من كتابه المعنون «أحداث»، بقوله: «الحدث هو الاصطدام الذي يحدث مع الواقع، أو هو هذا اللّقاء الصّادم مع الواقع، إنّ الأحداث التي لا نتعجّب من وقوعها وإنّما من عدم تنبّئنا بوقوعها، تخفي في حقيقة الأمر ميلنا إلى أن نتوقّع حدوث (كلّ شيء)، حتّى لا يحدث (شيء)، فلا يحدث لنا (أيّ شيء)».

(2)

«الحدث» الأبرز الذي كشف عن «فروق التوقيت» بين الإنسان والطبيعة، كان «بركان آيسلندا» في أبريل (نيسان) عام 2010، لأنه أعاد النظر في مجمل الأفكار التي قامت عليها الحداثة الغربية، لا سيما فكرة مركزية الإنسان وسيادته على الطبيعة، أو قل إنه: البركان الذي عمق الهوة بين المنطق التقليدي في التفكير والواقع الجديد في القرن الحادي والعشرين.

أضف إلى ذلك أنه نبه الناس إلى أمر أساسي، يتم تغافله أو تناسيه غالباً، لخصه وقتئذ راي سواريز، كبير مراسلي برنامج «نيوز أور» الإخباري بقوله: «في اللحظة الراهنة، فإن الطبيعة تذكّر البشر بأن الخطط والنظم والجداول ينبغي عليها في بعض الأحيان أن تفسح المجال لكوكب يسير حسب التوقيت الخاص به». سحابة رماد بركان آيسلندا وآثارها على الاقتصاد العالمي، أعادت للأذهان تداعيات الإرهاب في 11 سبتمبر (أيلول). فقد نجم عن إلغاء رحلات الطيران لمدة 5 أيام، خسائر في مجال الصناعة بلغت أكثر من مليار دولار، كما بدأ بعض رجال الصناعة يطالبون بتعويضات من الحكومات الأوروبية ومن الاتحاد الأوروبي، بما يشبه الطريقة التي تم بها تعويض الشركات التجارية بعد توقف حركة الطيران في الولايات المتحدة عام 2001. لكن استجابة الحكومات والمؤسسات وقتئذ لهذا «الحدث» الطبيعي، جاءت مخيبة للتوقعات، مما تسبب في ظهور طائفة من الإشكالات الجديدة لم يتوقف الجدل حولها حتى كتابة هذه السطور، كأن «الحدث» بالمعنى الفلسفي - كما وصفه جاك دريدا - هو ما يفتح الباب أمام أحداث أخرى مقبلة مستقبلاً لا يمكننا توقعها أو التنبؤ بها.

فقد رفضت معظم شركات التأمين على السفر، دفع ملايين الدولارات تعويضاً عن الخسائر، وبررت ذلك بأن هذا «الحدث» كان «قضاء وقدراً»، ويخرج عن السيطرة البشرية، أي أنها تحايلت في تأويل الأساس القانوني الذي يسمح بالمساءلة البشرية. لذا اعتبرت هذه السابقة أول محاولة معاصرة، للتمييز بين الأحداث التي يسببها البشر، وتلك التي لا يسببها البشر بالمعنى القانوني، أو قل: إن فكرة المسؤولية - من الآن فصاعداً - قد تكون موزعة بين البشر وغيرهم (من غير البشر أو الأشياء).

وهو ما أدى إلى مراجعة جذرية لمبدأ «المسؤولية» وعلاقته بمفهوم «العدالة»، كما صاغته الحداثة الغربية، وتعتمده المجتمعات الليبرالية الحديثة التي تقوم أساساً على مبدأ أن «الفرد - الإنسان» وحده يتحمل المسؤولية.

اللافت هنا، أن بعض المؤسسات والهيئات الدولية بدأت بالفعل تتحول شيئاً فشيئاً عن تحمل المسؤولية، وفي بعض الأحيان تتفنن في إنكار فكرة المسؤولية كلياً.

في المقابل، فإن تطبيق المبدأ الليبرالي في مساءلة الفرد، أوشك أن يكون أمراً نسبياً مختلفاً عليه اليوم، وفي بعض الأحيان قد يطبق أو لا يطبق، حسبما اتفق.

فقد تم تطبيق هذا المبدأ حرفياً في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020، بعد أن دار الجدل في الكواليس حول: من يتحمل مسؤولية الخسائر التي تسبب فيها فيروس «كورونا»، وعلى من نلقي اللوم في مجابهة آثاره وتداعياته الصحية والاقتصادية (والسياسية)، هل الرئيس السابق ترمب وحده؟ أم أنه يمكن أن يتقاسم المسؤولية مع منظمة الصحة العالمية أو الصين؟

(3)

إنجاز الاتفاق السعودي - الإيراني بوساطة صينية في فبراير (شباط) الماضي، «الحدث» الأهم بالمعنى السياسي - الاستراتيجي هذا العام، لأنه شكل «نقطة التحول في العلاقة بين الممكن والمستحيل» في «التوقيت المناسب» لمصالح ورؤى وأهداف الأطراف الثلاثة.

وفي حال استمرار نجاحه وتكريسه، قد يفتح الباب على «أحداث أخرى» مقبلة في المنطقة والعالم، ما يثبت أن السياسة في النهاية اختيارات، وأن هناك بدائل دائماً، غير الصراعات والحروب التي أنهكت الشرق الأوسط.

في كتابها «الحرب: كيف شكلنا الصراع» 2020، خلصت المؤرخة الكندية مارغريت ماكميلان، من تحليلها للحرب العالمية عام 1914 إلى أهم نصيحة لعصرنا، تقول: «إذا أردنا توجيه أصابع الاتهام منذ القرن الحادي والعشرين، فبوسعنا إلقاء اللوم على أولئك الذين أخذوا أوروبا إلى الحرب في أمرين. أولاً، فشل الخيال في عدم التنبؤ بمدى الدمار الذي سيُنتجه مثل هذا الصراع، وثانياً، افتقارهم إلى الشجاعة للوقوف في وجه أولئك الذين جادلوا بأنه لم يعد هناك خيار سوى خوض الحرب. هناك دائماً خيارات». الدهشة (أو الصدمة) التي أعقبت «حدث» الاتفاق السعودي - الإيراني، وانتابت البعض، لا تكشف فقط عن «فروق التوقيت»، أو أن «هناك» من لا يزال مسكوناً بنماذج «قديمة» في التفكير انتهت صلاحيتها في التعامل مع الصراعات، وإنما أثبتت أنه «هنا»، تحديداً في قلب هذه البقعة الساخنة من العالم تنبثق ملامح منطق جديد للعقل، أصبح على استعداد للقيام بأشياء مختلفة، أو التعامل مع النزاعات بشكل مختلف في الألفية الثالثة.

القصة الحقيقية لنجاح الصين في الوساطة بين السعودية وإيران، ليست أهم ما في الموضوع - كما قال أحد الاستراتيجيين الثقات في واشنطن - وإنما فشلنا نحن في الغرب في رؤية هذا النجاح وفهمه «في التوقيت المناسب»!

لعل هذا ما دفع مركز «أتلانتيك كونسيل» في سابقة تحسب له، إلى القول: على الغرب أن يتعلم الدرس الصعب في تعامله مع دول الخليج، خصوصاً السعودية. توصيات المركز لصانعي السياسات في الغرب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في العلاقة مع الخليج هي الأهم - في تصوري - لا سيما تأكيدها ودون مواربة على ضرورة التكيف بشكل عملي مع نفوذ الصين الإقليمي المزداد.

* باحث مصري


مقالات ذات صلة

إيران تكشف عن «باليستي» ومسيّرة انتحارية مع تصاعد التوترات الإقليمية

شؤون إقليمية قائد الوحدة الصاروخية أمير علي حاجي زاده يتحدث إلى بزشكيان خلال مرور شاحنة تحمل صاروخ «عماد» الباليستي خلال عرض عسكري في طهران (أ.ف.ب)

إيران تكشف عن «باليستي» ومسيّرة انتحارية مع تصاعد التوترات الإقليمية

قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، إن بلاده ستمضي قدماً في توسع «قوة الردع»، وذلك خلال عرض عسكري سنوي بطهران شمل طائرة انتحارية، وصاروخاً باليستياً جديدين.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
شؤون إقليمية صورة نشرها إعلام «الحرس الثوري» من جولة تنغسيري بجزيرة أبو موسى اليوم

«الحرس الثوري»: قواتنا في أفضل حالاتها العملياتية بمضيق هرمز

قال قائد «الوحدة البحرية» في «الحرس الثوري»، علي رضا تنغسيري، إن قواته بمضيق هرمز «في أفضل حالاتها العملياتية» في خضم تصاعد التوترات مع إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
شؤون إقليمية صورة نشرتها وسائل إعلام إيرانية لفرقاطة «سهند» الأحد الماضي قبل أن تغرق بالكامل قبالة ميناء بندر عباس

الفرقاطة الإيرانية «سهند» تغرق بالكامل رغم جهود إعادة توازنها

ذكرت وسائل إعلام إيرانية أن الفرقاطة «سهند» غرقت بالكامل في مياه ضحلة، اليوم الثلاثاء، قبالة مضيق هرمز، بميناء بندر عباس جنوب البلاد.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
الاقتصاد سفينة تحمل حاويات تمر عبر قناة السويس (الموقع الإلكتروني لقناة السويس المصرية)

الاضطرابات في الممرات البحرية تُلقي بظلالها على أمن الطاقة العالمي

بينما تتجه الأنظار إلى البحر الأحمر للوقوف على حركة التجارة بعد ازدياد الهجمات على السفن العابرة، حذَّر متخصصون من التحديات التي تحيط بالممرات المائية بالمنطقة.

صبري ناجح (القاهرة)
شؤون إقليمية قوارب سريعة تابعة لـ«الحرس الثوري» خلال مناورات في جزيرة أبو موسى أغسطس الماضي (تسنيم)

«الحرس الثوري» يعلن استعراضا لـ«الباسيج البحري في محور المقاومة»

أعلن قائد بحرية «الحرس الثوري» علي رضا تنغسيري عن استعراض لـ«الباسيج البحري» في «دول محور المقاومة» الجمعة المقبل، لافتاً إلى أن قواته ستشارك بـ3 آلاف سفينة.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)

السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز

TT

السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»
منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»

«أمي أصرت على أن ترافقني في زيارتي الأولى لزنزانتي في سجن صيدنايا وزوجتي اتصلت من تركيا لتجعلني أقسم ألا أذهب من دونها... وأنا حقيقة ما زلت غير قادر على مواجهة هذا المكان. لا بمفردي ولا مع شاهد آخر على مأساتي».

هكذا اعتذر لنا منير الفقير، الناجي من الاعتقال في أفرع الأمن وفي سجن صيدنايا والشريك المؤسس في «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا»، عن عدم زيارة زنزانته التي كانت مقررة في صباح ذلك اليوم الدمشقي.

«في البداية تشجعت أن نذهب معاً» قال: «ولكنني فعلياً غير قادر على استعادة هذا الكابوس الآن. هناك فيض من المشاعر التي لا أعرف التعامل معها... استشرت صديقاً نصحني بألا أقوم بهذه الزيارة قبل أن أحصّن نفسي وأكون على أتم الاستعداد».

وبعد برهة صمت استدرك: «لكن كيف يستعد الإنسان للقاء كهذا؟».

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»

لم نصر على الزيارة بطبيعة الحال. فالأيام القليلة التي سبقت الوصول إلى دمشق، وما نشر عن ذلك المكان السيئ السمعة من معلومات دقيقة أو مبالغة (بلا مبرر)، كفيل بإيقاظ أي صدمة مهما اندملت أو طوته الذاكرة. فكيف والجرح طري والألم مقيم. كذلك فإن الدفق الهائل من الروايات الفردية والجماعية عن هذه التجربة المروعة، الذي لم يترك تفصيلاً إلا وتناوله في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي كان ليجعل أي إصرار في غير صوابه.

سجن صيدنايا رأس جبل الجليد

إلى ذلك، فإنه يستحيل اختزال التجربة السجنية في سوريا على مدى الخمسين عاماً الماضية في سجن صيدنايا وحده، على فرادة التجربة لا شك، وذلك لكونه رأس جبل جليد دونه أفرع أمنية ومعتقلات وسجون كثيرة لا تقل رعباً وقسوة.

وإذا كان من نموذج لـ«الناجي المطلق» في ذلك الجحيم كله، فهو منير الفقير، المهندس ابن دمشق، الذي تنقل لأكثر من سنتين بين عدة محطات اعتقال بدءاً بالفرع 215، «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري، مروراً بالفرع 215 والمستشفى العسكري 601 المعروف بـ«المسلخ»، حيث التقطت صور «قيصر»، وصولاً إلى المسلخ الكبير... صيدنايا.

مدخل الفرع 215 «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري السوري كما بدا منتصف ديسمبر 2024 (الشرق الأوسط)

وقد يكون أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو كيف نجا منير، وكيف خرج حياً بعد كل ذلك، فيقول: «المعجزة أنني خرجت حياً من الفرعين الأولين. أما وقد وصلت إلى صيدنايا، وريثما علم أهلي بمكاني فقد كان بزنس الابتزاز انتعش. وحاولت عائلتي كغيرها من عائلات كثيرة إخراجي مقابل المال... وكنت محظوظاً أنه تم لي ذلك». ولعل اللافت أن رئيس المحكمة الميدانية، اللواء محمد كنجو حسن الذي حكم على منير بالترحيل إلى صيدنايا في جلسة محاكمة لم تتجاوز دقيقتين، كان هو نفسه من صادق على خروجه بعد تقاضي رشوة كبيرة عبر شبكة ابتزاز تعمل لصالحه.

هذا علماً أن منير لا يزال حتى الساعة جاهلاً بتهمته. ويقول: «لا أعلم حتى الآن ما هي التهمة الموجهة إليّ ولم أعلم حينها بمدة الحكم أو إذا كنت سأعدم. طوال الفترة التي قضيتها لم أبلّغ بشيء وممنوع أن أسأل. كنت فقط أحاول الاستنتاج من طبيعة الأسئلة الموجهة لي. لكنني لم أعلم شيئاً».

المعتقلون و«بازار» الابتزاز

يوضح منير أن هناك 3 أنواع من حالات الإفراج. الحالة النادرة جداً وهي العفو الرئاسي، وحدث أن منح بشار الأسد عفواً في حالات استثنائية ولأشخاص معينين. والحالة الثانية هي التبادل أي تبادل معتقلين بمعتقلين لدى أطراف أخرى، وهي أيضاً نادرة.

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» يزور سجنه بالفرع 215 في دمشق (الشرق الأوسط)

أما الحالة الأبرز والأكثر شيوعاً فهي الابتزاز المالي. ويقول منير: «كان لدى كنجو حسن الذي يملك ثروة طائلة وعقارات، سماسرة يرصدون الصيد الثمين من المعتقلين فيتواصلون مع الأهالي وبشكل رئيسي الأمهات ثم بدرجة ثانية مع الزوجات والأخوات».

وأضاف: «نحن في رابطة صيدنايا رصدنا هذا الموضوع، وقمنا بنشر تقرير توعوي للأهالي حول شبكات الابتزاز وقدرنا المبالغ المالية التي حصلت عليها شبكات الابتزاز الأمنية بنحو مليار دولار للفترة الممتدة بين 2011 حتى 2020». وتابع أن «منظمات حقوقية أخرى قدرت المبالغ بأكثر من ذلك، لكننا رصدنا الحد الأدنى الذي استطعنا توثيقه بناء على عينة إحصائية وليست عينة مسح».

وتعمل تلك الشبكات بإحياء أمل الأمهات باستعادة المفقود وإثارة خوفهن من خسارة ابن آخر «لينطلق البازار»، على ما يقول منير، ويبدأ إرسال المال مقابل معلومات أو إشارات شحيحة عن المفقود ريثما لا يعود لدى «الزبون» ما يقدمه؛ فإما أن يتم الإفراج فعلياً عن المعتقل وإما أن يصبح الرقم خارج التغطية، أو تُبلغ العائلة بأن الوقت قد فات وأن الابن لم يعثر عليه أو أنه ربما مات.

وهنا محظوظة هي العائلة التي تمنح شهادة وفاة أو جثة تدفنها، وغالباً ما يتم ذلك مقابل إجبارها على توقيع شهادة وفاة تقول إن الموت جاء لأسباب طبيعية أو صحية أبرزها توقف القلب أو الاحتشاء أو الفشل الكلوي، علماً أن الشائع هو تسجيل من دون حتى إبلاغ العائلة ولا حتى تسليم جثة.

الموت والتغييب كإجراء إداريّ

«لا شيء متروك للصدفة»، يقول منير ونحن نقف داخل مكتب السجلات في الفرع 215: «كل شيء مسجل ومؤرشف. وهذا جزء من نجاحهم في إطباق القبضة الأمنية. فمهما كان عدد المعتقلين ضخماً ومهما كان الازدحام في الزنزانات شديداً، يمكنهم بلحظة سحب الملف وسحب السجين من أي مهجع أو زنزانة».

وبالفعل، شملت سجلات الجرد التي ملأت الرفوف واطلعنا على بعضها، تفاصيل دقيقة عن الأشخاص ومقتنياتهم وأوراقهم الثبوتية وكل ما تتم مصادرته منهم حين توقيفهم. وكان هناك عدد كبير جداً من جوازات السفر المحفوظة، وعلمنا لاحقاً أنها تستخدم لنصب الأفخاخ. فأصحابها غالباً لا يعلمون أنهم مطلوبون لفرع أمني حين يتقدمون باستخراجها أو بطلبات تجديدها، وحين تنجز ويذهبون لتسلّمها يتم اقتيادهم إلى الفرع.

وثائق وأوراق ثبوتية ومقتنيات معتقلين مبعثرة ومنهوبة بقاعة المحفوظات في الفرع 215 بدمشق (الشرق الأوسط)

ومن «الأمانات» التي وقعنا عليها في قاعة المحفوظات تلك، كتاب «الاستخبارات المركزية الأمريكية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» لمحمود سيّد رصاص، وأحذية لأطفال ويافعين، وبطاقة هوية عليها صورة فتى لم يتجاوز سنوات مراهقته الأولى، وكثير من علب المهدئات العصبية ومسكنات الألم بتركيبة الكوديين.

أما من نعتقد أنهم «منسيون» في الأفرع والمعتقلات وبعضهم من جنسيات غير سورية أيضاً، فينطبق عليهم المبدأ نفسه بأن لا شيء متروك للصدفة. فبحسب ما يشرح منير، هناك نوعان من العبارات التي تكتب على إضبارات المعتقلين الذين يتخذ قرار «نسيانهم» أو عملياً قرار إخفائهم قسرياً: العبارة الاولى هي «يحفظ ويذكّر به» وتعني أنه يتعين على السجان تذكير مسؤول الفرع بالمعتقل في فترات متباعدة. والعبارة الثانية هي «يحفظ ولا يذكر به» فيعطى رقماً ويصبح بالإمكان إما الإبقاء عليه أو تصفيته.

قاعة إعدام وكابوس البطانيات

غادرنا قسم العمل البيروقراطي والإداري المتقن وهبطنا إلى الطوابق السفلية. هنا المهاجع والزنزانات المنفردة وقاعة تدريب على الرماية تحولت مكان اعتقال جماعي وتعذيب في فترات الذروة، ثم مسرحاً لإعدامات ميدانية وثقتها الرابطة ومنظمات حقوقية ومنحت الفرع 215 برمته سمعته بأنه «فرع الموت». لا يزال المكان يعبق بما شهده من فظاعات. ولا تزال الجدران السوداء في قاعة الإعدام تلك سقفها يحمل تركات ماض ليس ببعيد. الرائحة تثير الإعياء.

فجأة انتابت منير فورة غضب عارم فراح يضرب باب زنزانته برجليه ويديه حتى كاد يدميها. ثم تماسك، وغالب دموعه وتابع المسير.

مهجع في معتقل الفرع 215 بدمشق

في بعض المهاجع كانت بقايا خبز وعلب لبن فارغة وحبات طماطم تآكلها العفن مرمية على الأرض المتسخة أو فوق بطانيات رثة هي كل ما يشكل أثاث هذه القاعات. لا شيء إلا الجدران والبطانيات وحفرة صحية مكشوفة لقضاء الحاجة. على الجدران كتابات تخطر ببال ولا تخطر، محفورة بالأظافر أو أغطية علب اللبن. مناجاة وأسماء وتواريخ ومعادلات رياضية معقدة يقول منير إنها تهبط على الشخص في لحظات صفاء الذهن المطلق كما يحدث في السجن.

البطانيات التي يحمل بعضها دمغة «مفوضية اللاجئين» التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) وتشكل الأثاث الوحيد في هذه القاعات المغلقة تستخدم لأي شيء وكل شيء حتى أصبحت بؤرة جراثيم وبكتيريا وقمل تتسبب بتقرحات ونقل أمراض وعدوى بين المعتقلين خصوصاً في حالات الجروح المفتوحة. وليس نادراً أن تتفشى الغرغرينا في مهجع ما لأسباب كثيرة، أحدها هذه البطانيات نفسها. ويقول منير: «أحياناً كثيرة يموت سجين فيتركونه هنا لساعات أو أيام، بين رفاقه الأحياء، جثة ملقية على هذه البطانيات التي يعاد استخدامها لأغراض أخرى».

في آخر الرواق ليس بعيداً من القاعات الجماعية التي لا تتجاوز مساحتها 35 متراً مربعاً ويحشر فيها 200 شخص أو أكثر أحياناً بحسب المواسم، تصطف المنفردات فتبدو كأنها قبور منتصبة لا يمكن أن تتسع لحركة آدمي. ولكنها، وعلى الرغم من ذلك تبقى «مرتجى» كثيرين لأنها تبعد عنهم ولو قليلاً رعب البطانيات ذاك.

زنزانة منفردة في الفرع 215 بدمشق (الشرق الأوسط)

الرعب المعمّم خارج السجن

لعل أحد أوجه القسوة والترهيب المعمم في سوريا على مدى العقود الماضية، يكمن في اختيار مواقع هذه المعتقلات بين الأحياء السكنية في دمشق وتفرعات الشوارع كأنما لفرض التطبيع مع العنف الدائر داخلها. فإذا كان سجن صيدنايا بعيداً عن العين والمخيلة اليومية للناس العاديين، فإن هذه الأفرع تنتشر وسط العاصمة بمحاذاة حياة «طبيعية»، تجري خارجها.

فللوصول إلى الفرع 215 الواقع ضمن المربع الأمني بين حي كفرسوسة والمزة، الذي شكل المحطة الأولى في رحلة الاعتقال المستعادة مع منير، مررنا عبر «أوتوستراد المزة» الشهير وانعطفنا قليلاً ثم دخلنا من بوابة مفتوحة على الشارع كأننا نتوجه إلى أي دائرة حكومية في فضاء عام. ثم لدى انتهائنا من الزيارة وخروجنا من ظلمة السراديب إلى ضوء النهار، بدت فجأة من الجهة الخلفية مبانٍ إدارية تطل نوافذ مكاتبها على باحات هذا المكان، وكأننا بالموظفين يسترقون النظر إليه خلال استراحات القهوة والسجائر ثم يعودون هم أيضاً إلى عمل بيروقراطي متقن آخر.

وعلى الجانب الآخر، ثمة مبانٍ سكنية لها شرفات مظللة ضاقت بالغسيل المنشور عليها وتطل بدورها على الفرع. حمل مشهد الغسيل ألفة غامرة وخوفاً في آن.

عندها تصدق قصص كثيرة عن عائلات غيرت سكنها وباعت بيوتها لتتخلص من هذه الجيرة الثقيلة، ولعجز أفرادها عن الاستمرار في سماع صوت التعذيب المتسلل إلى غرف المعيشة وحجرات المنام.

كتاب «الاستخبارات المركزية الأميركية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» ضمن أمانات المعتقلين بالفرع 215 في دمشق (الشرق الأوسط)

«قسم الرضوض»... وصور قيصر

يفيد تعميم مسرب منتصف 2018، ومؤرخ في 18/12/2012 صادر عن رئاسة فرع المخابرات العسكرية بأنه «يطلب من جميع الأفرع الأمنية الخاضعة لها الإبلاغ عن وفاة أي سجين، في اليوم نفسه وإبلاغ رئيس الفرع شخصياً عبر (التلغرام) مع ذكر سبب الاعتقال ونتائج التحقيق وسبب الوفاة».

هذه وثيقة تستخدمها اليوم مجموعات حقوقية لمقاضاة الجناة دولياً، وتعدّ اعترافاً صريحاً بوقوع الوفيات، لكنها أيضاً إقرار بأن تلك الوفيات بأعدادها الهائلة، تجري بمعرفة وقرار مباشر من أعلى هرم القيادة.

ويعد الفرع 215 السابق الذكر محطة أساسية في «خط الإنتاج» ذاك، يليه «قسم الرضوض» في مستشفى المزة العسكري (يوسف العظمة سابقاً) المعروف بالـ601، «حيث يتم تخريج الوفيات بطريقة طبية أو يتم الإجهاز على المرضى بشكل طبي أيضاً»، بحسب ما يقول منير.

وكان «قسم الرضوض» استحدث بعد الثورة في 2011 ضمن المبنى القديم للمستشفى الذي يعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي لـ«معالجة» المعتقلين بعدما ارتفعت وتيرة التعذيب والقتل بشكل منهجي في الأفرع وأعداد الضحايا، وبرزت حاجة لـ«تصريف» الجثث وتخفيف الاكتظاظ. وذلك بالتزامن مع جعل «قسم الرضوض» مكاناً إضافياً للتعذيب «الطبي» هذه المرة، ثم حفظ الجثث وأرشفتها وترقيمها، وأبرزها تلك التي ظهرت في صور قيصر وتم تصويرها في باحة هذا المكان.

ويشرح منير دور الطاقم الطبي فيقول: «المشرفون على قسم الرضوض هم بشكل أساسي أمنيون وأطباء عسكريون، فالقسم يخضع لإدارتين أمنيتين هما: الأمن العسكري والأمن الجوي لكل منهما عزرائيل كما كنا نسميهما، لأنهما كانا كثيري القتل والتفنن به».

صور مفقودين عُلقت على جدران مستشفى المزّة العسكري - 601 في دمشق (الشرق الأوسط)

وبحسب منير، وهو ما تمت مقاطعته من مصادر أخرى أيضاً، كان عدد غير قليل من الأطباء والممرضين وحتى الممرضات متواطئين إلى حد بعيد مع العسكريين فكانوا «يرشدونهم» إلى طريقة ضرب تؤدي إلى نزف داخلي مثلاً أو فشل كلوي أو اختناق من دون أن تظهر بالضرورة على الجسد آثار تعذيب واضحة، ما يسهل تبرير سبب الوفاة في السجلات الرسمية، وتسجيلها وفاة طبيعية لتكتمل دورة العمل الإداري والبيروقراطي الدقيق.

لم يكن ممكناً دخول المستشفى لمعاينة «قسم الرضوض» الذي رقد فيه منير لفترة وقد كان في حالة سيئة جداً وخسر وزناً كثيراً. فقد أغلق المكان وتحول إلى مقر شبه عسكري تابع لـ«الهيئة». عند السور الحجري الكبير، علقت عشرات صور المفقودين وأسماؤهم وأرقام هواتف ذويهم علّ أحداً يتعرف عليهم أو يمكنه الإفادة بمصيرهم.

خلال انتظارنا لنحو ساعتين عند البوابة الرئيسية للمشفى، توافدت سيارات كثيرة بطلبات مختلفة من تسليم سلاح فردي، ومراجعين لأقسام طبية لم تعد موجودة، إلى موظفة سابقة تريد استعادة أغراض شخصية من مكتبها مقابل أن تسلم مفتاحها. كغيرها، عادت أدراجها خائبة، فوحده تسليم السلاح لقي تجاوباً وترحيباً من العناصر المسلحة.

أما منير، وقبل أن يعود إلى احتفالات ساحة الأمويين، توقف طويلاً عند لوحة رفعت على المدخل الرئيسي تقول: «إدارة المشفى تتمنى لمرضاكم الشفاء العاجل».

لافتة الاستقبال عند مدخل مستشفى المزّة العسكري - 601 في دمشق حيث جرت عمليات تعذيب وتصفية (الشرق الأوسط)