في زمنٍ تتغيّر فيه خريطة الطبّ بسرعة تفوق نبض المختبرات، وتتقدّم فيه الخوارزميات لتصبح أداة تشخيص لا تقلّ حضوراً عن يد الجرّاح، تتجه الأنظار -من مقاعد هارفارد إلى مختبرات وادي السيليكون- نحو منطقة أعادت ترتيب موقعها على الخريطة العلمية: السعودية.
لم يعد السؤال في أروقة الجامعات الأميركية: «ماذا تفعل المملكة في الذكاء الاصطناعي الطبي؟»، بل أصبح السؤال الأكثر صراحة: إلى أي مدى ستقود السعودية مستقبل هذا القطاع... لا أن تلحق به فقط؟

هارفارد: حين تصبح السعودية جزءاً من الحوار العلمي اليومي
لم يعد الحديث عن السعودية في أروقة كلية الطب بجامعة هارفارد مجرد ملاحظة عابرة، بل أصبح محوراً ثابتاً في نقاشات مستقبل الطب الرقمي.
وفي هذا السياق، أشاد البروفسور جورج كيو دالي عميد كلية الطب في جامعة هارفارد بأهمية التعاون البحثي السعودي–الأميركي في رسم ملامح الجيل الجديد من الطب المعتمد على الخوارزميات.
وأكد دالي أن السعودية «تتحرك بسرعة غير مسبوقة نحو بناء نموذج صحي رقمي متكامل»، مشيراً إلى أن الشراكات بين هارفارد والجامعات السعودية «ستُنشئ جيلاً جديداً من الأطباء، والباحثين القادرين على قيادة تحوّل عالمي في الطب الدقيق (Precision Medicine) والذكاء التنبّئي».
ويضيف البروفسور إسحاق كوهين من جهته، وهو أحد أبرز روّاد الذكاء الاصطناعي السريري (Clinical AI)، أن التعاون بين البلدين «يمثل نقطة انعطاف مهمة في تطوير النماذج التنبئية (Predictive Models)»، خصوصاً مع توفر قواعد بيانات واسعة تمكّن من بناء خوارزميات أكثر دقة.

«إم آي تي» و«مايو كلينك»: لماذا كل هذا الاهتمام؟
في معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT-Massachusetts Institute of Technology)، تشير البروفسورة ريجينا بارزيلاي من مختبر علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي (CSAIL-Computer Science and Artificial Intelligence Laboratory)-إلى أن «السعودية أصبحت من أوائل الدول التي تمتلك قدرة حقيقية على تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) لتشخيص السرطان، والأمراض المزمنة، اعتماداً على بيانات سكانية ضخمة، ومتنوعة».
أما في عيادة مايو كلينك (Mayo Clinic)، فيؤكد الباحثون اهتمامهم المتزايد بتطوير مشاريع مشتركة مع السعودية في طب القلب التنبئي (Predictive Cardiology)، والتحليل الجيني الدقيق (Precision Genomics)، وهما من أعمدة الطب الدقيق (Precision Medicine).
نيوم: مختبر المستقبل المفتوح
تسجّل نيوم حضوراً لافتاً في الأوساط العلمية الأميركية بوصفها واحدة من أهم المنصات العالمية لاختبار «الطب ما بعد الرقمي». وبحسب باحثين في هارفارد و«إم آي تي»، أصبحت نيوم ميداناً عملياً لتجربة الجيل الجديد من التقنيات، أبرزها:
* الجراحة الروبوتية (Robotic Surgery).
* تحليل الوجه والصوت للتشخيص (Facial and Voice Analytics).
* التوأمة الرقمية (Digital Twin) للأعضاء، والتنبؤ بمسار العلاج.
وهي مشاريع يرى العلماء الأميركيون أنها ستعيد تعريف العلاقة بين الطبيب والآلة خلال العقد المقبل.

أثر زيارة ولي العهد: من السياسة إلى المختبر
لا يرى الباحثون في هارفارد و«إم آي تي» و«مايو كلينك» زيارة ولي العهد بوصفها حدثاً سياسياً تقليدياً، بل يعتبرونها مؤشّراً استراتيجياً على ولادة محور علمي جديد يربط بين أقوى قوة تقنية في العالم (الولايات المتحدة)، وأسرع دولة في بناء نموذج صحي رقمي (السعودية).
ويشير أكاديميون في هارفارد إلى أن السعودية باتت «منصة تطبيقية مثالية» لاختبار تقنيات تحليل البيانات السريرية (Clinical Data Analytics)، والتوأم الرقمي (Digital Twin)، والخوارزميات التنبئية (Predictive Algorithms)، مدعومة ببنية صحية موحدة، واستثمارات متسارعة.
ويرى باحثو «إم آي تي» أن الشراكات العلمية المقبلة قد تفتح الباب أمام دراسات رائدة في الروبوتات الطبية (Medical Robotics)، والذكاء الاصطناعي السريري (Clinical AI)، مستفيدين من قدرة السعودية على التنفيذ السريع، وسعة نطاق التجارب.
ختاماً
يرى الخبراء الأميركيون أن السعودية لم تعد مجرّد مستهلك للتقنية، بل أصبحت طرفاً مشاركاً في صياغة فلسفة جديدة للطب قائمة على البيانات، والذكاء الاصطناعي، والابتكار المتسارع.
فالمعادلة لم تعد من يبتكر؟ ومن يتبع؟ بل أصبحت: من يملك الشجاعة لفتح مسارات جديدة في الرعاية الصحية؟
وكما قال ابن رشد: «العلم لا وطن له... لكنّ الفكرة تُولد حيث تُكرَّم العقول».



