أدوية الكوليسترول واحتمال التسبب في مرض السكري

ضرورة التعامل الطبي المتوازن في وصفها

أدوية الكوليسترول واحتمال التسبب في مرض السكري
TT

أدوية الكوليسترول واحتمال التسبب في مرض السكري

أدوية الكوليسترول واحتمال التسبب في مرض السكري

أدوية الستاتين Statin تخفض نسبة الكوليسترول في الدم، عبر خفض إنتاج الكبد له. وهي وإن ظهرت لأول مرة على خشبة المسرح الطبي لمعالجات ارتفاع الكوليسترول في عام 1987، فإنها تعتبر حتى اليوم حجر الزاوية في معالجة ارتفاع الكوليسترول، والمرتكز الأساسي في خفضه. والسبب أن المصدر الأكبر للكوليسترول (80 في المائة) في الجسم هو من الإنتاج الداخلي في الكبد له، بينما لا يمثل الغذاء المحتوي على كميات عالية من الكوليسترول سوى مصدر لأقل من 20 في المائة من الكوليسترول في الدم.

الستاتين والسكري

وترتفع أهمية العمل على خفضه «بصرامة» -وخصوصاً الكوليسترول الخفيف الضار LDL- لدى الأشخاص الأعلى عُرضة للتضرر المهدد لسلامة الحياة نتيجة ارتفاعه، وتحديداً مرضى شرايين القلب ومرضى السكتات الدماغية، ومرضى السكري، ومرضى ارتفاع ضغط الدم، ومرضى ضعف الكلى. أي لدى طيف واسع جداً من عموم المرضى.

ولكن ثمة إشكالية تتمثل في احتمالات تسبب تناول أحد أنواع هذه الأدوية الخافضة للكوليسترول، بالإصابة الجديدة بمرض السكري، أي بين الذين كانوا قبل ذلك خالين من هذا المرض.

وثمة كثير من الدراسات الطبية حول هذا الأمر. وتناولت الأوساط الطبية هذا الموضوع منذ مدة، بمناقشات علمية وإكلينيكية مستفيضة. وقرأت نتائج الدراسات تلك، وكيفية إجرائها، وراجعت بياناتها، وكيفية التوصل إلى استنتاجاتها. ووضعت نصائح عملية وواقعية للممارسات الإكلينيكية حيالها، تتسم بالتوازن بين الحصول على المكاسب وتقليل احتمالات حصول الأضرار الجانبية.

ولكن الدراسات التي تربط الستاتين بمرض السكري لا تزال تحظى باهتمام وسائل الإعلام، بدرجات مختلفة في دقة العرض. وفي حالات التقارير الإعلامية غير الدقيقة، حول عرض العلاقة «المحتملة» بين أدوية الستاتين والإصابة بمرض السكري، يمكن أن تؤدي إلى شعور بعض من المرضى بالقلق، وربما حتى التوقف عن تناول أدوية الستاتين، وبالتالي ترك أنفسهم عُرضة للمخاطر الصحية «الحقيقية» لارتفاع الكوليسترول.

وصحيح أن ذلك الاحتمال بتسبب الإصابة بالسكري لا ينبغي له أن يصرف انتباه الأطباء عن هدف الحد من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية كأولوية قصوى، عبر العمل الدؤوب على خفض ارتفاع الكوليسترول، إلا أن من المفيد مناقشة هذا الاحتمال مع المريض. وذلك لتوضيح أن أدوية الستاتين ثبت أنها تقلل من الإصابات بتداعيات أمراض القلب والأوعية الدموية ومن الوفيات أيضاً، ولا ينبغي أن يتعارض تناولها بوصفها علاجاً ضرورياً، مع احتمال الإصابة بمرض السكري، لأن بإمكانها الحد من أمراض القلب والأوعية الدموية وفق توصيات الطبيب، من خلال المتابعة معه في العيادة.

توعية بالإجراءات الوقائية

وكذلك بالإمكان الحد من احتمالات تسببها في مرض السكري، أيضاً عن طريق استمرار المتابعة مع الطبيب، واتخاذ المريض عدداً من الإجراءات الوقائية.

وهذه الإجراءات الوقائية هي بالأصل ضرورية لكل المرضى، بغض النظر عن موضوع علاقة تناول أدوية الستاتين بالإصابة بمرض السكري، مثل الاهتمام الشديد باتباع السلوكيات الصحية في نمط عيش الحياة اليومية، عبر الحاجة إلى تكثيف الجهود لإنقاص الوزن، وتحسين النظام الغذائي، وزيادة ممارسة التمارين الرياضية.

وفي مقالة علمية بعنوان «خطر الإصابة بمرض السكري مع الستاتينات»، تم نشرها ضمن عدد 12 مايو (أيار) الماضي من المجلة الطبية البريطانية BMJ، أفاد باحثون من الولايات المتحدة وأستراليا بأن تناول أدوية الستاتين لخفض الكوليسترول يرتبط بزيادة «طفيفة» في خطر الإصابة الجديدة بمرض السكري، والذي يكون أعلى لدى الأشخاص الذين لديهم عوامل خطر أخرى للإصابة بمرض السكري، أو الذين يتناولون جرعات عالية من أدوية الستاتين، أو المتقدمين في السن.

تعديل سلوكيات الحياة

ونصحوا بأنه عند بدء المريض في تناول أدوية الستاتين، يجب التأكيد عليه بأهمية إجرائه تعديلات واضحة على سلوكيات نمط الحياة، بما في ذلك اتباع نظام غذائي صحي وممارسة النشاط البدني. هذا مع مراقبة مستويات الغلوكوز في الدم عند بدء العلاج بالستاتين أو زيادة جرعاته.

وفي تحديثاتها هذا العام لبيانها بشأن «ملف السلامة الخاص بالستاتينات: فائدة كبيرة مع مخاطر منخفضة»، أفادت رابطة القلب الأميركية AHA بأن الإصابة بمرض السكرى تحتل المرتبة الثانية من بين مخاطر تناول أدوية الستاتين التي يجدر بالرابطة الحديث عنها وتوضيح موقفها حيالها.

وقالت الرابطة: «يقدم البيان العلمي الصادر عن رابطة القلب الأميركية دليلاً على وجود حد أدنى من المخاطر، 0.2 سنوياً، للإصابة بداء السكري الذي تم تشخيصه حديثاً بعد تناول علاج الستاتين». أي أن من بين كل 1000 مريض بدأوا تناول أدوية الستاتين ولم يكن لديهم مرض السكري، فإن تناول أدوية الستاتين ارتبط بحصول إصابة مريضين جديدين بمرض السكري. ولكن في الوقت نفسه، استفاد نحو 7 مرضى من تناول أدوية الستاتين في منع إصابتهم بالسكتة الدماغية أو نوبة الجلطة القلبية أو الحاجة إلى إجراءات تدخلية أو جراحية لمعالجة تضيقات شرايين القلب.

وأفادت رابطة القلب الأميركية بأن: «آليات التأثير المتسبب في مرض السكري للستاتينات لا تزال غير واضحة». إلا أنها أوضحت قائلة: «ويكون في الغالب بين المرضى الذين لديهم عوامل خطر موجودة مسبقاً لتطوير الإصابة بمرض السكري، مثل البالغين الذين يعانون مسبقاً من حالة ما قبل السكري Pre-Diabetes، أو الذين لديهم متلازمة الأيض Metabolic Syndrome». ولذا تلخصت نصيحتها «الدقيقة والعملية والمتوازنة» بالقول: «من بين المرضى الذين يتناولون أدوية الستاتين، والذين لديهم عوامل خطر للإصابة بمرض السكري، من الحكمة مواصلة (اتباع خطوات) الوقاية بشدة، من خلال تعديل نمط الحياة (فقدان الوزن إذا لزم الأمر وممارسة التمارين الرياضية بشكل أفضل) والفحص الدوري لمرض السكري (تحليل تراكم السكر في الهيموغلوبين HbA1c وقياسات نسبة السكر في الدم)».

عوامل خطر السكري

ومعلوم أن «متلازمة الأيض» هي مجموعة من المشكلات التي تحدث معاً، وتزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية ومرض السكري من النوع الثاني. وتشمل تلك المشكلات ارتفاع ضغط الدم، وارتفاع السكر في الدم، وزيادة دهون الجسم في منطقة البطن، ومستويات غير طبيعية من الكوليسترول أو الدهون الثلاثية. كما أن من المعلوم أن حالة «ما قبل السكري» هي المرحلة المرضية التي تُسبب ارتفاع سكر الدم لمستويات أعلى من الطبيعي؛ لكنها لا تصل إلى حد مستوى تشخيص الإصابة بمرض السكري من النوع 2. وأن ترك هذه الحالة دون إجراء تغييرات في نمط الحياة، يجعل البالغين والأطفال ممن لديهم حالة «ما قبل السكري»، عرضة بشكل أكبر لخطر الإصابة بمرض السكري من النوع 2.

وتتوافق هذه النصيحة مع نصيحة إدارة الغذاء والدواء الأميركية FDA عند حديثها عن التقارير حول زيادة مخاطر ارتفاع مستويات الغلوكوز في الدم وزيادة تراكم السكر في الهيموغلوبين؛ حيث قالت إدارة الغذاء والدواء الأميركية إنها «لا تزال تعتقد أن فوائد أدوية الستاتين على القلب والأوعية الدموية تفوق هذه المخاطر الصغيرة المتزايدة».

وكذلك في تحديثها للنصائح الطبية للمرضى الصادرة هذا العام، في الإجابة على سؤال: «هل يمكن للستاتينات Statins زيادة نسبة السكر في الدم؟»، أفادت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها الأميركية CDC قائلة: «يعد وجود مستويات صحية من الكوليسترول والسكر في الدم أمراً مهماً لتقليل خطر الإصابة بأمراض القلب. ووجدت بعض الأبحاث أن استخدام أدوية الستاتين يزيد من نسبة السكر في الدم؛ لأن استخدام أدوية الستاتين يمكن أن يمنع الإنسولين في الجسم من القيام بعمله بشكل صحيح. وهذا يمكن أن يعرض الأشخاص الذين يستخدمون أدوية الستاتين لخطر الإصابة بمرض السكري من النوع 2. وعلى الرغم من المخاطر، فلا يزال استخدام أدوية الستاتين موصى به لعديد من الأشخاص المصابين بداء السكري وغير المصابين به، والذين يعانون من ارتفاع نسبة الكوليسترول في الدم. وذلك لأنه على الرغم من وجود مخاطر عند تناول هذا الدواء، فإن هناك مخاطر محتملة أكبر إذا لم تتناوله، مثل الإصابة بنوبة قلبية أو سكتة دماغية. وتذكر أن كل شخص مختلف عن غيره؛ لذا الأفضل دائماً التحدث مع طبيبك حول المخاطر والفوائد الفردية لتناول أدوية الستاتين».

التعديلات الواضحة على سلوكيات نمط الحياة تقلل من تأثير أدوية الستاتين

أدوية الكوليسترول والتسبب في مرض السكري... «إعلام الحقائق الإكلينيكية»

ربما يكون النموذج الأمثل للإثارات الإعلامية حول مدى تقديم المعلومات الطبية الصحيحة، هو طرح العلاقة بين تناول أدوية الستاتين والاحتمالات الضئيلة للتسبب في الإصابة بمرض السكري.

ووفق ما أشارت إليه رابطة القلب الأميركية في «سلامة أدوية الستاتين والأحداث السلبية المرتبطة بها: بيان علمي من رابطة القلب الأميركية»، فإن أمراض القلب والأوعية الدموية تظل السبب الرئيسي للوفاة في العالم، وقد أحدثت أدوية الستاتين فرقاً كبيراً في معالجتها وخفض الإصابات بها، وأيضاً خفض تكرار حصولها أو حصول تداعياتها. وأشار البيان إلى أن «أدوية الستاتين الأكثر فعالية تنتج انخفاضاً في كوليسترول البروتين الدهني منخفض الكثافة بنسبة 55- 60 في المائة»، وهو ما كان له «تأثير كبير في الحد من الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، وكذلك الحد من الوفاة بسبب أمراض القلب والأوعية الدموية».

ومع ذلك، أشار البيان إلى أن «الدراسات... أبلغت عن زيادة في عدد المرضى الذين توقفوا عن تناول أدوية الستاتين، بعد التغطية الإعلامية السلبية. وأبلغت عن زيادة في حصول أحداث الأوعية الدموية الكبرى السلبية بعد التوقف عن العلاج بأدوية الستاتين».

وأوضح التقرير أن خطر إصابة المرضى الذين يتناولون أدوية الستاتين بمرض السكري «يقتصر إلى حد كبير على المرضى الذين لديهم مسبقاً عددٌ من العوامل التي ترفع بالأصل من خطر الإصابة بمرض السكري». كما أوضح أن الخطورة السنوية المطلقة لاحتمالات الإصابة بمرض السكري، لدى هذه الفئة من المرضى الذين هم بالأصل لديهم عدد من العوامل التي ترفع من احتمالات الإصابة بالسكري، هي 2 لكل 1000 مريض يتناولون أدوية الستاتين.

وأضاف التقرير أيضاً موضحاً أن حجم هذا الاحتمال في التسبب بحصول مرض السكري، يعتمد على الممارسة الإكلينيكية الروتينية في متابعة المرضى، والكشف الدوري عن أي اضطرابات في مستويات سكر الدم، ومدى العمل على اتباع السلوكيات الصحية في نمط الحياة اليومية. وخلص التقرير إلى أن: «العلاج بأدوية الستاتين يقلل بشكل كبير من حصول مضاعفات وتداعيات أمراض شرايين القلب والشرايين الأخرى في الجسم، والتي من بينها الدماغ، لدى أولئك الذين يعانون من مرض السكري أو لا يعانون منه.

إضافة إلى ذلك، عند النظر في الزيادة في حالات مرض السكري التي تم تشخيصها حديثاً، من المهم أن نلاحظ أن هذا يمثل حدثاً أقل دراماتيكية وتهديداً بكثير من حدوث نوبة الجلطة القلبية المؤدية إلى احتشاء عضلة القلب Myocardial Infarction أو السكتة الدماغية Stroke أو الوفاة بسبب القلب أو الأوعية الدموية Cardiovascular Death.

وكما تقول الدكتورة كوني بي نيومان، من كلية الطب بجامعة نيويورك، والتي ترأست لجنة خبراء كتابة البيان: «يوفر البيان العلمي لرابطة القلب الأميركية أساساً قائماً على الأدلة لتقديم المشورة للمرضى».

وهو ما علقت عليه الدكتورة سافيثا سوبرامانيان (أستاذة مشاركة في الطب، قسم التمثيل الغذائي والغدد الصماء والتغذية، جامعة واشنطن بسياتل) قائلة: «إذا كان شخص ما يحتاج إلى عقار ستاتين، فإن الأمر دائماً ما يكون بمثابة مناقشة مع المريض. يجب عليك التحدث مع المرضى؛ لأن هناك كثيراً من المعلومات؛ خصوصاً على الإنترنت. لدى الناس كثير من الآراء، ولسوء الحظ، تعرضت أدوية الستاتين لكثير من الانتقادات، على الرغم من أنها مفيدة جداً».


مقالات ذات صلة

لمحاربة «اكتئاب ما بعد الولادة»... مارسي الرياضة لأكثر من ساعة أسبوعياً

صحتك الأمهات الجدد يمكنهن استئناف ممارسة الرياضة بالمشي «اللطيف» مع أطفالهن (رويترز)

لمحاربة «اكتئاب ما بعد الولادة»... مارسي الرياضة لأكثر من ساعة أسبوعياً

تشير أكبر دراسة تحليلية للأدلة إلى أن ممارسة أكثر من ساعة من التمارين الرياضية متوسطة الشدة كل أسبوع قد تقلل من شدة «اكتئاب ما بعد الولادة».

«الشرق الأوسط» (أوتاوا)
عالم الاعمال «فقيه» تختتم أعمال مؤتمرها الثالث باتفاقيات نوعية لمشروعات واعدة

«فقيه» تختتم أعمال مؤتمرها الثالث باتفاقيات نوعية لمشروعات واعدة

اختتمت مجموعة «فقيه» للرعاية الصحية، الأربعاء، أعمال مؤتمرها السنوي الثالث، الذي عقد بمشاركة نخبة من الخبراء السعوديين والدوليين المتخصصين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
صحتك النوم خلال اليوم قد يشير إلى أنك معرّض لخطر أكبر للإصابة بالخرف (أرشيفية - رويترز)

النوم خلال اليوم قد يشير إلى ارتفاع خطر إصابتك بالخرف

إذا وجدت نفسك تشعر بالنعاس خلال اليوم، أثناء أداء أنشطتك اليومية، فقد يشير ذلك إلى أنك معرَّض لخطر أكبر للإصابة بالخرف، وفقاً لدراسة جديدة.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق جانب من «مؤتمر الطبّ التجميلي» الذي استضافته الرياض (الشرق الأوسط)

جراحات التجميل للرجال في السعودية... إقبالٌ لافت لغايات صحّية

احتلّت السعودية عام 2023 المركز الثاني عربياً في عدد اختصاصيي التجميل، والـ29 عالمياً، في حين بلغ حجم قطاع الطبّ التجميلي فيها أكثر من 5 مليارات دولار.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
صحتك بعض الأطعمة يسهم في تسريع عملية الشيخوخة (رويترز)

أطعمة تسرع عملية الشيخوخة... تعرف عليها

أكدت دراسة جديدة أن هناك بعض الأطعمة التي تسهم في تسريع عملية الشيخوخة لدى الأشخاص بشكل ملحوظ، داعية إلى تجنبها تماماً.

«الشرق الأوسط» (روما)

7 معلومات عن أنواع جراحات شرايين القلب التاجية وطرقها

7 معلومات عن أنواع جراحات شرايين القلب التاجية وطرقها
TT

7 معلومات عن أنواع جراحات شرايين القلب التاجية وطرقها

7 معلومات عن أنواع جراحات شرايين القلب التاجية وطرقها

تظل العبارة الذهبية طبياً: «النهج العلاجي الأفضل هو إجراء ما هو ملائم ومفيد للمريض». كما تبقى السمة الأبرز للتوصية في اختيار المقاربات الجراحية هي: «تخصيص الإجراء للمريض، بدلاً من (تخصيص) المريض وفقاً للإجراء».

تصميم نهج المعالجة

ولذا؛ عند التعامل العلاجي مع واقع الحالة المرضية القلبية، فإن «الشيء يُبنى على مقتضاه». ويتم النظر أولاً إلى المعطيات الصحية لدى المريض، وجوانب عدة من الحالة المرضية لديه، ثم عليها يُبنى تصميم نهج المعالجة.

وما يحاول طبيب القلب فعله هو «تدوير الزوايا الحادة» التي تفرضها أمراض القلب على صحة المريض في المديين المنظور والبعيد. وكلما تناقصت «حدة الزوايا» المرضية تلك، ارتفعت فرص تحسين جودة الحياة اليومية والتوقعات المستقبلية لدى المرضى. وهو ما يتم تطبيقه بدقة عند النظر في معالجة أمراض شرايين القلب التاجية.

وعلى الرغم من الاعتماد الأساسي على «المعالجات التحفظية» Conservative Management بالأدوية وتبني السلوكيات الصحية في نمط عيش الحياة اليومية، فإن ذلك قد لا يُفلح في بعض حالات أمراض شرايين القلب المتقدمة، لتخفيف أو إزالة عبئها المرضي على سلامة القلب ومعاناة المريض منها. وهو الأمر الذي يضطر الطبيب إلى الاستعانة إما بالمعالجات التدخلية Invasive Management من خلال القساطر التي تصل إلى داخل القلب، أو الاستعانة بالتدخل الجراحي المباشر، لإعادة أوضاع حالة القلب إلى النصاب الذي يُمكّن المريض من تجاوز الانتكاسات الصحية وعودته إلى ممارسة حياته الطبيعية بأقصى قدر ممكن.

جراحات القلب والشرايين التاجية

ودون الحديث عن المعالجات الجراحية لأمراض صمامات القلب أو العيوب الهيكلية أو العيوب الخلقية في القلب، إليك المعلومات التالية عن الجراحات القلبية لأمراض الشرايين التاجية الأكثر شيوعاً:

1. جراحة القلب. هي أي عملية جراحية تتضمن القلب أو الأوعية الدموية المتصلة به مباشرة. وتُجرى لتصحيح مشاكل القلب وتحسين طريقة عمله، حينما تكون الجراحة هي الطريقة الأفضل أو الوحيدة لذلك.

ويعتمد نوع جراحة القلب التي يخضع لها المريض، على المشكلة القلبية الأساسية أو مجموعة المشاكل القلبية لديه. وهي جراحة معقدة، وتتطلب عمل فريق طبي واسع، ذي خبرة متخصصة. وهي أيضاً حدث رئيسي في حياة المريض، يمنحه فرصة جديدة تماماً للحياة.

وفي كل عام، يخضع أكثر من مليونَي شخص حول العالم لجراحة القلب المفتوح لعلاج مشاكل القلب المختلفة، وخصوصاً الشرايين التاجية. لكن يظل مصطلح «جراحة القلب» مبهماً لدى المرضى في جوانب عدة منها، وخصوصاً مع التطورات المتلاحقة فيها. والأهم، مع اختلاف تفضيلات جراحي القلب للمقاربات الجراحية عند التخطيط لطريقة إجراء العملية، وفق معطيات مختلفة لدى كل مريض على حدة. وهذا ما يجعل ذكر «جراحة القلب» مثيراً للتوتر، وربما التخوف والتحاشي، لدى بعض المرضى. وما يثير أيضاً تساؤلات عن دواعي اختلاف طرق إجرائها على الرغم من أن الخطوط الرئيسية لإجراء الأنواع المختلفة من عمليات القلب، واضحة في الخطوات والمسارات الرئيسية.

2. فريق طبي متمرس. يتطلب النجاح في جراحة القلب وجود فريق طبي متجانس مارس عدداً كبيراً من الحالات، من أجل الوصول إلى أفضل النتائج. وتتنافس مراكز القلب في تكوين هذا الفريق الذي يضم أطباء تشخيص وعلاج ومتابعة أمراض القلب لمرحلة ما قبل الجراحة، ثم فريق غرفة العمليات المكون من الجراحين والتقنيين واختصاصيي التخدير، ثم فريق مرحلة ما بعد الجراحة المكون من أطباء الرعاية الحرجة، وطاقم الرعاية الصحية المساعدة خلال ما بعد العملية إلى حين الخروج من المستشفى. وبعد أن يغادر المريض المستشفى، هناك فريق أطباء القلب لضمان استمرار المتابعة في تقديم الرعاية القلبية.

وقبل الجراحة، يطلب طبيب القلب إجراء فحوص واختبارات عدة، لتحديد نوع جراحة القلب التي تناسب المريض بشكل أفضل. واعتماداً على مشكلة القلب لدى المريض والمعطيات الصحية الأخرى لديه، يقرر جراح القلب الطريقة التي سيُجري بها الجراحة، وفق احتياج معالجة المريض. ثم يتولى عرض الأمر بتفاصيله على المريض لأخذ الموافقة المشفوعة بالعلم منه.

طرق جراحية لإصلاح القلب

3. في العموم، يمكن علاج الكثير من أمراض القلب بإحدى الطرق الجراحية الملائمة. وإضافة إلى معالجة أمراض الشرايين التاجية، ثمة ما يلي من العلاجات الاخرى:

- إصلاح أو استبدال صمامات القلب التي تضبط تدفق الدم عبر حجرات القلب

- إصلاح الهياكل غير الطبيعية أو التالفة في أجزاء عدة من القلب

- إصلاح العيوب الخلقية في أجزاء مختلفة من القلب والأوعية الدموية الكبيرة المتصلة به

- إصلاح تمدد الأوعية الدموية (انتفاخات في جدران الشرايين)

- زرع أجهزة طبية تساعد في التحكم في ضربات القلب أو أجهزة دعم وظيفة القلب وضمان تدفق الدم

- استبدال القلب التالف بقلب سليم من متبرع (زراعة القلب)

وكما هو الحال مع أي نوع من الجراحة التي تشمل القلب، هناك بعض المخاطر. وبالنسبة للكثير من الأشخاص، تكون نتائج جراحة القلب ممتازة. ويمكن لجراحة القلب تقليل الأعراض وتحسين نوعية الحياة وتحسين فرص البقاء على قيد الحياة. لكن تكون المخاطر أعلى عموماً إذا أجريت الجراحة في حالة طارئة (كعلاج نوبة قلبية). وأيضاً تكون المخاطر أعلى مع تواجد أمراض مرافقة عميقة التأثير صحياً (مرض السكري، ضعف الكلى، أمراض مزمنة في الرئتين، وغيرها).

جراحة الشرايين التاجية

4. معالجة مرض شرايين القلب التاجية جراحياً. وهي تُسمى جراحة «التخطي» Heart Bypass Surgery أو «مجازة الشريان التاجي» CABG. ومرض القلب التاجي يحدث عندما لا تستطيع الشرايين التاجية Coronary Arteries توصيل ما يكفي من الدم، الغني بالأكسجين، إلى القلب.

واعتماداً على مدى خطورة حالة المريض وأعراضه، يُلجأ إلى التدخل الجراحي. وللتوضيح، يُحاول أطباء القلب التعامل مع تضيقات أو انسدادات الشرايين التاجية، إما بالعلاج الدوائي، أو بالعلاج التدخلي من خلال القسطرة لتركيب دعامات معدنية تضمن تدفق الدم من خلال تلك الشرايين. وعندما لا يُفلح الأمر، أو لأن التضيقات ذات طبيعة من الصعب التغلب عليها بالدعامات، يتم اللجوء إلى الجراحة، ويتم أيضاً تحديد الطريقة الأفضل للمريض في إجراء الجراحة.

وهذا أمر يُناقشه أطباء القلب وأطباء جراحة القلب، ثم يُعرض على المريض ما يستقر عليه الرأي الطبي في معالجة شرايين القلب التاجية لديه. وفي هذه الجراحة تُستخدم الأوعية الدموية السليمة المأخوذة من جزء آخر من الجسم، وتُربط بالأوعية الدموية أعلى وأسفل الشريان المسدود أو المتضيق بشدة. وهذا يوفر طريقاً جديدة لتدفق الدم، تتجاوز مناطق الضيق أو السدد. والأوعية الدموية المُستخدمة، عادة ما تكون شرايين إما موجودة داخل القفص الصدري أو شرايين مأخوذة من الساعد، أو أوردة مأخوذة من الساقين. وثمة طرق عدة لإجراء عملية شرايين القلب، كما سيأتي.

طرق جراحة القلب المفتوح

5. جراحة مجازة الشريان التاجي التقليدية، وتسمى أيضاً جراحة القلب المفتوح بشق الصدر Open-Heart Surgeries. ويُجري الجرَّاح في العادة شقاً طويلاً في منتصف الصدر، يشمل الجلد وطول عظمة «القص» الأمامية Sternum Bone. ثم يفتح الجرَّاح القفص الصدري للكشف عن القلب والعمل عليه مباشرة.

وفي الطريقة الأولى للجراحة، يتم وبعد فتح الصدر، وبالتزامن إيقاف عمل القلب مؤقتاً بفعل البوتاسيوم والأدوية وتبريد القلب، وتشغيل جهاز مضخة القلب والرئة Heart Lung Machine. وهذا الجهاز يعمل على ضخ الدم للجسم (عند الإيقاف المتعمد للقلب) بشكل مؤقت (خلال العملية فقط)؛ كي يحافظ على تدفق الأكسجين إلى كل أنحاء الجسم أثناء الجراحة. ويطلق على هذه الطريقة الأولى للجراحة، جراحة مجازة الشريان التاجي بالمضخات On-Pump.

وبعد انتهاء الجراحة في القلب نفسه، يعيد الجراح إلى القلب قدرة النبض عبر الإنعاش، وهو ما يأخذ بعض الوقت. ثم يوقف جهاز مضخة القلب والرئة الخارجي بالتدرج، وفق تدرج عودة القلب إلى سابق قوته. ثم تبدأ مرحلة الإقفال الجراحي، حيث يستخدم الجرَّاح خيطاً جراحياً معدنياً لإغلاق عظم الصدر (الذي يظل طوال العمر تحت الجلد في الجسم بعد التئام العظم). ثم يتم إقفال فتحة الجلد الطويلة بخيط قابل للامتصاص أو الإزالة لاحقاً. وعادةً، تستغرق جراحة مجازة الشريان التاجي من ثلاث إلى ست ساعات تقريباً.

وتتوقف مدة جراحة القلب المفتوح على عدد الشرايين المسدودة، وإذا ما كان ثمة صمامات قلبية تحتاج إلى الزراعة.

أما الطريقة الثانية، فهي إجراء جراحة مجازة الشريان التاجي «دون مضخة» Off-Pump. وهي خطوات جراحة القلب المفتوح نفسها مع عدم استخدام آلة لضخ الدم، وإبقاء القلب ينبض بشكل طبيعي. وهي أحد أنواع جراحات القلب النابض. لكن هذا النوع من الجراحة قد يكون صعباً، بسبب استمرار القلب في الحركة، على الرغم من استخدام الجراح آلة لتثبيت القلب. وهي ليست من الخيارات المناسبة لكل المرضى، لأسباب عدة.

الجراحة بالمنظار أو الروبوت

6. جراحة بالمنظار. وهذه هي الطريقة الثالثة، وهي إجراء جراحة مجازة الشريان التاجي من النوع «الأقل توغلاً» Minimally Invasive، بالمنظار أو بشكل مباشر. وهنا لا يتم إجراء شق الصدر من الأمام بفتحة كبيرة وشق عظمة القص الأمامية. أي لا تنطوي هذه الطريقة على كسر العظام أو إحداث شق جلدي كبير في أمام الصدر. بل يتم إجراء شقوق جراحية صغيرة جانبية، غالبا صغيرة وربما أحدها أكبر، وفق متطلبات طرق متعددة في هذا النهج الجراحي. ثم قد تتم الجراحة المباشرة أو الجراحة بالمنظار.

وعادة تكون «دون مضخة» الجهاز القلبي الرئوي، وفي أحيان أخرى باستخدام المضخة عبر فتحات شريانية ووريدية من مناطق أخرى من الجسم. ويُتم جراح القلب إجراء الخطوات الجراحية المطلوبة لعلاج الشرايين التاجية المريضة. لكن من الضروري التنبه إلى أن جراحات القلب «الأقل توغلاً»، لا تلائم، أو ليس بالإمكان إجراؤها لكثير من حالات أمراض القلب التي تتطلب الجراحة، للكثير من الأسباب التقنية والأسباب المرضية لدى المريض. وهذا جانب تتم مناقشته مع المريض. ويظل الأساس أن بالعمليات «الأقل توغلاً» تصبح المدة الإجمالية للإقامة في المستشفى أقصر. كما تصبح مدة استخدام جهاز التنفس الاصطناعي أقصر، ويقل معها ألم ما بعد العملية، وتتدنى كمية النزيف الدموي بشكل كبير، وتقل احتمالية الإصابة بعدوى، واحتمالات الإصابة باضطراب عابرة في إيقاع نظم نبض القلب بعد الجراحة. وتقل أيضاً مدة البقاء في وحدة العناية المركزة.

وكذلك، فإن هذه الطريقة أفضل من الناحية التجميلية الخارجية لحجم ندبة الجرح. ويبلغ إجمالي مدة الإقامة في المستشفى نحو ثلاثة أيام. وتتحسن جودة الحياة بشكل عام، مع إمكانية العودة إلى العمل في وقت أسرع (العودة في غضون أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع من الجراحة).

7. جراحة الروبوت. والطريقة الرابعة هي إجراء جراحة مجازة الشريان التاجي بمساعدة الروبوت. والروبوتات هي أحدث ما توصلت إليه الجراحات «الأقل توغلاً». لكن كونها الأحدث لا يعني تلقائياً أنها الأفضل للمريض، أو أنها مناسبة لكل مريض، أو أنها الأفضل في النتائج قريبة وبعيدة المدى، مقارنة بالطرق الجراحية الأخرى.

والروبوت في الحقيقة مكوّن من ثلاث أذرع، تمثل امتداداً ليد الجراح، وذراع رابعة تمثل كاميرا تنقل الصورة داخل الصدر إلى شاشة وحدة التحكم أمام الجراح. ويتطلب النجاح في جراحة القلب الروبوتية وجود فريق متجانس، والأهم أنه مارس عدداً كبيراً من الحالات، من أجل الوصول إلى أفضل النتائج. ويقوم بالعملية جراحان اثنان غالباً. أحدهما بجانب طاولة العمليات، والآخر أمام وحدة التحكم.

وثمة دواعٍ محددة لقدرة إجراء عمليات جراحة مجازة الشريان التاجي روبوتياً. وهناك كثير من المرضى الذين لا يمكنهم الخضوع لجراحة القلب الروبوتية. وخصوصاً عندما يكونون في حاجة إلى إجراءات متعددة، كمجموعة من جراحة المجازة التاجية والصمامية، فإن هذا قد يفوق قدرة الروبوت. ويُشار إلى أن المرضى الذين خضعوا لجراحة قلبية سابقة، أو الذين خضعوا لعملية سابقة تتضمن شقّاً في الجانب الأيسر من الصدر، قد لا يكونون مؤهلين أيضاً للخضوع للجراحة باستخدام الروبوت في الوقت الحالي. وقد لا يكون المرضى المصابون بزيادة الوزن أو السمنة المفرطة أو أمراض مزمنة ومؤثرة على وظائف الرئة أو أمراض الأوعية الدموية الطرفية الشديدة، مؤهلين لإجراء هذه العمليات أيضاً لأسباب عدة. وتختلف المراكز الطبية العالمية في قدرات الفريق الجراحي في كل منها، في إجراء أنواع محددة من الجراحات القلبية.