الحافلة التي اقتحمها شابان فلسطينيان من الضفة الغربية وأطلقا الرصاص على ركابها، وقتلا بذلك 6 إسرائيليين قبل أن يقتلهما جندي ومواطن إسرائيليان، تختزل قصة القدس في هذه الأيام. هي حافلة ركاب عمومية تحمل رقم الخط 62، تنطلق في كل يوم نحو 20 مرة من منطقة أحياء بيت حنينا والنبي صموئيل وبعض المستوطنات المجاورة، باتجاه حي رموت الواقع على الخط الأخضر، ما بين القدس الغربية والقدس الشرقية المحتلة منذ عام 1967. ويسكن هذه الأحياء يهود وعرب كثيرون.
غالبية سائقي الحافلات عرب من فلسطينيي القدس الذي يتعرضون لكثير من الاعتداءات العنصرية من نشطاء اليمين المتطرف. يُستخدم هذا الخط لخدمة المرضى اليهود والعرب الذين يقصدون تلقي العلاج الطبي في مستشفى «شعاري تسيديك» الذي يعمل فيه كثير من الأطباء والفرق الطبية من اليهود والعرب.

بالصدفة لم يمت عرب هذه المرة، ولكن بعضهم بين الجرحى، وطواقم الإنقاذ التي هرعت لتقديم الإسعاف الأوَّلي، فيها كثير من الممرضين العرب.
مأساة كبيرة، تنهار فيها عائلات بكاملها؛ العائلات اليهودية التي وقع أبناؤها قتلى، والعائلات الفلسطينية التي بدأ مسلسل الانتقام الإسرائيلي منها. فالجيش باشر على الفور الإعداد لهدم البيتين اللذين انطلق منهما منفذا العملية، وتم تطويق القريتين بالكامل، ونفَّذ الجنود الإسرائيليون عمليات تنكيل بالأهالي الفلسطينيين من كل العائلات، وتم إغلاق كل مدن وقرى الضفة الغربية إلى أجل غير مسمى.
عدة تنظيمات فلسطينية مسلحة خرجت ببيانات احتفالية بالعملية، لتعبر عن فرحتها بالانتقام لأهل غزة، وتبارك منفذيها باسم أهل القطاع المنكوبين، والجيش الإسرائيلي راح ينتقم ويستقوي على المواطنين الفلسطينيين المستضعفين.
نتنياهو يستثمر ويصفي الحسابات
ولكن لا أحد يستثمر في هذه العملية بمقدار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. فقد هرع إلى مكان العملية، محاطاً بأكبر عدد من الحراس، ليهدد ويتوعد ويتباهى بأنه واصل وسيواصل الحرب؛ حيث اعتبر القدس جبهة ثامنة، وأكد أن ضرباته على الفلسطينيين أقوى من ضرباتهم عليه. واستخدم آية من التوراة تقول: «نضربهم ساقاً على فخذ ضرباً عظيماً».
ولم يكتفِ نتنياهو بذلك؛ بل أفشى عن هاجسه الأكبر في هذه الحقبة من التاريخ، وسط استهجان عظيم من الإسرائيليين، القضاة الذين يحاكمونه بتهم الفساد. أمر لا يصدق؛ لكنه حصل.

ففي هذا اليوم كان يفترض أن يقف نتنياهو في قفص الاتهام لاستجوابه من النيابة. وقد استغل العملية في القدس للإفلات من يوم آخر من المحكمة «لانشغاله في قضايا أمنية».
ومن موقع الحدث؛ حيث الدماء ما زالت تسيل على الأرض، راح يصفي حساباته مع الجهاز القضائي.
لا تخفيف على الأسرى الفلسطينيين
وعلى النغمة ذاتها، حين وقف إلى جانب نتنياهو حليفه الوزير المتطرف إيتمار بن غفير الذي هاجم أيضاً محكمة العدل العليا؛ لأنها أصدرت قراراً يلزم الحكومة بتخفيف عملية تجويع الأسرى الفلسطينيين في السجون.
وكانت منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية قد رفعت إلى المحكمة قضية تطالب بإلغاء قرارات بن غفير بتقليص كميات الطعام المقدمة للأسرى وإساءة معاملتهم، وأمرت المحكمة بأن يكون الطعام بكميات معقولة ونوعيات حسنة كافية لمعيشة الحد الأدنى.
واستغل بن غفير هذه المناسبة ليهاجم المحكمة، وانضم إليه نتنياهو، وتوجه إلى قضاة المحكمة العليا، قائلا: «أنتم أيضاً في الحرب وجزء منها. ونحن لا نخفف عن أعدائنا، وهكذا ينبغي أن تتصرفوا».
وقد صدمت إدارة المحاكم من أقوال نتنياهو وبن غفير ورفضتها، وقالت في بيان رسمي لها: «مؤسف أنه في اليوم الذي حدثت فيه عملية قاسية اختار الوزير بن غفير أن يهاجم المحكمة العليا. وأقواله بائسة. والسلطة القضائية تعزي عائلات القتلى، وتتمنى الشفاء التام للجرحى في العملية».
اللحاق بقطار التحريض
وأما وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، فقد وجد نفسه كمن فاته قطار التحريض، فأصدر بيان تعقيب على عملية القدس، أشار فيه إلى عدو آخر، يتمثل في «السلطة الفلسطينية» التي تعارض وتنتقد العمليات المسلحة الفلسطينية، فكتب يقول: «السلطة الفلسطينية يجب أن تختفي عن الخريطة. والقرى التي خرج منها المخربان ينبغي أن تبدو مثل رفح وبيت حانون. ودولة إسرائيل لا يمكنها أن تتقبل وجود سلطة فلسطينية تنشئ وتربي أطفالها على قتل اليهود».

تحولت إذن عملية القدس إلى مشروع استثماري، وكل لاعب يستغلها لحسابه: التنظيمات الفلسطينية تسعى إلى القول إن «المقاومة حية، ولا يمكن أن تخبو»، ونتنياهو يريد «تحطيم المحكمة ويزيد ذرائعه بها لمواصلة الحرب، حتى يبقي على حكومته». وسموتريتش يسعى إلى تحطيم السلطة الفلسطينية، حتى يحقق حلمه في تصفية القضية الفلسطينية ومنع قيام الدولة. والجيش الإسرائيلي أيضاً يستثمر في العملية ليبطش أكثر، ويحصل على ميزانيات أكبر لتعزيز أسلحته.






