إسرائيل تبذل جهوداً ضخمة كي تقلب محكمة لاهاي «رأساً على عقب»

سيقول فريقها إن ما تفعله في غزة «رد فعل» على عملية «حماس» لإبادة الدولة اليهودية

TT

إسرائيل تبذل جهوداً ضخمة كي تقلب محكمة لاهاي «رأساً على عقب»

رئيسة محكمة العدل الدولية جوان دونوغو والقضاة الآخرون في المحكمة قبيل بدء جلسة الاستماع في قضية الإبادة التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في لاهاي (إ.ب.أ)
رئيسة محكمة العدل الدولية جوان دونوغو والقضاة الآخرون في المحكمة قبيل بدء جلسة الاستماع في قضية الإبادة التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في لاهاي (إ.ب.أ)

على الرغم من أن قوى اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، كانت معنية بمقاطعة محكمة العدل الدولية في لاهاي، والامتناع عن التعاون معها خلال المداولات في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا، يعمل فريق ضخم في إسرائيل وفي الخارج على «قلب الدعوى رأسا على عقب»، وإغراق الفضاء الإعلامي في العالم بالصور التي تظهر أن «كل ما نفعله في غزة هو مجرد رد فعل على حرب الإبادة التي شنتها (حماس) على الدولة اليهودية»، والضغط على المحكمة ليكون قرارها «معتدلاً، ويأخذ في الاعتبار الحجج الإسرائيلية».

فمن يرفضون التعاون عادة مع المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة، يدركون بأن ما يطرح في هذه المحكمة، قد يشكل انعطافاً رسمياً في التاريخ؛ إذ إن إسرائيل التي تعد دولة الشعب اليهودي، الذي كان ضحية محاولة إبادة من النازية الألمانية، فهل تصبح إسرائيل، بقرار محكمة، متهمة وربما مدانة بارتكاب جريمة إبادة بحق الفلسطينيين في غزة؟

لقد حاولت إسرائيل طيلة 75 عاماً إنكار مسؤوليتها عن النكبة الفلسطينية، وما تخلل حربها في ذلك الوقت من مجازر (سعسع ودير ياسين والطنطورة واللد وعيلبون وعيلوط وغيرها). وحصلت على «تكفير عن الذنب» من ألمانيا يتمثل في دعم مالي هائل ودعم سياسي دائم، ونجحت في استدرار عطف شعوب العالم الغربي. فهل تخسر كل هذا الآن، من خلال محكمة لاهاي التي تُعرض فيها صور رهيبة عن تدمير غزة وقتل الألوف من أطفالها ونسائها؟

صبي فلسطيني جريح يُحمل إلى مدخل مستشفى الشفاء في مدينة غزة 3 نوفمبر 2023 (أ.ب)

لهذا السبب، قررت الحكومة الإسرائيلية بغالبية مركباتها السياسية (اليمين اللبرالي والوسط اللبرالي والمتدينين)، والأجهزة الأمنية (الجيش والمخابرات)، تفعيل كل أسلحتها الإعلامية والقضائية والسياسية لمواجهة الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى محكمة لاهاي. شكلت فريقاً من رجال السياسة والقانون والإعلام، هدفه الأول «إبراز الأفعال الشنيعة التي قام بضع عشرات من الأشخاص خلال هجوم (حماس) في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على البلدات الإسرائيلية في غلاف غزة، وشملت قتل أبرياء، والتمثيل بجثث، واختطاف نساء وأطفال ومسنين. وحاولت إسرائيل نشر إعلانات ضخمة في لاهاي والطرق المؤدية إليها من مطار أمستردام، تبين صور المخطوفين الإسرائيليين لدى «حماس»، بالقول: «هؤلاء لا تستطيعون سماع صوتهم»، لكن شركات الإعلانات (نحو 120 شركة) رفضت الطلب.

جلبت إسرائيل وفداً من عائلات المخطوفين الأسرى لدى «حماس» إلى المحكمة ليتحدثوا عن معاناتهم، وحرصت بشدة على ألا يكون بينهم أحد من أولئك الذين يتهمون رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بـ«التخلي عن المخطوفين والعمل على إطالة الحرب لكي يطيل عمر حكومته». كما ضمت القاضي أهرون باراك، إلى هيئة القضاة (في المحكمة 15 قاضياً. وبحسب نظامها، يحق لكل دولة معنية بالقضية ضم قاضٍ إضافي. لذلك، أضيف باراك من إسرائيل وقاض آخر من جنوب أفريقيا).

وباراك شخصية معروفة في العالم بوصفه قاضياً ذا بصمات، ومع أنه معارض لحكومة نتنياهو واتهمها بتدمير الديمقراطية الإسرائيلية، فقد تم اختياره لتمثيلها بفضل سمعته الدولية من جهة، ولكونه ابناً لعائلة من الناجين من المحرقة النازية.

تفحص قضاة المحكمة

وقام هذا الفريق الإسرائيلي بإجراء تحقيق خاص حول القضاة أعضاء هيئة المحكمة. والهدف هو ليس فقط التعرف عليهم، بل معرفة سيرة كل منهم وفهم طريقة تفكيره ودراسة السيناريوهات المتوقعة للأحكام التي سيصدرونها، وهل يمكن أن يدينوا إسرائيل بـ«جريمة إبادة شعب» في غزة، والأهم من هذا: كيف يمكن لإسرائيل أن تؤثر على المحكمة حتى تمتنع عن إدانتها؟

مبنى سكني دمرته الغارات الجوية الإسرائيلية في دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

وبحسب البروفسور عميحاي كوهين، الخبير في القانون الدولي للنزاعات المسلحة في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، فإنه «لن تكون هناك آثار جنائية على المسؤولين الإسرائيليين إذا حكمت محكمة العدل الدولية ضدها، على الرغم من أن ذلك قد يؤدي إلى تداعيات دبلوماسية شديدة من حيث العقوبات المحتملة وغيرها من التدابير التي يمكن للأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى اتخاذها ضد إسرائيل».

أضاف: «مع أن هناك مكاناً للتخوف من تعامل المحكمة بإيجابية مع طلب جنوب أفريقيا من هيئتها، (تطبيق إجراءات مؤقتة) قد تشمل إصدار أمر بوقف العمليات القتالية في غزة، لضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، فإنني لا أظن أن المحكمة ستصدر أمراً صريحاً كهذا، وأنها ستأمر إسرائيل فقط بزيادة المساعدات الإنسانية والوقود والإمدادات الطبية».

وقال كوهين، إن «هناك مجالاً واسعاً للتأثير على المحكمة من الآن. فغالبية القضاة هناك أناس ذوو قامة، ولديهم تجارب من قضايا سابقة، وبعضهم أصدر قرارات حيال الحرب في أوكرانيا وكوسوفو وفي أفريقيا وغيرها. مثل قرار قاضٍ بأن التصريحات الروسية بإبادة أوكرانيا لا تكفي لإدانة روسيا. سيكون صعباً تغيير مواقفهم الآن فقط لأن المتهمة هي إسرائيل».

وصول جرحى فلسطينيين إلى مستشفى الشفاء بعد غارات جوية إسرائيلية على مدينة غزة وسط قطاع (أ.ب)

تمهيد لـ«جرائم الحرب»

وقال البروفسور محمد وتد، رئيس كلية القانون في جامعة صفد في الشمال الإسرائيلي، إنه من الناحية القضائية تعد قضية جنوب أفريقيا خاسرة. لكن المحكمة بحد ذاتها وما سيدور فيها يشكل ساحة ستلحق ضرراً معنوياً كبيراً بإسرائيل؛ إذ إنها ستكشف عن ممارسات إسرائيلية عنيفة جداً ضد الفلسطينيين في غزة، من شأنها أن تكون مادة دسمة لإدانتها ليس في هذه المحكمة، بل في المحكمة المجاورة لها في لاهاي، محكمة جرائم الحرب.

تجدر الإشارة إلى أن الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا تعتمد بالأساس «على «تصريحات فاشية» تفوه بها عدد من القادة. وبين الإجراءات الإسرائيلية لمواجهة المحكمة، استغلال بند في أنظمتها يقول، إنه في حال أقدم القضاء الإسرائيلي على محاكمة هؤلاء المسؤولين، تسقط الحاجة إلى استخدامها في محكمة لاهاي.

فلسطيني أُصيب في قصف إسرائيلي يتلقى العلاج في المستشفى في مخيم خان يونس للاجئين جنوب قطاع غزة (أ.ب)

ونشرت المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهراف ميارا، والنائب العام في الدولة، عميت أسمان، بياناً مشتركاً، أعلنا فيه أن النيابة تفحص التصريحات التي أدلى بها مسؤولون إسرائيليون ويفهم منها «التحريض ودعوة للمساس بالمدنيين غير المذنبين بشكل مقصود». وحذرا من أن هناك احتمالاً بتقديم هؤلاء المسؤولين إلى التحقيق الجنائي، وإن كانوا أعضاء كنيست سيطلب من الكنيست رفع الحصانة عنهم.

وجاء في بيان ميارا وايسمان، أن «دولة إسرائيل عموماً وأجهزتها الأمنية بشكل خاص، ملتزمون بمبادئ القانون الدولي وقوانين الحرب. وكل تصريح يدعو للمساس المقصود بالمدنيين غير المشاركين في الحرب، يكون مناهضاً للسياسة الرسمية، ويمكن أن يشكل مخالفة جنائية للقانون. والنيابة تدرس هذه الملفات حالياً».

وقالت القناة 13، إن بين الملفات التي تدرسها النيابة تصريحات لعضو الكنيست من الليكود موشيه سعدة، قال فيها إنه «واضح الآن أن اليمين صدق في مواقفه من القضية الفلسطينية. وأينما تذهب اليوم تسمع كلمة (أبيدوهم). حتى في الكيبوتسات يريدون إبادتهم. رفاقي الذين عملت معهم في النيابة يقولون لي: (يجب إبادة كل الغزاويين)». لكن سعدة ادعى لاحقاً أنه قصد بذلك رجال «حماس».

كذلك، هناك ملف عضو الكنيست نيسيم فيتوري، وهو أيضاً من الليكود، وقد دعا في منشور له على «إكس»، إلى أنه «يجب إحراق غزة الآن. يجب محو غزة عن وجه الأرض». وعاد لتكرار تصريحه يوم الأربعاء، فطالب «بإحراق قطاع غزة دون رحمة». ونقلت صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية، عن نسيم قوله، قبيل يوم واحد من انطلاق جلسة محكمة العدل الدولية في لاهاي، بأنه لن يعتذر عما نشره على حسابه الرسمي على «إكس» في السابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حين دعا إلى «إحراق» قطاع غزة دون هوادة.

وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير يتفقد بنادق آلية قبل تسليمها لمتطوعين في عسقلان في 27 أكتوبر الماضي (إ.ب.أ)

وكان وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، قد دعا في الثاني عشر من نوفمبر الماضي، إلى القضاء على حركة «حماس» الفلسطينية وكل من يدعمها. وقال: «حتى أكون واضحاً، عندما يقال إنه يجب القضاء على حركة (حماس)، فإن هذا الأمر يعني أولئك من يغنّون ومن يدعمون الحركة، وكذلك الذين يوزعون الحلوى. كل هؤلاء الداعمين إرهابيون يجب القضاء عليهم». وهناك بالطبع ملف وزير التراث، عميحاي آلياهو، الذي قال في مقابلة إذاعية إن «إحدى الطرق التي ينبغي فحص تنفيذها، إلقاء قنبلة نووية على غزة».

يأس فلسطيني

يذكر أن الفلسطينيين، رغم التقدير البالغ في صفوفهم لخطوة جنوب أفريقيا باعتبارها دعماً كبيراً لقضيتهم، لا يبنون كثيراً على المحكمة، ويعتقدون بأن الضغوط الشديدة عليها ستمنعها من اتخاذ قرار بوقف الحرب.

وأصدرت وزارة الخارجية والمغتربين في رام الله، بياناً رحبت فيه بالدعوى، وقالت إن «إسرائيل، وتصريحات مسؤوليها وممارساتها وحربها التدميرية على شعبنا في قطاع غزة هي إبادة جماعية. وأن تشبيه الشعب الفلسطيني «بالحيوانات البشرية وأطفال الظلام» يعكس نوايا قوات الاحتلال بارتكاب هذه الجريمة، بالإضافة إلى القطع الفعلي للماء، والغذاء، والكهرباء، ومنع دخول الدواء، والوقود، واستهداف البيوت، والمستشفيات وأماكن الإيواء، وتدمير محطات توليد الكهرباء وخزانات الماء، بحيث إن من لم يمت بالقصف والدمار، فإنه يموت من الجوع والعطش».

وطالبت الخارجية، محكمة العدل الدولية، بسرعة الاستجابة لطلب الأصدقاء في جنوب أفريقيا للإجراءات المؤقتة، وبشكل عاجل من أجل منع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، من خلال إصدار قرار بوقف العدوان، وإطلاق النار، والطلب من الدول المتواطئة في ارتكاب الجريمة ضد شعبنا أن تتوقف عن ذلك، وأن تطالب جميع الدول بوقف إطلاق النار الفوري.

وعلى الصعيد الشعبي، نظم مئات المواطنين وقفات في رام الله ونابلس والخليل، تقديراً لخطوة جنوب أفريقيا


مقالات ذات صلة

«حماس» ترحب بموقف محكمة العدل وتطالب بإنهاء «فوري» للاحتلال الإسرائيلي

المشرق العربي صبي فلسطيني صغير يسير حافي القدمين بالقرب من مياه الصرف الصحي الراكدة في دير البلح بوسط قطاع غزة (أ.ف.ب)

«حماس» ترحب بموقف محكمة العدل وتطالب بإنهاء «فوري» للاحتلال الإسرائيلي

طالبت حركة «حماس»، الجمعة، بعمل دولي «فوري» لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بعدما رأت محكمة العدل الدولية أن هذا الاحتلال «غير قانوني».

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي القاضي نواف سلام يتلو قرار محكمة العدل الدولية (أ.ف.ب)

«العدل الدولية»: الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يجب أن ينتهي

رأت محكمة العدل الدولية، أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، الجمعة، أن الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عقود للأراضي الفلسطينية «غير قانوني».

«الشرق الأوسط» (لاهاي)
المشرق العربي رئيسة محكمة العدل الدولية قبل بدء جلسة الاستماع في قضية الإبادة التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بلاهاي يناير الماضي (إ.ب.أ)

تحديد موعد إعلان رأي محكمة «العدل الدولية» في العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلي

قالت محكمة العدل الدولية إنها ستبدي رأيها في العواقب القانونية التي تترتب على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في 19 يوليو (تموز).

«الشرق الأوسط» (أمستردام)
المشرق العربي فلسطيني يحمل المياه بين المباني المدمرة في خان يونس (أ.ف.ب)

أول تقرير أممي يتهم إسرائيل و«حماس» بارتكاب جرائم حرب

اتهمت لجنة أممية كلاً من إسرائيل و«حماس» وغيرها من الفصائل الفلسطينية المسلحة بارتكاب جرائم حرب، مؤكدة أن سلوك القوات الإسرائيلية يشمل أيضاً جرائم ضد الإنسانية.

علي بردى (واشنطن)
أوروبا وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس (د.ب.أ)

إسبانيا ستنضم لقضية الإبادة الجماعية أمام «العدل الدولية» ضد إسرائيل

قال وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس اليوم إن إسبانيا ستنضم لدعوى الإبادة الجماعية المرفوعة ضد إسرائيل من قبل جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.

«الشرق الأوسط» (مدريد)

تقرير: فشل مخطط الجيش الإسرائيلي في إغراق أنفاق «حماس»

مقاتل من «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي» في نفق بغزة (أ.ف.ب)
مقاتل من «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي» في نفق بغزة (أ.ف.ب)
TT

تقرير: فشل مخطط الجيش الإسرائيلي في إغراق أنفاق «حماس»

مقاتل من «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي» في نفق بغزة (أ.ف.ب)
مقاتل من «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي» في نفق بغزة (أ.ف.ب)

تبنت إسرائيل خطة قديمة وغير ملائمة، وتجاهلت النصائح المهنية والخطر المحتمل على المختطفين، وانتهت بهدوء بعد بضعة أشهر دون تحقيق أي نتائج ملموسة.

سلطت صحيفة «هآرتس» الضوء على مشروع «أتلانتس» والفشل العسكري المتوقع الذي لم يتم إيقافه حتى فوات الأوان. كان من المفترض أن تكون الخطة مبتكرة، حلاً جديداً وسريعاً نسبياً وقاتلاً لإحدى أكثر الجبهات تعقيداً في قطاع غزة.

أو كما وصفها الجيش الإسرائيلي: «اختراق هندسي وتكنولوجي كبير للتعامل مع التحدي تحت الأرض»، خلف كل هذه الأوصاف كان مشروع «أتلانتس»، نظاماً كان من المفترض أن يدمر أنفاق «حماس»، ويقتل كبار المسؤولين في الحركة عن طريق ضخ مياه البحر بكثافة عالية.

مقاتل من «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي» في نفق بغزة (أ.ف.ب)

بدء التنفيذ دون تحضير كافٍ

ولكن بعد نحو نصف عام من الكشف عن هذا النظام للشعب، تبين أن مشروع «أتلانتس» فشل؛ لم يعد قيد الاستخدام، ولا يستطيع أحد في الجيش أن يقول ما إذا كان هناك أي فائدة من هذا المشروع المكلف.

يكشف تحقيق «هآرتس»، استناداً إلى محادثات مع سلسلة من المصادر المختلفة التي شاركت بشكل وثيق في تطوير وتشغيل النظام، بالإضافة إلى وثائق ومحاضر مناقشات مغلقة شارك فيها ضباط كبار ومحترفون، عدداً كبيراً من الأخطاء في كيفية التعامل معه من قبل الجيش، ويقدم لمحة عن فشل متوقع.

تجاهل النصائح المهنية والمخاطر

تبين أن النظام بدأ يعمل حتى قبل الحصول على الآراء اللازمة التي طلبها الجيش، وأنه وراء النشاط المتسارع كان هناك قدر كبير من الضغط المفروض من الأعلى، من قائد القيادة الجنوبية، اللواء يارون فينكلمان؛ وأنه تم تشغيله مع احتمال تعريض حياة الإسرائيليين الذين كانوا أحياءً عند اختطافهم إلى القطاع.

قال مصدر دفاعي شارك بعمق في مشروع «أتلانتس»: «تم تشغيل النظام في نفق مركزي واحد على الأقل لـ(حماس)، كان يُستخدم بوضوح من قبل التنظيم خلال مراحل مختلفة من الحرب».

وأضاف: «ومن المحتمل جداً أن هناك رهائن كانوا هناك بوصفهم دروعاً بشرية».

صورة وزعها الجيش الإسرائيلي لأحد أنفاق حركة «حماس» في قطاع غزة أبريل الماضي (أ.ف.ب)

ضغوط وقرارات متسرعة

السؤال عن كيف تحول مشروع وصفته قوات الدفاع الإسرائيلية بأنه كسر التعادل إلى فشل متزايد لديه إجابة معقدة.

وفق التقرير، أحد الأسباب الرئيسية هو الخلفية. خلال الأيام الأولى من الحرب، قال مصدر دفاعي: «الإنجازات على الأرض ضد مسؤولي (حماس) كانت غير ذات أهمية، معظم قوات (حماس)، خصوصاً الجناح العسكري، دخلت الأنفاق وهذا خلق ضغطاً على القيادة العليا للجيش الإسرائيلي».

لهذا السبب، قال مصدر آخر تحدث إلى الصحيفة: «طلب فينكلمان حلولاً؛ طرق لضرب نشطاء (حماس) في الأنفاق... وكان هناك إحباط لأن القوات لم تكن تعتقد حقاً أننا سنبدأ في دخول كل الأنفاق... بدأوا أيضاً في إدراك أبعاد الأنفاق التي لم يكن المخابرات العسكرية تعلم عنها».

انطلاق المشروع دون تجهيزات كافية

في ذلك الوقت، كان الجيش الإسرائيلي لا يزال يتعلم عن الأنفاق التي واجهها في القطاع ونطاقها - مئات الكيلومترات، ووجد الجيش نفسه على الأرض يدرك أن «حماس» كانت تحت الأرض، ولم يكن لديه حل لإخراجهم من هناك.

وكانت الفكرة في الواقع إحياء خطة طوارئ كانت قد اقترحتها القوات البرية قبل سنوات من تولي فينكلمان منصبه، في ذلك الوقت كان الغرض منها التعامل مع نوع مختلف من الأنفاق، كانت فرص نجاحها في التعامل مع الأنفاق التي اكتشفها الجيش الإسرائيلي في القطاع بدءاً من 7 أكتوبر (تشرين الأول) منخفضة. ولكن وفقاً لمصادر دفاعية تحدثت إلى «هآرتس»، أعطى فينكلمان الضوء الأخضر لأخذ الخطة القديمة وتكييفها مع الوضع الجديد.

عمليات إغراق الأنفاق دون تقييم

حصلت الخطة على التصاريح اللازمة (تتطلب عملية من هذا النوع موافقة رئيس الأركان والمستشار القانوني العسكري، من بين آخرين)، توجه الجيش الإسرائيلي إلى سلطة المياه الإسرائيلية طلباً للمساعدة، وسارعت السلطة إلى التعبئة للمهمة، وشكلت مجموعتين من الخبراء المدنيين في مجالات عدة، وُضعت مجموعة واحدة مسؤولة عن ضخ المياه في الأنفاق، وطُلب من المجموعة الثانية دراسة موضوع فقدان المياه عبر جدران النفق، بدأت كلتا المجموعتين العمل.

ولكن الجيش الإسرائيلي لم ينتظر النتائج، وفي هذه المرحلة بدأ بالفعل في المرحلة التالية، جرى اختيار فرقة 162 من القيادة الجنوبية كمقاول العملية، وجرى تكليف مقاتلي الكوماندوز البحريين من وحدة شايطيت 13 بأعمال البنية التحتية، والتي تحولت لبضعة أسابيع إلى وحدة أنابيب.

قال أحد القادة الذين شاركوا في المشروع: «خصصوا جنود القتال لأعمال السباكة وحراسة الأنابيب في جميع أنحاء القطاع، دون أن يكون لديهم أية فكرة عما إذا كان المشروع له أي جدوى عملياتية».

وأضاف: «لم يكن لدى الجيش الإسرائيلي أي وسيلة لمعرفة ما إذا كان النظام يعمل، ماذا حدث في الأنفاق، ما هو وضع الإرهابيين في الداخل وما إذا كان هناك رهائن قد تضرروا نتيجة المياه. حتى هذه اللحظة لا يزال غير واضح ما هو الضرر الذي تسببت به الأنفاق، إن وجد. ببساطة لا يعرفون أي شيء».

ووفقاً لوثيقة أصدرتها الخبراء حول الموضوع، بعد نحو 3 أسابيع من بدء تشغيل «أتلانتس»: «لم يتم تفعيل العملية وفقاً لتوصيات المهنيين، ولم يتم الضخ وفقاً لنظرية القتال التي جرى تطويرها، لم يجرِ جمع النتائج ولم يجرِ أخذ القياسات الموصوفة... غضب الخبراء لأن خلال الفترة كلها كان هناك انفصال بين المصادر في الميدان والوحدة المرافقة من جهة والخبراء الذين خططوا طريقة العملية من جهة أخرى».

جنود إسرائيليون داخل أحد الأنفاق في قطاع غزة (أ.ف.ب)

يقول المهنيون: «في الواقع، كان الجيش الإسرائيلي يفتقر إلى المعلومات والبيانات المطلوبة عن الأنفاق، ولا كيفية إغراقها بطريقة تلحق الأذى بالداخل أو تجعلهم يهربون إلى السطح».

وخلال المشروع، أتيحت للمحققين من سلطة المياه فرصة الاطلاع على دراسة أعدها ناشط في «حماس»، خدم في نظام الأنفاق خلال العشر سنوات الماضية، وصف كيف تم بناؤها والمنطق وراءها، إلى جانب تصريحه بأن الأنفاق أصبحت النظام الرئيسي الذي أعدته المنظمة لمواجهة عسكرية مع إسرائيل (كنا نعلم أن الجيش الإسرائيلي سيدخل القطاع).

تحليل «هآرتس» لمشروع «أتلانتس»، كشف عن إخفاقات عديدة في التخطيط والتنفيذ، حيث لم يتم أخذ النصائح المهنية بعين الاعتبار، وتم تجاهل المخاطر المحتملة على المختطفين.