هاجم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي العقوبات الأميركية، وطالب واشنطن بإثبات «حسن نواياها وعزمها» على إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، وسط مساعٍ دبلوماسية على هامش أعمال الجمعية العامة، لكسر الجمود على المحادثات النووية المتعثرة بين الخصمين منذ العام الماضي.
وقال رئيسي في كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في وقت متأخر الثلاثاء: «بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة، انتهكت الولايات المتحدة الاتفاق»، وأضاف: «يجب على أميركا بناء ثقة لإظهار حسن نواياها ورغبتها الحقيقية في الوفاء بالتزاماتها وقطع الطريق لنهايته».
وتلقي طموحات إيران النووية بظلالها على الشرق الأوسط، وتثير قلق الغرب إلى جانب الحرب الروسية - الأوكرانية التي تتصدر اهتمامات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وتُخّصِب طهران باطراد مزيداً من اليورانيوم بنسب عالية، وتقترب أكثر من روسيا من خلال تزويد جيشها بطائرات مسيَّرة.
وكانت هذه الملفات في صلب لقاء مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل ووزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث بحثا القضايا الأكثر إلحاحاً، التي تؤثر على العلاقات الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وإيران، خصوصاً التطورات الأخيرة بشأن الاتفاق النووي.
وبصفته منسق المحادثات النووية، أكد بوريل أهمية اتباع مسار وقف التصعيد، وحث إيران على إعادة النظر في قرارها بسحب التصريح الرسمي لعدد من مفتشي الوكالة ذوي الخبرة وتحسين التعاون مع الوكالة.
وحض الحكومة الإيرانية على وقف تعاونها العسكري المستمر مع روسيا في الحرب مع أوكرانيا.
وذكر بيان للاتحاد الأوروبي أن بوريل أبلغ عبداللهيان إدانة الاتحاد الأوروبي الشديدة للاعتقالات التعسفية للعديد من مواطني دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك مزدوجو الجنسية، وفقاً لـ«وكالة أنباء العالم العربي».
مسار متعثر
أخرج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الولايات المتحدة من هذا الاتفاق في 2018، قائلاً إنه كان سخياً للغاية مع طهران، لعدم تطرقه إلى برنامج الصواريخ الباليستية، والدور الإقليمي، وأعاد فرض عقوبات اقتصادية أميركية واسعة النطاق على إيران، مما دفع طهران إلى انتهاك التزاماتها النووية.
وبعد توليه منصبه في يناير (كانون الثاني) 2021، حاول الرئيس الأميركي جو بايدن التفاوض على إحياء الاتفاق الذي كانت إيران تكبح بموجبه برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
لكن المحادثات التي استمرت شهوراً توقفت منذ سبتمبر (أيلول) الماضي، إذ اتهم الجانبان بعضهما بعضاً بالمطالبة بتنازلات مغالى فيها.
ويبحث مسؤولون أميركيون وأوروبيون عن سبل للحد من أنشطة طهران النووية منذ انهيار المسار الدبلوماسي قبل عام.
ومن أجل تهدئة التوتر، توصلت طهران وواشنطن إلى اتفاق الشهر الماضي أسفر عن تبادل خمسة محتجزين أميركيين مقابل خمسة سجناء إيرانيين يوم الاثنين، وتضمن الإفراج عن ستة مليارات دولار من أموال طهران في كوريا الجنوبية.
وكشفت وسائل إعلام إيرانية الأربعاء هوية اثنين من الأميركيين الخمسة، اللذين بقيت هويتهما طي الكتمان، حسب رغبتهما. وقالت وكالة «تسنيم» التابعة لـ«الحرس الثوري» إن رضا بهروزي وفخر السادات معيني بالإضافة إلى سيامك نمازي، ومراد طاهباز، وعماد شرقي هم خمسة أميركيين، من أصل إيراني جرى إطلاق سراحهم.
مساعٍ قطرية
وذكرت وكالة «رويترز» عن مصادر أن قطر، التي توسطت في صفقة تبادل المحتجزين، تريد الاستفادة من الاتفاق لإيجاد أرضية مشتركة تتعلق بقضية أكثر صعوبة بين الخصمين اللدودين، وهي الخلاف على البرنامج النووي الإيراني.
وستزيد الانتخابات الأميركية عام 2024 من قتامة هذه التوقعات بالعودة إلى الاتفاق النووي بعد خمس سنوات على انسحاب ترمب. فالرئيس الأميركي جو بايدن يواجه بالفعل انتقادات من الجمهوريين بسبب إفراجه عن أصول إيران بقيمة ستة مليارات دولار في اتفاق على تبادل السجناء.
ونقلت «رويترز» عن مصادر ثلاثة «إقليمية» أن قطر تبحث مع الجانبين المشاركة في محادثات أخرى والتوصل إلى «تفاهمات» على هامش أعمال الجمعية العامة في نيويورك.
وقالت المصادر إن التفاهمات تهدف إلى إبطاء تخصيب اليورانيوم في طهران مع زيادة المراقبة الدولية والحد من أنشطة الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة، ووقف تصدير إيران لطائرات مسيَّرة، كل ذلك مقابل بعض الإعفاءات من العقوبات الأميركية على صادرات النفط الإيرانية.
وقال مصدر مطلع على المحادثات في الدوحة إن تلك الاجتماعات ستناقش تخصيب اليورانيوم والطائرات المسيَّرة الإيرانية، مضيفاً أن قطر تستهدف استضافة محادثات غير مباشرة بين طهران وواشنطن في حالة حدوث تقدم بعدما ساعدت الدوحة في صياغة اتفاق تبادل السجناء بدبلوماسية مكوكية بين مفاوضين إيرانيين وأميركيين كانوا يقيمون في فندقين منفصلين بالدوحة.
وكان مسؤولون إيرانيون قد أبدوا رغبتهم خلال الأسابيع الأخيرة بالعودة إلى طاولة المفاوضات بهدف إحياء الاتفاق النووي.
اقرأ أيضاً
خفض التصعيد
وقال مسؤولون غربيون وإيرانيون إن فكرة التفاهمات لمنع التصعيد بدلاً من الاتفاق النووي، الذي يتطلب مراجعة الكونغرس الأميركي طُرحت في السابق. ولم يعترف المسؤولون الأميركيون قط باتباع مثل هذا النهج.
وتشتبه واشنطن في أن طهران تريد التكنولوجيا اللازمة لصنع سلاح نووي. وتصر إيران على أن هذا ليس هدفها على الإطلاق.
وبعد إنجاز الصفقة الأخيرة، ترك وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الباب مفتوحاً أمام الدبلوماسية لتناول الملف النووي، الذي وصفه بأنه «ربما يكون القضية الأولى المثيرة للقلق»، لكنه قال إنه لا يوجد شيء وشيك.
ورداً على سؤال عما إذا كان من الممكن إجراء مزيد من المحادثات غير المباشرة مع إيران قريباً، قال في نيويورك: «لم نتناول ذلك في الوقت الراهن، لكننا سنرى في المستقبل ما إذا كانت هناك فرص».
وقال مصدران إيرانيان مطلعان لوكالة «رويترز» إن اجتماعات غير مباشرة ستعقد بين مسؤولين أميركيين وإيرانيين في نيويورك قد تمهد الطريق لإجراء محادثات بشأن «تفاهم نووي». وأضافا أن إيران لم تغلق الباب أبداً أمام الدبلوماسية النووية.
وقال مصدر إيراني آخر مطلع على المناقشات التي جرت حتى الآن مع قطر: «مع أخذ الانتخابات الأميركية المقبلة في الحسبان، من الممكن التوصل إلى تفاهم يتضمن إصدار إعفاءات بقطاعي البنوك والنفط تسمح لإيران بتصدير نفطها بحرية واستعادة أموالها عبر النظام المصرفي»، وهذا أمر محظور حالياً بموجب العقوبات الأميركية.
وقال مسؤول كبير في الإدارة الأميركية الأحد الماضي: «تسألون عما إذا كانت هناك أي محادثات مزمعة هذا الأسبوع، بالتأكيد لا».
ولم يتضح ما إذا كان المسؤول يقصد نفي إجراء أي محادثات غير مباشرة، أم أنه يتعمد ترك الباب مفتوحاً أمامها.
ولم ترد وزارة الخارجية الأميركية على أسئلة تفصيلية بهذا الخصوص.
تعامل
تعد مناقشة أي تعامل مع إيران أمراً حساساً في الولايات المتحدة، إذ ما زال اقتحام السفارة الأميركية في طهران عام 1979، عندما احتُجز 52 أميركياً رهائن لمدة 444 يوماً، يلقي بظلاله على علاقات واشنطن مع طهران.
وتكتم المسؤولون الأميركيون على تفاصيل اتفاق تبادل السجناء يوم الاثنين حتى أقلعت طائرة الأميركيين الخمسة المفرج عنهم من مطار طهران.
وكانت مصادر أبلغت «رويترز» في وقت سابق أن محادثات غير مباشرة في قطر، أدت إلى تبادل السجناء، عقدت بعد تعثر المحادثات الأوسع نطاقاً بشأن البرنامج النووي الإيراني. وحينها طالبت طهران بضمانات بعدم إنهاء الاتفاق الجديد مرة أخرى، وهو الطلب الذي قال مصدر إيراني إنه تم التخلي عنه الآن.
وقالت المصادر الثلاثة بالمنطقة إن المسؤولين الإيرانيين أظهروا خلال المحادثات علامات على استعدادهم لتقديم تنازلات في حالة تخفيف العقوبات الأميركية التي أصابت اقتصاد بلدهم بالشلل. وأضافت المصادر الثلاثة أن طهران التزمت بالفعل بخفض تخصيب اليورانيوم إلى 60 في المائة، أي أقل من النسبة اللازمة لصنع سلاح نووي، وهي 90 في المائة تقريباً، وأبدت استعدادها لاستئناف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، التي تراقب أنشطتها النووية.
وأفادت تقارير للوكالة اطّلعت عليها «رويترز» هذا الشهر أن إيران خفّضت بالفعل معدل تخصيب اليورانيوم إلى 60 في المائة، لكن مخزونها واصل النمو ولديها حالياً 121 كيلوغراماً من اليورانيوم بنسبة 60 في المائة، مما يكفي عملياً لإنتاج ثلاث قنابل، إذا رفعت تخصيبه إلى 90 في المائة.
وقال دبلوماسيون في المنطقة إن هناك «مؤشراً إيجابياً» آخر هو عدم شن وكلاء إيران هجمات كبيرة على مصالح الولايات المتحدة أو مصالح حلفائها في المنطقة في الأشهر القليلة الماضية. ووقع آخر حادث كبير في سوريا في مارس (آذار)، عندما حمّلت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) مسلحين مدعومين من طهران مسؤولية هجوم على القوات الأميركية هناك.
ولكن، قد يتوقف الكثير على الانتخابات الأميركية التي تجرى في العام المقبل عندما يتنافس الرئيس الديمقراطي بايدن مجدداً مع ترمب، الذي يتصدر حالياً السباق لنيل ترشيح الحزب الجمهوري.
وقال أحد الدبلوماسيين: «ما الفائدة من جعل واشنطن الأمر أكثر إغراء لطهران قبل الانتخابات، خاصة في سباق شرس حيث سينقض المنافسون الجمهوريون على أي اتفاق يبدو أنه يضر بالمصالح الأميركية».
ومع ذلك لا يزال الغرب قلقاً حيال أنشطة طهران النووية. وقال خبراء إن اتفاق عام 2015، الذي وصفه ترمب بأنه «أسوأ اتفاق على الإطلاق»، أوقف برنامج إيران النووي ما يكفي لإبعادها عاماً أو نحو ذلك عن التكنولوجيا اللازمة لصنع قنبلة نووية.
وقال دبلوماسي كبير في المنطقة: «عندما لا يريد أحد حدوث أزمة، فإن الوقت يكون مناسباً للتفاوض من الآن وحتى الانتخابات الأميركية».