تندرج معضلة إسرائيل بثلاثة أبعاد مهمّة، وهي: الجغرافيا، والطوبوغرافيا والديموغرافيا. ومما يزيد الوضع سوءاً، أنه لا يمكن لإسرائيل أن تُحسّن، أو تُعدّل أو تُصلح أيّ بُعد من هذه الأبعاد. فهي مرافقة للكيان، وهي التي تُحدّد وترسم المسلّمات الجيوسياسيّة، كما الاستراتيجيّات العسكريّة التي اعتمدتها إسرائيل منذ اغتصابها للأرض وحتى الآن.
في الجغرافيا: لا تتمتّع إسرائيل بالعمق الجغرافيّ. وهي مُطوّقة بدول عربيّة مُعادية لها، حتى لو كانت هناك معاهدات مع بعض هذه الدول. عندما احتلّت إسرائيل شبه جزيرة سيناء بعد نكسة حرب الأيام الستّة، أمّنت إسرائيل عمقاً جغرافيّاً يقدّر بـ300 كلم. يُعد هذا العمق كأنه وسيلة إنذار مُبكّر. تأكّدت هذه النظريّة خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973. وعندما تخلّت عن سيناء بعد معاهدة كامب ديفيد، ضمّت إلى هذه المعاهدة مُلحقاً أمنيّاً مفصّلاً.
من الشرق، تحتّل إسرائيل هضبة الجولان المُطلّة على العاصمة السوريّة، وهي بدورها تُشكّل عمقاً استراتيجيّاً. أما من الشمال، فإن وجود قوات اليونيفيل بجنوب لبنان، يُعد كأنه عمق استراتيجيّ دوليّ، ومُقونن حسب قرار مجلس الأمن 1701.
وتُشكّل غزّة الشوكة المُوجعة في خاصرة إسرائيل من الجنوب. وبذلك يتظهّر السيناريو الأخطر على إسرائيل، وهو عندما تُفتح الحرب عليها من 3 جبهات؛ هي: غزّة من الجنوب، والجولان من الشرق، ولبنان من الشمال.
في الطوبوغرافيا: بسبب مشكلة العمق الجغرافيّ، تتظهّر مشكلة الطوبوغرافيا. ويُقال في هذا المجال، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل أرييل شارون، كان في وقت من الأوقات يتنقّل بآليّة عسكريّة عبر الضفة الغربيّة، فقط لتحديد المناطق الطوبوغرافيّة المهمّة، وذلك بهدف السيطرة عليها، كي لا تُشكّل عبئاً عملانيّاً عسكريّاً على تحرّكات الجيش الإسرائيليّ في حال الحرب على إسرائيل من الجبهة الشرقيّة.
وعليه، قد تكفي نظرة سريعة على خريطة الطريق في إسرائيل، أو نظرة على البنى التحتيّة لنقل وتوزيع المياه في إسرائيل، كي نُحدّد بسهولة مشروع السيطرة الإسرائيليّ على مفاصل هذه الأبعاد. الطرقات لتأمين التحرّك العسكري السريع دون عوائق خلال الأزمات والحروب، وأنابيب المياه للحفاظ على الأمن القوميّ المائيّ. حتى إن بناء المستوطنات وقضم الأرض يرتكزان على استراتيجيّة التقطيع البشري والطوبوغرافيّ للوجود الفلسطينيّ، كما على اتّباع طريقة الاستيلاء الأفقي (Horizontal) على الأراضيّ، الأمر الذي يعطي مساحة وعمقاً جغرافيّين للمستوطنات كي تبقى، وتدافع عن نفسها.
في الديموغرافيا: بغض النظر عن التوازن الديموغرافي بين الشعبين، فإن الهاجس الدائم لقيادات إسرائيل أن يُصبح اليهود أقليّة في فلسطين المحتلّة مع مرور الزمن، خصوصاً أن العنصر البشري لدى إسرائيل يعد من أهم نقاط الضعف الإسرائيليّة. فهي مستعدّة لتبادل الأسرى العرب بالمئات، مقابل جندي أسير، أو حتى جثّة هذا الجنديّ.
من هنا التركيز الدائم للقتال ضد إسرائيل من قبل الدول العربيّة، يتمحور حول أمرين مهمّين؛ هما: إطالة مدّة الحرب قدر الإمكان بعكس ما نصح به بن غوريون. والهدف هو الاستنزاف البشريّ والماديّ. حتى إن إسرائيل تسعى وبشكل مختلف لتقسيم الديموغرافيا الفلسطينيّة إلى عدّة أبعاد؛ وهي: جغرافيا عبر الفصل الدائم جغرافيّاً بين الضفة والقطاع؛ عبر التفرقة الدائمة بين الأهداف السياسيّة لكلّ من السلطة والمنظمات الفلسطينيّة، وحتى الفصل على الصعيد الآيديولوجيّ. وإلا فما معنى بناء جدار شارون العنصريّ؟
في الختام، تتكرّر المعركة بين الحروب بين كلّ من إسرائيل وفصائل قطاع غزّة. والخوف الأكبر لدى إسرائيل أن تتحوّل الضفة إلى غزّة. لكن إسرائيل تعيش حالة جديدة. فهي انتقلت من الصهيونيّة القوميّة، إلى الصهيونيّة الدينيّة.
في المقابل، هناك تحوّل جذري في الأجيال لدى الفلسطينييّن (Generational Shift). وإلا فما معنى تظهّر مقاومة فلسطينيّة جديدة في الضفة (عرين الأسد) لا تتبع لأحد من القوى الموجودة على الساحة الفلسطينيّة اليوم؟
ماذا عن المستقبل؟ حتى الآن أصبح النمط معروفاً؛ تكرار العمليات الإسرائيليّة تحت تسميات مختلفة، والرد عليها أيضاً من قبل الفصائل الفلسطينيّة بعمليات تحت تسميات مختلفة. أما الأفق السياسيّ فهو مفقود اليوم، لأن مبدأ أن «السياسة فن الممكن»، ليس معروضاً على الطاولة اليوم. الكلّ يريد كلّ شيء، أو لا شيء.