أقدار البحر المتوسط

هل هو انتماء أم مجرد وهم؟

لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان
لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان
TT
20

أقدار البحر المتوسط

لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان
لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان

«لعنك الله من بحر أثيم مخرب للبيوت»، بهذه العبارة خاطب البحار العجوز الأفق المتوسطي في مرفأ «بيريه» بأثينا، في رواية «زوربا» لكازانتزاكيس، عبارة تتبادر إلى الذهن في كل مرة تلفظ فيها شواطئ المتوسط جثث المتطلعين للفرار واللجوء وتبديل الأوطان من طنجة إلى بيروت ومن الجزائر إلى الإسكندرية... وحين التأم قبل سنوات في «معهد العالم العربي» بباريس معرض «مغامرو البحار» كان القصد هو إعادة تركيب حكاية العبور المتقاطع بين الضفاف المتباعدة، والمتنابذة، لذلك الحوض المسكون بنوازع المغامرة؛ صور ووثائق، لوحات وأفلام، لقى ومنحوتات تؤرخ لروح مستترة مأخوذة بالبحر الذي وسمه عجوز كازانتزاكيس بمخرب البيوت.

في سنة 1612 ميلادية، أمر الملك الإسباني فيليب الثالث، صاحب القرار الشهير بطرد المورسكيين من شبه الجزيرة الإبيرية، نائبه تلمركيز دو كاراسينا بانتخاب صفوة من الفنانين الإسبان لتخليد لحظة «الترحيل القسري» عبر البحر المتوسط إلى الضفاف الجنوبية، فتوجه هذا الأخير إلى عدد من رسامي مقاطعة بلنسية، التي شهدت مرافئها أكبر عملية تهجير، من مثل الأب أوروميغ وخيرونيمو اسبينوزا وفرانسيسكو بيرالتا وآخرين... بطلب تصميم أعمال تخلد الواقعة، التي لم تكن عملاً يسيراً، بقدر ما كانت حرباً كاملةً، استنفرت لها جيوش المملكة، وأساطيلها البحرية، ورافقتها أعمال نهب ومصادرة وانتزاع للأملاك، ومصادرة للأطفال ما دون السابعة، وفظائع إنسانية دون حد، قبل إيصال ما تبقى من العائلات المنكوبة إلى الشواطئ الأفريقية، وتركهم في العراء لمواجهة قدرهم الدامي.

يوسف شاهين
يوسف شاهين

كان فيليب الثالث في حاجة إلى وثيقة بصرية تدون الحادثة التاريخية وتحفظها كمأثرة من مآثر الدولة القومية المنتصرة، وجاءت تلك الأعمال السبعة التي ترسم مئات المراكب مكتظة بالناس، وسلاسل طويلة من الراجلين تلوح في الأفق منتظرة دورها، يحرسها فرسان الجيش الإمبراطوري. وتبدو وجوه المنكوبين في تلك اللوحات متشابهة، دون ملامح ولا قسمات على غرار معظم أعمال المنمنمات والتصاوير الكلاسيكية، لكن هذه الأعمال، الموجودة اليوم بمؤسسة «بانكاخا» ببلنسية، تحكي فقط ما جرى، تصوره بإيجاز وحياد، لا توحي ببطولة ولا بمأساة، تنقل يوميات التهجير عبر البحر المتوسط، تنفيذاً لتعليمات الملك.

لكن في النهاية، هل المتوسط مجرد قدر دامٍ، أو هو انتماء؟ أم أنه مجرد وهم؟ حين نتحدث عن عقائد انبثقت من حوضه، وأساطير، وأطعمة وموسيقى، ورحلات وثروات، ونكبات وأهواء متقاطبة للتوسع والاستكشاف، تتبدد الذكرى الأليمة ضمن حاضنة عاطفية أوسع. تختصر الموانئ قصص متوسط بصيغ متعددة متعارضة دوماً، مغرية على نحو مدوخ، لكن الماء منح حياة أخرى لمعتزلات ومنابذ وجزر مغمورة، وقوارب هجرات أوديسية، كما منح الحياة لخيالات ملتبسة في أذهان ساكني الضفتين عن بعضهما البعض، في تواتر لا ينتهي.

ولقد كانت نوازع عبور الضفاف المتوسطية، المتخذة إهابات متباعدة، مولدة لمفردات ومجازات ومعانٍ شتى نابعة من التباس الحاجز المائي، من الهجرة للنزوح للغزو للاحتلال، لمجرد السفر والترحل بين المرافئ المتناظرة، إنها الخلفية الذي أنتجت مدونة «الغيرية» في حقول الأدب والجماليات والسياسة والآيديولوجيا؛ من «الكراهية» لـ«العنف» لـ«الألم» لـ«المنفى» لـ«الهامش» لـ«العنصرية» لـ«الرغبة» لـ«الاحتضان» و«التسامح» و«الاعتراف»...، عبور عبر الماء أنتج سرديات روائية وسينمائية ومسرحية وشعرية وتشكيلية تستهدف التأمل في المشاعر الرافدة لها، وفهم نوازع الخيبة والغبطة المتأتية عنها. ذلك على الأقل ما تجليه نصوص متوسطيين أثيلين، وجوابي آفاق، من غوغان إلى ماتيس وفورتوني، ومن كازانتزاكيس إلى ألبير قصيري وحيدر حيدر، ومن لويس برلانكا إلى يوسف شاهين... روايات ولوحات وأفلام عن التحول من المراتع المصرية واليونانية واللبنانية والفرنسية والإسبانية والسورية إلى ضفاف بديلة، من مدن وعمائر وبيوتات أليفة ولغات وأطعمة وأنغام مسكوبة في ذاكرة اليفاعة، إلى الانتماء المركب وأقدار مساراته.

ولم يكن عبوراً واقعياً ولا تخييلياً فقط عبر النصوص والصور ذلك الذي احتضنه البحر العريق، وإنما كان عبوراً للغات والعقائد، إنه ما يفسر نشأة الكتابات الروائية والشعرية والمسرحية لمبدعي الجنوب بلغات الشمال الفرنسية والإسبانية والإيطالية... واستيطان لغات المرافئ الجديدة وتحويل لكناتها، ومضامينها، وهيئات ناطقيها وطبائعهم وألوانهم، وأحلامهم في الحياة، ولأهواء أمزجتهم ونهمهم الطعامي. في مقطع من حوار لعبد اللطيف اللعبي مع ليونيل بور، متحدثاً عن كتاباته المتنامية خارج مداراتها الأصلية، مستعملاً معجماً بحرياً في مجمل توسلاته المجازية: «إني داخل هذا المحيط المنعدم الضفاف لمغامرة الكتابة، لأبحر متحسباً كل شيء. وما أضفر به من تلك الرحلة، ليس بالضرورة ما قد هجست به أو رغبت فيه في المنطلق. إن هي إلا أشتات رؤى، وحدوس مما انتزعته انتزاعاً من غامض الكون، أو مما تنازل عنه ذاك الخفاء لصالحي» (من كتاب: الهوية شاعر، ص 7) والشيء الأكيد أن الكتابة تعيش حيوات متبدلة حين تفارق مراتعها الأولى، تبني لنفسها صيغاً تعبيرية جديدة، وامتدادات تتجاور فيها الكلمة مع الصورة والنغم واللون والبنيان، تلك التي تمنحها الانتماءات المتوسطية امتدادات شتى... وكأنها تعيد التفكير في موضوعاتها مجدداً، أو تنسلخ عن زمنيتها المحدودة لتعانق رحابة أوسع، وجمهوراً مختلفاً.

كازاتزاكيس
كازاتزاكيس

وبقدر ما كان الانتماء المتوسطي تماهياً مع المعابر المائية، وما حفلت به من مجازات الانكسار والأمل، فقد كانت انتماء إلى الجسر اليومي مع الآخرين، لذا كان التواصل طعامي، في القلب منه، تتناظر فيه مطاعم وحانات المرافئ المتباعدة، التي تولّعت بها الأخيلة والصور، فالطعام الساكن لتفاصيل الروايات والأفلام واللوحات سمة متوسطية غير قابلة للتجاوز، وحين تجعله المعارف والثقافات محوراً للتأمل والتمثيل فلتجاوز لحاءاته الحسية، لهذا لا يمكن الانحياز للرواشم الخطابية التي تجعله في عداء مع الكتابة والتشكيل، ولا لتلك المأثورات التي تعارض بين الذهنيات والكؤوس والصحون، وبين الذكاء والتولع بالوصفات الرفيعة. صحيح أن الغواية الطعامية هنا ليست موضوعاً أثيراً لذاته، فالمثير هو ما يقترن بها من غرائز وفتن وزيغ سلوكي؛ ذلك أن لحظات الجلوس إلى الموائد، والتقطيع والتناول، لم تسترع اهتمام الروائيين والسينمائيين والمسرحيين الفرنسيين واليونانيين والإيطاليين واللبنانيين والمغاربة... بوصفها تفاصيل إنسانية مقيمة، إلا في اقترانها بالسجايا الأخلاقية، أي بما هي سند لتخييل كياسة أو توحش، وتسويغ طبع أو تصرف... بيد أن الشيء الأكيد أن علاقة الفرد المقيم في ضفاف هذا الحوض المائي بما قد يوضع أمامه في مأدبة، أو يقدمه للآخرين الضيوف، هو أجلّ من مجرد استعراض لمهارة وذوق، إلى استبطان كنه العلاقة برمزيات الجامد المثير والضامن للحياة.

ولعل ما يبدو لافتاً للانتباه منذ الوهلة الأولى في اللوحات التي سعت لتمثيل لحظة «التناول»، وهي من أكثر الصور تداولاً في الفن المتوسطي الحديث، أنها لم تستهدف تمثيل التواصل الطعامي فحسب، وإنما سعت في أغلب نماذجها الفنية الشهيرة منذ ليوناردو دافنشي إلى تشخيص لحظة انتقال الطعام من الماهية الجسدية إلى الروحية، وتبعاً لذلك كفت عن قرن الأكل بحسية مبتذلة، وشحنته بإيحاءات عاطفية ملغزة، تلك التي سترتقي بعد ذلك لتجعل الخبز والخمر والجبن والفاكهة ألغازاً حياتية لا تكف عن تصدير المعاني المبتكرة.

الكتابة تبني لنفسها امتدادات تتجاور فيها الكلمة مع الصورة والنغم واللون والبنيان، تلك التي تمنحها الانتماءات المتوسطية امتدادات شتى

لكن سرعان ما سنكتشف مع تواتر روايات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في الضفاف الشمالية للمتوسط أن الغواية الطعامية شيء مختلف عن الفتنة الجنسية التي تسبر لذاتها، ولما تستنفره من سجايا أسلوبية متغايرة، وستتجلى لحظات الأكل غالباً بوصفها فرصة لتصوير الاختلال، وما يفضي إليه من مآرب السخرية والهجاء والتمثيل التهكمي. بينما سيختصر الطعام السينمائي منذ النصف الأول من القرن الماضي بما هو فجوة توتر كلامي وانفعالي عابر، فالطعام لا يوضع إلا ليكون جسر تواصل رمزي، كما في الفيلم الفرنسي - الإيطالي الأشهر «الوليمة الكبرى» لماركو فيريري، حيث يتحول الأكل إلى معبر للموت السعيد.

وغير بعيد عن مبدأ التواصل الذي شكلته الوساطة الطعامية، يتجلى الخروج عن الثبات الجغرافي، وما يقترن به من حدود، إلى هوية المشترك المائي، بوصفه ارتقاءً في سلم الانتماء، وما لبث أن بات اللجوء إليها بوصفها انعتاقاً من الارتهان للمنبت، من هنا يمكن فهم ذلك الوازع الذي جعل الإبداع الفني والشعري والروائي مولعاً بالمرافئ المتعددة المبثوثة في ضفاف هذا الماء، وكأنما اليابسة ومدنها أضحت مرادفة للعقم. في الفصل المعنون بـ«حين أثمرت بداخلي ثمرة الأوديسة» من النص السيري لنيكوس كازانتزاكيس «تقرير إلى غريكو»، ترد العبارة التالية: «ما نسميه... الخلود والنعمى يستقل قاربنا ويبحر معنا» (ص 577)، إنها التعبير الأبلغ عن استعادة الإحساس بالمطلق، والانفصال عن العرضي، المتمثل في العمائر والمدن والرطانات والأهواء المحلية. ولربما ذاك ما منح مدن الإسكندرية ومارسيليا وطنجة وبيروت وغيرها تماثلات شتى، هي المسكونة بخليط غير صاف، والمدينة للبحر وحده بقدرتها على العيش ومنح شهوة السفر.


مقالات ذات صلة

الروائي الكويتي هيثم بودي: «الملاحم» الخليجية كنز لم يكتشف بعد

ثقافة وفنون هيثم بودي

الروائي الكويتي هيثم بودي: «الملاحم» الخليجية كنز لم يكتشف بعد

تختزن في ذاكرتنا بالخليج العديد من السنوات الصعبة، التي لم تجد تصويراً مناسباً لها في الأعمال الأدبية، سنوات عرفت باسم المرض؛ كسنوات الجدري والطاعون والكوليرا،…

ميرزا الخويلدي (الكويت)
ثقافة وفنون الفن روح لا تموت

الفن روح لا تموت

كتب ليوناردو دافنشي عبقري الفنون الكلاسيكية ذات مرة: «الجسد الجميل يفنى، لكن العمل الفني الجميل لا يموت».

خالد الغنامي
ثقافة وفنون أر.إس . توماس

وصايا الشعراء... خرائط لمجاهيل القصيدة

نصائح الأدباء الذين أمضوا زمناً طويلاً في ممارسة الكتابة الإبداعية إلى الأجيال الشابة السالكة دروبَ الأدب حديثاً، في مؤداها، حديث الذات المرتد إلى تجربة...

كاظم الخليفة
ثقافة وفنون «سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

في روايته الأحدث «سيرة الفيض العبثية»، الصادرة عن دار «الفرجاني» في القاهرة، يسعى الروائي الليبي صالح السنوسي لتأريخ مرحلة تاريخية ممتدة في سيرة منطقة «الفيض»

عمر شهريار
ثقافة وفنون رواية عن الزنازين السورية

رواية عن الزنازين السورية

في عمله الروائي الجديد «جدران تنزف ضوءاً»، ينقل الكاتب السوري الكردي ماهر حسن القارئ إلى قلب الزنازين السورية، حيث يتحول المكان الضيق إلى عالم متكامل

«الشرق الأوسط» (برلين)

وصايا الشعراء... خرائط لمجاهيل القصيدة

أر.إس . توماس
أر.إس . توماس
TT
20

وصايا الشعراء... خرائط لمجاهيل القصيدة

أر.إس . توماس
أر.إس . توماس

نصائح الأدباء الذين أمضوا زمناً طويلاً في ممارسة الكتابة الإبداعية إلى الأجيال الشابة السالكة دروبَ الأدب حديثاً، في مؤداها، حديث الذات المرتد إلى تجربة خبرها الأديب واستجمع خلاصتها. ليس خطاباً أبوياً، ويرتفع كذلك عن الأسلوب الوعظي بما يتضمنه من إشارات وإيحاءات تجاوز بها الأديب عثرات أو محذورات نتيجة لاندفاعه. منها جزء من وصف تجربته، والأبعد شوطاً، هو ما يأمل فعله لو عاد به الزمن.

قد تأتي هذه التجارب موجهةً بشكل مباشر، كوصايا عبد الحميد الكاتب للكتاب، أو تلك الوصايا المنبثة في «كشاكيل» الأدباء وكتبهم. الشعراء لهم طريقتهم الخاصة التي يعبرون بها عن رؤاهم وفهمهم للشعر. من ذلك تسمع شقشقة اللغة وجدال العقل ورفيف الروح؛ مزيج معبر، وتهويمات شبيهة بأحلام اليقظة؛ ذلك إن كانوا يعبرون شعراً عما تعنيه لهم القصيدة. أما عندما يتوجهون بخطابهم إلى مريديهم من الشعراء الشباب، فيصبح حديثهم مباشراً واضحاً؛ بأسلوب قريب من المدرسي التعليمي، وإن كان لا يخرج عن نطاقه الشعري الإيحائي. فنثراً، على سبيل المثال، كتب الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه أوائل القرن الماضي رسالةً إلى شاعر مبتدئ ينبهه إلى اكتشاف ما في نفسه من كنوز، يقول فيها: «كل ما حولك؛ كل ما تراه في حلمك من صور؛ كل ما في زوايا ذاكرتك هو ملك لعينيك. أما إذا ما بدا لك أن حياتك اليومية فقيرة جدباء فلا تلمها، بل لم نفسك أنك لست الشاعر الذي يستطيع أن يكتشف ما فيها من غنى».

«إلى الشاعر الشاب»

أما النصيحة بالقول الشعري، فتذهب إلى الاختزال والومض بالفكرة المراد إيضاحها مع شيء من المباشرة، كما في نص الشاعر الآيرلندي رونالد ستيوارت توماس «إلى الشاعر الشاب»، التي ينطلق في وصاياه من المرحلة الذهبية للروح في تعبيرها الشاطح، والمتوهج:

«في الأعوام العشرين الأولى

ستكون في طور النمو الجسمي،

بالطبع لم تولد لتكون شاعراً منذ البداية

ولكن في السنوات العشر القادمة

ستحصد من تجربتك المبكرة

وستظهر بابتسامة متكلفة

لتغازل عروس الشعر بوقاحة».

بمحدد العمر، يمضي الشاعر في وصاياه، وكأن هناك تلازماً بين نمو الخبرة الشعرية والتقدم في السن؛ لذا تحظى مرحلة «منتصف العمر» باهتمام الشاعر كونها تستدعي التأني في الاندفاع والمراجعة، مع قليل من التردد. بالإضافة إلى ما تقدمه القصيدة من معالجة عاطفية ووجدانية لمتاعب الروح في تلك المرحلة:

«ومن الأربعين وصاعداً

تتعلم من الحذف والنتوءات في القصائد

التي تكونت بين يديك القاسيتين

كيف تنظم بمهارة

الأجزاء في القصيدة الغنائية

أو السونيتة بشكل اعتباطي

في حين يعزز الزمان حافزاً جديداً

ليخفي جرحك من قصائدك

ومن جسارة الناس

أصحاب الفضول».

لمرحلة الكهولة اعتبارها لدى الشاعر، فنصوصها ستقع دائماً في دائرة رثاء الذات وهجاء الحياة بتخلفها عما وعدت به، كما كانت تلوح به بشائر الصبا من قبل، فأضحت يباباً مكفهرة:

«والآن كبرت

كما يبدو من سنين عمرك

إلا أنك ما زلت في عالم الشعر البطيء

وقد انتقلت إلى الرجولة الحزينة منذ قليل

وأنت تعلم أن الابتسامة على وجه هذا العالم المتكبر

ليست لك».

قصيدة في جناح الفراشة

أما الشاعر السعودي عبد الله السفر، فهو في وصاياه يذهب إلى الجانب التقني الإجرائي لكتابة القصيدة، ويمارس تمارينه على كتابتها ويشرح رؤيته عنها. لا يمنح نصائحه للغير، إنما هو حديث يرتد صداه إلى أناه المبدعة؛ بين تلك الذات الناقدة الفاحصة، وذاته الأخرى الشاعرة التي يستشرف أفقها ويهيئها للانفعال مع قضايا الوجود بقلق الكينونة وأحلام اليقظة؛ حينما:

«الغريب يودع قصيدته في جناح الفراشة،

ويمضي وديعاً ذائباً في زرقة الليل.

القصيدة نائمة في ليل الأصابع

مَجْمَعُ مسوداتٍ وقبضُ ريح

وكانت يده تطيش في الصفحة

وكان قلبه على الحبر

حقل المرارة ناصعٌ، والحبر ماء

اشحذ كلماتك. كل هذا الجمال لن ينتظر».

ما سبق من خطاب كان بمثابة التهيئة لإعلان المنهج وتحديد مستوى الطموح، أما بنود الشاعر الإجرائية لكتابة القصيدة، فَتُكّون بنية النص الشعري المنشود وتقوده من خلال ثلاث خطوات رئيسية يأمل من خلالها عبد الله السفر أن تراعيها القصيدة وتلتزم بها.

الأول، ألا يحصر الشعر جهود الفكر في نقل مظاهر الواقع وترجمتها، بل أيضاً يطلق خياله متحرراً من كل قيود الفكر؛ حيث الأثر الفني يتطلب معرفة عميقة في كيفية تشكل مظاهر الواقع وقيمته، ويتطلب أيضاً معرفة في كيفية إدراك ما ينبغي تأويله، كما يقول ألبير سوور، وهذا ما يتفق الشاعر معه:

«كلماتك اشحذها يا صديقي.

لا تشد النص إلى سرير المألوفية، سوف تزعجه بالكوابيس.

مع كل دورة زمنية، يقص النص ريشهُ ليقوى على الطيران في أفقٍ جديد.

ترفق، ترفق، وأنت تثني غصنَ القصيدة.

لا تتهور، وتزعم أنك قبضت على القصيدة.

ستكون من أولئك العميان الذين ادعوا - واحداً واحداً - امتلاك حقيقة الفيل.

السطح. إنه جلدٌ ميت! من يريده؟.. احفر عميقاً.

يخون الواقع من ينسخه بأمانة».

ليس نقل الواقع كما هو عليه فقط ما يجب أن ينأى عنه كاتب القصيدة الحديثة، بل أيضاً أن تتخفف ذاكرته وتتخلى عن مجمل اطلاعه على الأفكار والمعارف التي تسربت إلى وعيه بفعل القراءة؛ ليبقى أثرها وانطباعها كما وعاه في لحظة الاستقبال:

«ذهب إلى النسيان ما قرأته في الرواية. بقي لي كدرها المشع.

العربة توقفت في منتصف الفكرة. نزلَ اللعابُ متبوعاً بخيط كلامٍ أبيض».

عند هذا الحد من الاستعداد للدخول إلى فسحة القصيدة، يتجرد الشاعر من قبليات معرفته، ومن ذاته الواعية؛ ليلتحم مع النص ويتوحد معه:

«يا مرشدي سأحرق لوح وصاياك، وأدخل، وحدي في متاهة القصيدة.

يبتكر عزلته. يضع في قلبها الدودة ويحلم...».

البند الثاني، هو نتيجة لما سبقه؛ فعند توحده بالنص، تتقلص المساحة الافتراضية بين الوعي واللاوعي، بين الفكر والحلم. حينها يصل المبدع إلى الحالة التي يصورها موتسارت باستغراب: «تتهاجم عليّ الأفكار جماعة وبسهولة زائدة ولا أعلم كيف أتت ومن أين أتت»، والشاعر بتهيئته السابقة وعند قبضه على الومضة التي تمثل جذوة الإبداع، تتعدد خياراته للتعبير عن لحظته:

«من أجل استدامة جمرةِ نصه، لا يذهب إليه من طريق واحدة.

يا ابن الغرابة، في تربة هذا النص يختفي مجهولك. فأوغل بغريزتك وغُص بحدسك».

قد تأتي هذه الوصايا بشكلٍ مباشرٍ مثل وصايا عبد الحميد الكاتب أو منبثة في «كشاكيل» الأدباء وكتبهم

أما البند الثالث لإنتاج القصيدة المثلى في نظر الشاعر عبد الله السفر، فهو بتفعيل القوى الشاعرية المتفردة للمبدع، حيث وحدها من يستطيع إخراج المعنى وصياغته في صورته اللغوية المغايرة للغة التقريرية، بالتالي يكتسب هوية منشئه وبصمته. التوجه إلى نقل الإحساس والشعور وليس الحكاية؛ فتتخلى الألفاظ عن وظيفة نقل المعنى إلى نقل الإحساس المصاحب له مركزاً للتعبير؛ فيرى المتلقي الأحاسيس والمشاعر المنقولة أكثر مما يرى المعاني. وهذا ما عناه الشاعر السفر بـ«الرقيب» أو وعاء الترشيح الذي يقوم بمهمة التجريد:

«الرقيب يضع الكتابة على خازوق نياته، يصفي دمها من لغة الحياة.

الرقيب تنكل به الاستعارة، يفدح به المجاز.

هويةُ المبدع، دائماً، بدون. يشهِرُ لحمه خارج الأسوار ويغني.

يحتشد البحرُ في لحظة إصغاء.

تنبت للنص أجنحةٌ لا حصر لها عندما يتغلغل هواءُ الوجدان عميقاً في جسد الفكرة».

هذا البند الأخير لعبد الله السفر يأتي متوافقاً مع المرتبة الثالثة في مكونات الإبداع الشعري لرؤية الشاعر جون درايدن التي سمَّاها «بإلباس الفكرة» وتزيينها بإطار مناسب ومعقول من الفن القولي، في حين المرتبة الأولى هي «الاختراع» أو إيجاد الفكرة، والثانية «الاستخراج» أو التبديل للفكرة بحيث تتلاءم مع الموضوع.

وهكذا هو البيان الشعري لعبد الله السفر عن عناصر ومراحل تكون القصيدة الحديثة من منظوره، وهو مزيج من رؤية الشاعر وافتراضات الناقد اللذين يجتمعان فيه. فعقل الناقد الذي يعمل من خلال الشعر عادة ما يكون متقدماً على العقل الذي ينتج الشعر، سواء كان الشعر شعر الناقد نفسه أو شعر غيره، كما يقول الشاعر ت. س. إليوت.

ونختم بما ختم به الشاعر عبد الله السفر نصه: «الشعراء يجددون أعمارنا؛ أعمارَ الذين: يعيشون أقل من حياة وأطول من يأس».

* كاتب سعودي