10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

الروائية الأسترالية تقول إن العمل هو خلاصها وجسرها للعالم

دوايت غارنر
دوايت غارنر
TT
20

10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

دوايت غارنر
دوايت غارنر

لطالما حظيت روايات الكاتبة الأسترالية هيلين غارنر بتقدير كبير من الأشخاص الذين أثق بذوقهم. ومع ذلك، عندما كنت أبدأ بقراءة رواياتها كنت أرتد عنها مثل مركبة فضائية أخطأت في العودة إلى الغلاف الجوي للأرض. لا بد أن يكون لكل قارئ كاتب أو اثنان من هذا القبيل، كاتب أو اثنان يشعر بأنه يجب أن يُعجب بهما لكنهما لا يكونان كذلك أبداً. بدت أعمال غارنر، في قراءاتي الموجزة ركيكةً، ركيكة وتفتقر إلى الصقل.

والآن يأتي كتاب «كيف تُنهي قصة»، وهو كتاب بوزن ثقيل للغاية يجمع 3 مجلدات من مذكراتها اليومية من 1978 إلى 1998، بدءاً من منتصف الثلاثينات من عمرها. يقع هذا الكتاب في أكثر من 800 صفحة، وهو يضم كثيراً من مذكرات غارنر اليومية (دون صلة مباشرة). كدتُ أضع هذا الكتاب جانباً أيضاً لأنه يبدأ بداية مرتجلة ومترددة.

نقاد الكتب، مثل العاملين في مجال النشر، يبحثون دائماً عن عذر للتوقف عن القراءة. لكن بعد فترة من الوقت بدأتُ في الانسجام مع صوتها. وبحلول ربع الطريق، كنتُ غارقاً بين يديها تماماً. ويا لخطئي الفادح!

هذا الكتاب موجه إلى الانطوائيين، الحذرين والمتشائمين، غير المتيقنين من مظهرهم أو ذوقهم أو موهبتهم أو مكانتهم الطبقية. تمتلك غارنر صوتاً مثالياً للتعبير عن مخاضات القلق والضيق في وقت متأخر من الليل، بعضها أكثر هزلية من البعض الآخر. أسلوبها في النثر واضح وصادق ومقتصد؛ إما أن تقبله أو ترفضه، على الطريقة الأسترالية.

وهي في سردها من النوع الذي قد يُخطئ الناس في اعتبارها أحد العاملين في مهرجانات الكتاب. يتوجَّه الناس إليها على نحو مفاجئ ويسألونها: «ما الخطب؟» (وهذا أمر أكرهه بصورة خاصة أيضاً). وهي تخشى على آداب المائدة. يقول لها المصورون أشياء مثل: «إن هيئة وجهك ليست هي الأفضل».

إذا سبق لك أن نظرت إلى صورة فوتوغرافية لنفسك وشعرت بالذهول من قبح مظهرك، حسناً، إن غارنر هي صاحبة السبق في هذه التجربة:

* لقد عرضت عليّ بعض الصور التي التقطها لي العام الماضي وصُدمت من قبح مظهري: بشرة مرقطة، ووجه مجعد، وقَصة شعر قبيحة، وتعابير داكنة. أعني أنني صُدمت للغاية. وذعرت من احتمال أن أكون بمفردي الآن لبقية حياتي.

يمتد إحساسها بعدم الجدارة إلى كتاباتها الخاصة. تقول: «أنا مجرد حرفية ذات مستوى متوسط». و«الحزن ليست كلمة قوية للغاية لما يشعر به المرء أمام ضعفه وتواضعه». إنها تحارب مستويات من «متلازمة المحتال» من الدرجة الفائقة للغاية.

احتفظ الكُتّاب بمذكرات لأسباب لا تُعد ولا تُحصى. تمنت آناييس نين أن تتذوق الحياة مرتين. وكانت باتريشيا هايسميث تتوق إلى توضيح «الأمور التي قد تهاجم ذهني وتحتل مُخيلتي». كما أرادت آن فرنك أن تستمر في الحياة بعد موتها. وشعرت شيلا هيتي بأنها إذا لم تنظر إلى حياتها من كثب فإنها تتخلى عن مهمة بالغة الأهمية.

تلك هي غرائز غارنر أيضاً. لكنها تقول أيضاً وبكل افتتان: «لماذا أكتب هذه الأشياء؟ جزئياً من أجل متعة رؤية القلم الذهبي يتدحرج على الورق كما كان يفعل عندما كنت في العاشرة من عمري». كانت هذه الكتابة تخدم غرضاً أكثر جدية. إذ قالت غارنر ذات مرة لمجلة «باريس ريفيو»: «المذكرات اليومية هي الطريقة التي حوَّلتُ بها نفسي إلى كاتبة - تلك هي الـ10 آلاف ساعة خاصتي».

تتألق تفاصيل حياتها اليومية دوماً في هذا الكتاب - النباتات المزروعة في الأصص التي تنمو إلى جانبها، ورحلات التسوق («كيمارت، ومنبع كل الخير»)، وحفلات العشاء، وغسل ملابسها الخاصة في دلو، وإزالة فضلات الكلب، وإصلاح التنورة، والذهاب إلى السينما، والاحتفاظ بنسخة من كتاب «الفردوس المفقود» في الحمام الخارجي. تعيش أحياناً في شقق صغيرة في المدينة، وأحياناً أخرى في منزل ريفي حيث ترى الكوالا، والكنغر، والنسور، والكوكابورا.

هذا هو تقريرها عن إحدى وجبات تناول العشاء في الخارج: «في منزل الهيبيز لتناول العشاء، وجدت في شريحة الكيشي التي أتناولها عنصرين غريبين: عود ثقاب مستعمل وشعر. أخفيتهما تحت ورقة الخس وواصلنا الحديث».

حديثها الأدبي يتسم بالحماسة والبراعة: «تظل العاطفية تتطلع من فوق كتفها لترى كيف تتقبل الأمر. لكن (الانفعال)، على الرغم من ذلك، لا يهتم سواء كان أحد ينظر إليه أم لا».

إنها تقيّم منطقة الانفجار حول بعض الأمور المملة. عن عشاء مع أكاديميين، تكتب قائلة: «أعفوني من افتراض كبار السن الهادئ بأن أي شيء يقولونه مهما كان مملاً أو بطيئاً أو رتيباً يستحق أن يُقرأ وسوف يحظى بجمهور».

لا يحتاج هذا الكتاب إلى جرعة من الدراما، ولكن الجرعة تأتي لا محالة. بعد زيجتين فاشلتين، تدخل غارنر في علاقة مع كاتب صعب المراس ومتزوج، تدعوه باسم «ڨي». (إنه الروائي موراي بايل). وفي نهاية الأمر يتزوجان، وتزاحم احتياجاته احتياجاتها فتغلبها. ثم تشرع في الشعور وكأنها دخيلة في شقتها الخاصة. فهو الذي تحق له الكتابة هناك، بينما يجب عليها الذهاب إلى مكان آخر للعمل. إنه يغار من أي نجاح تحرزه بنفسها. فأيهما هو المضيف وأيهما الطفيلي؟

يبدأ الزوج علاقة غرامية مع امرأة أخرى، وهي رسامة، ويراوغ ويكذب. تتظاهر غارنر، لأشهُر، بأنها لا تلاحظ ذلك. وتتشبث به لفترة أطول مما تتصور. ويصبح الأمر مروعاً. فعلاقتهما صارت الوعاء الذي تتكسر فيه عظامها حتى تستحيل إلى عجينة. وتكتب فتقول: «للمرة الأولى، بدأت أفهم نفسية النساء اللاتي يبقين مع رجال يضربونهن باستمرار».

العمل هو خلاصها وجسرها إلى العالم. خطتي هي أن أعود إلى كتبها الأخرى، وأن أخوض فيها هذه المرة لما هو أبعد من حجم كاحلي.

*خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

ثقافة وفنون العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

لم يكن التغزل الصريح بالمرأة والاحتفاء بالملذات ظاهرةً عباسيةَ النشأة والتبلور، بل كانت نسخته الأولى قد تشكلت في الحقبة الأموية

شوقي بزيع
ثقافة وفنون آنيتان من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت  مصدرهما مقبرة سار الأثرية في البحرين

آنيتان من مقبرة سار الأثرية في البحرين

خرجت من مقبرة سار الأثرية في البحرين مجموعة كبيرة من الأواني، منها وعاءان من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت، يتميّزان بنقوشهما التصويريّة المتقنة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان

أقدار البحر المتوسط

«لعنك الله من بحر أثيم مخرب للبيوت»، بهذه العبارة خاطب البحار العجوز الأفق المتوسطي في مرفأ «بيريه» بأثينا، في رواية «زوربا» لكازانتزاكيس،

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون مجلة «المسرح»: جيل جديد من مخرجي المسرح الإماراتي

مجلة «المسرح»: جيل جديد من مخرجي المسرح الإماراتي

صدر حديثاً العدد (66) من مجلة «المسرح» عن دائرة الثقافة في الشارقة لشهر مارس (آذار) 2025، ويضم مجموعة متنوعة من المقالات والحوارات والمتابعات والقراءات

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

تتساءل الباحثة والأكاديمية د. إكرام طلعت البدوي في كتابها «الفلسفة السياسية النسوية - تاريخ من العدالة المراوغة»، الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي
TT
20

الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

تتساءل الباحثة والأكاديمية د. إكرام طلعت البدوي في كتابها «الفلسفة السياسية النسوية - تاريخ من العدالة المراوغة»، الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، عن أهمية ومبررات الانشغال سياسياً بالحركة النسوية، مشيرة إلى أنه ربما كان الأمر يرتبط بالامتدادات الفكرية النسوية منذ القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. كما يجيء هذا الانشغال تعبيراً عن التزام آيديولوجي بالدعوة والعمل معاً على تحقيق المساواة بين الجنسين على مستويات عدة، من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بقاع مختلفة من أنحاء العالم.

وتشير إلى أن المساواة بمعناها الحقوقي، قانونياً وسياسياً واجتماعياً، هي عبارة عن موقف نقدي ورؤية فلسفية للعالم ترفض أي تمكين على أساس الجنس، وتؤكد ضرورة الاعتراف بالإنسانية كجوهر يتقاسمه الرجل والمرأة معاً، كما تعد الديمقراطية بمعناها السياسي تجسيداً للمساواة بين الجنسين، ومن ثم فإنها محور الارتكاز للمطالب النسوية التي تنادي بالحقوق التي يتمتع بها الرجال منفردين.

ظهرت بوادر الحراك النسوي في أربعينات القرن التاسع عشر من خلال معاهدة «سينيكا فولز» عام 1848 التي أقرت بحقوق المرأة في الولايات المتحدة. أما في بريطانيا فقد بدأت في الخمسينات من القرن نفسه محاولات لإقرار حق التصويت للمرأة في إطار ما قدمه الفيلسوف جون ستيوارت مل، لكن جاء الرفض من قبل مجلس العموم البريطاني. وكان هذا الرفض بمثابة تشجيع لقيام الاتحاد الاجتماعي والسياسي للمرأة عام 1903 بقيادة إميلين بانكهوت (1858-1928) وابنتها كريستابل بانكهورست بالعمل من مقر سري في باريس لشن حملات وتظاهرات دعمتها دعاية ناجحة.

منح التعديل التاسع عشر للدستور الأميركي حق التصويت للأميركيات عام 1920، وفي بريطانيا حصلت المرأة عليه عام 1928. وإذا اعتبرنا أن حق التصويت في هذين البلدين، ومن قبلهما نيوزيلاندا عام 1893، يمثل المحور الأساسي لما يمكن تسميته بـ«الموجة الأولى» فإن الموجة الثانية للحراك السياسي النسوي دشنته بيتي فريدان في كتابها «السحر الأنثوي» عام 1963.

يطرح الكتاب مشكلات إنسانية واجتماعية تعوق مسيرة الحقوق السياسية والقانونية للنساء، ومن ثم ظهرت على السطح تلك المشكلات التي صارت تؤسس لفكرة التغير الاجتماعي السياسي وذلك بعد الحرب العالمية الثانية وبداية حركة حقوق الإنسان حيث أدرجت النساء رسمياً كأصحاب حقوق إنسانية. وقام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 بإعلان المساواة في الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وأيضاً الحقوق المدنية والسياسية، بغض النظر عن النوع الاجتماعي بالإضافة إلى الإعلان العالمي لحقوق المرأة 1967 واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1979.

ورغم تلك النجاحات، فإن الموجة الثانية عانت من انقسامات بداخل الحركة النسوية ذاتها إزاء حسم مسألة تكافؤ الفرص في مجال التوظيف، كما تعثرت مسألة تحويل التجارب الشخصية النسوية إلى كيان سياسي يمكنه القيام بمظاهرات حاشدة وإضرابات عمالية. ولم تقدم الحركة النسوية تصوراً موحداً للتعامل مع آيديولوجيات الليبرالية والاشتراكية والراديكالية.

على هذه الخلفية، بدا واضحاً أن مسألة «السلطة» تجسد الميزة الكبرى التي حصل عليها الرجل، وتعد العائق الأعظم في طريق تمكين المرأة من المساواة بين الجنسين وحصولها على حقوقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي من حيث توزيع المسؤوليات والمهام.

وفي الأخير، تشدد المؤلفة على أن مشكلات المرأة لا تخصها وحدها وإنما تخص المجتمع بأسره. ومن الأمثلة الدالة على عدم تمكين المرأة أنه في معظم البلاد الأوروبية وكثير من بلدان العالم تمثل النساء نسبة أقل من الثلث في الانتماء للأحزاب السياسية؛ لذلك فإن تمكينها من الدخول إلى دائرة صنع القرار يظل محدوداً إلى حد بعيد.