أقدار البحر المتوسط

هل هو انتماء أم مجرد وهم؟

لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان
لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان
TT
20

أقدار البحر المتوسط

لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان
لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان

«لعنك الله من بحر أثيم مخرب للبيوت»، بهذه العبارة خاطب البحار العجوز الأفق المتوسطي في مرفأ «بيريه» بأثينا، في رواية «زوربا» لكازانتزاكيس، عبارة تتبادر إلى الذهن في كل مرة تلفظ فيها شواطئ المتوسط جثث المتطلعين للفرار واللجوء وتبديل الأوطان من طنجة إلى بيروت ومن الجزائر إلى الإسكندرية... وحين التأم قبل سنوات في «معهد العالم العربي» بباريس معرض «مغامرو البحار» كان القصد هو إعادة تركيب حكاية العبور المتقاطع بين الضفاف المتباعدة، والمتنابذة، لذلك الحوض المسكون بنوازع المغامرة؛ صور ووثائق، لوحات وأفلام، لقى ومنحوتات تؤرخ لروح مستترة مأخوذة بالبحر الذي وسمه عجوز كازانتزاكيس بمخرب البيوت.

في سنة 1612 ميلادية، أمر الملك الإسباني فيليب الثالث، صاحب القرار الشهير بطرد المورسكيين من شبه الجزيرة الإبيرية، نائبه تلمركيز دو كاراسينا بانتخاب صفوة من الفنانين الإسبان لتخليد لحظة «الترحيل القسري» عبر البحر المتوسط إلى الضفاف الجنوبية، فتوجه هذا الأخير إلى عدد من رسامي مقاطعة بلنسية، التي شهدت مرافئها أكبر عملية تهجير، من مثل الأب أوروميغ وخيرونيمو اسبينوزا وفرانسيسكو بيرالتا وآخرين... بطلب تصميم أعمال تخلد الواقعة، التي لم تكن عملاً يسيراً، بقدر ما كانت حرباً كاملةً، استنفرت لها جيوش المملكة، وأساطيلها البحرية، ورافقتها أعمال نهب ومصادرة وانتزاع للأملاك، ومصادرة للأطفال ما دون السابعة، وفظائع إنسانية دون حد، قبل إيصال ما تبقى من العائلات المنكوبة إلى الشواطئ الأفريقية، وتركهم في العراء لمواجهة قدرهم الدامي.

يوسف شاهين
يوسف شاهين

كان فيليب الثالث في حاجة إلى وثيقة بصرية تدون الحادثة التاريخية وتحفظها كمأثرة من مآثر الدولة القومية المنتصرة، وجاءت تلك الأعمال السبعة التي ترسم مئات المراكب مكتظة بالناس، وسلاسل طويلة من الراجلين تلوح في الأفق منتظرة دورها، يحرسها فرسان الجيش الإمبراطوري. وتبدو وجوه المنكوبين في تلك اللوحات متشابهة، دون ملامح ولا قسمات على غرار معظم أعمال المنمنمات والتصاوير الكلاسيكية، لكن هذه الأعمال، الموجودة اليوم بمؤسسة «بانكاخا» ببلنسية، تحكي فقط ما جرى، تصوره بإيجاز وحياد، لا توحي ببطولة ولا بمأساة، تنقل يوميات التهجير عبر البحر المتوسط، تنفيذاً لتعليمات الملك.

لكن في النهاية، هل المتوسط مجرد قدر دامٍ، أو هو انتماء؟ أم أنه مجرد وهم؟ حين نتحدث عن عقائد انبثقت من حوضه، وأساطير، وأطعمة وموسيقى، ورحلات وثروات، ونكبات وأهواء متقاطبة للتوسع والاستكشاف، تتبدد الذكرى الأليمة ضمن حاضنة عاطفية أوسع. تختصر الموانئ قصص متوسط بصيغ متعددة متعارضة دوماً، مغرية على نحو مدوخ، لكن الماء منح حياة أخرى لمعتزلات ومنابذ وجزر مغمورة، وقوارب هجرات أوديسية، كما منح الحياة لخيالات ملتبسة في أذهان ساكني الضفتين عن بعضهما البعض، في تواتر لا ينتهي.

ولقد كانت نوازع عبور الضفاف المتوسطية، المتخذة إهابات متباعدة، مولدة لمفردات ومجازات ومعانٍ شتى نابعة من التباس الحاجز المائي، من الهجرة للنزوح للغزو للاحتلال، لمجرد السفر والترحل بين المرافئ المتناظرة، إنها الخلفية الذي أنتجت مدونة «الغيرية» في حقول الأدب والجماليات والسياسة والآيديولوجيا؛ من «الكراهية» لـ«العنف» لـ«الألم» لـ«المنفى» لـ«الهامش» لـ«العنصرية» لـ«الرغبة» لـ«الاحتضان» و«التسامح» و«الاعتراف»...، عبور عبر الماء أنتج سرديات روائية وسينمائية ومسرحية وشعرية وتشكيلية تستهدف التأمل في المشاعر الرافدة لها، وفهم نوازع الخيبة والغبطة المتأتية عنها. ذلك على الأقل ما تجليه نصوص متوسطيين أثيلين، وجوابي آفاق، من غوغان إلى ماتيس وفورتوني، ومن كازانتزاكيس إلى ألبير قصيري وحيدر حيدر، ومن لويس برلانكا إلى يوسف شاهين... روايات ولوحات وأفلام عن التحول من المراتع المصرية واليونانية واللبنانية والفرنسية والإسبانية والسورية إلى ضفاف بديلة، من مدن وعمائر وبيوتات أليفة ولغات وأطعمة وأنغام مسكوبة في ذاكرة اليفاعة، إلى الانتماء المركب وأقدار مساراته.

ولم يكن عبوراً واقعياً ولا تخييلياً فقط عبر النصوص والصور ذلك الذي احتضنه البحر العريق، وإنما كان عبوراً للغات والعقائد، إنه ما يفسر نشأة الكتابات الروائية والشعرية والمسرحية لمبدعي الجنوب بلغات الشمال الفرنسية والإسبانية والإيطالية... واستيطان لغات المرافئ الجديدة وتحويل لكناتها، ومضامينها، وهيئات ناطقيها وطبائعهم وألوانهم، وأحلامهم في الحياة، ولأهواء أمزجتهم ونهمهم الطعامي. في مقطع من حوار لعبد اللطيف اللعبي مع ليونيل بور، متحدثاً عن كتاباته المتنامية خارج مداراتها الأصلية، مستعملاً معجماً بحرياً في مجمل توسلاته المجازية: «إني داخل هذا المحيط المنعدم الضفاف لمغامرة الكتابة، لأبحر متحسباً كل شيء. وما أضفر به من تلك الرحلة، ليس بالضرورة ما قد هجست به أو رغبت فيه في المنطلق. إن هي إلا أشتات رؤى، وحدوس مما انتزعته انتزاعاً من غامض الكون، أو مما تنازل عنه ذاك الخفاء لصالحي» (من كتاب: الهوية شاعر، ص 7) والشيء الأكيد أن الكتابة تعيش حيوات متبدلة حين تفارق مراتعها الأولى، تبني لنفسها صيغاً تعبيرية جديدة، وامتدادات تتجاور فيها الكلمة مع الصورة والنغم واللون والبنيان، تلك التي تمنحها الانتماءات المتوسطية امتدادات شتى... وكأنها تعيد التفكير في موضوعاتها مجدداً، أو تنسلخ عن زمنيتها المحدودة لتعانق رحابة أوسع، وجمهوراً مختلفاً.

كازاتزاكيس
كازاتزاكيس

وبقدر ما كان الانتماء المتوسطي تماهياً مع المعابر المائية، وما حفلت به من مجازات الانكسار والأمل، فقد كانت انتماء إلى الجسر اليومي مع الآخرين، لذا كان التواصل طعامي، في القلب منه، تتناظر فيه مطاعم وحانات المرافئ المتباعدة، التي تولّعت بها الأخيلة والصور، فالطعام الساكن لتفاصيل الروايات والأفلام واللوحات سمة متوسطية غير قابلة للتجاوز، وحين تجعله المعارف والثقافات محوراً للتأمل والتمثيل فلتجاوز لحاءاته الحسية، لهذا لا يمكن الانحياز للرواشم الخطابية التي تجعله في عداء مع الكتابة والتشكيل، ولا لتلك المأثورات التي تعارض بين الذهنيات والكؤوس والصحون، وبين الذكاء والتولع بالوصفات الرفيعة. صحيح أن الغواية الطعامية هنا ليست موضوعاً أثيراً لذاته، فالمثير هو ما يقترن بها من غرائز وفتن وزيغ سلوكي؛ ذلك أن لحظات الجلوس إلى الموائد، والتقطيع والتناول، لم تسترع اهتمام الروائيين والسينمائيين والمسرحيين الفرنسيين واليونانيين والإيطاليين واللبنانيين والمغاربة... بوصفها تفاصيل إنسانية مقيمة، إلا في اقترانها بالسجايا الأخلاقية، أي بما هي سند لتخييل كياسة أو توحش، وتسويغ طبع أو تصرف... بيد أن الشيء الأكيد أن علاقة الفرد المقيم في ضفاف هذا الحوض المائي بما قد يوضع أمامه في مأدبة، أو يقدمه للآخرين الضيوف، هو أجلّ من مجرد استعراض لمهارة وذوق، إلى استبطان كنه العلاقة برمزيات الجامد المثير والضامن للحياة.

ولعل ما يبدو لافتاً للانتباه منذ الوهلة الأولى في اللوحات التي سعت لتمثيل لحظة «التناول»، وهي من أكثر الصور تداولاً في الفن المتوسطي الحديث، أنها لم تستهدف تمثيل التواصل الطعامي فحسب، وإنما سعت في أغلب نماذجها الفنية الشهيرة منذ ليوناردو دافنشي إلى تشخيص لحظة انتقال الطعام من الماهية الجسدية إلى الروحية، وتبعاً لذلك كفت عن قرن الأكل بحسية مبتذلة، وشحنته بإيحاءات عاطفية ملغزة، تلك التي سترتقي بعد ذلك لتجعل الخبز والخمر والجبن والفاكهة ألغازاً حياتية لا تكف عن تصدير المعاني المبتكرة.

الكتابة تبني لنفسها امتدادات تتجاور فيها الكلمة مع الصورة والنغم واللون والبنيان، تلك التي تمنحها الانتماءات المتوسطية امتدادات شتى

لكن سرعان ما سنكتشف مع تواتر روايات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في الضفاف الشمالية للمتوسط أن الغواية الطعامية شيء مختلف عن الفتنة الجنسية التي تسبر لذاتها، ولما تستنفره من سجايا أسلوبية متغايرة، وستتجلى لحظات الأكل غالباً بوصفها فرصة لتصوير الاختلال، وما يفضي إليه من مآرب السخرية والهجاء والتمثيل التهكمي. بينما سيختصر الطعام السينمائي منذ النصف الأول من القرن الماضي بما هو فجوة توتر كلامي وانفعالي عابر، فالطعام لا يوضع إلا ليكون جسر تواصل رمزي، كما في الفيلم الفرنسي - الإيطالي الأشهر «الوليمة الكبرى» لماركو فيريري، حيث يتحول الأكل إلى معبر للموت السعيد.

وغير بعيد عن مبدأ التواصل الذي شكلته الوساطة الطعامية، يتجلى الخروج عن الثبات الجغرافي، وما يقترن به من حدود، إلى هوية المشترك المائي، بوصفه ارتقاءً في سلم الانتماء، وما لبث أن بات اللجوء إليها بوصفها انعتاقاً من الارتهان للمنبت، من هنا يمكن فهم ذلك الوازع الذي جعل الإبداع الفني والشعري والروائي مولعاً بالمرافئ المتعددة المبثوثة في ضفاف هذا الماء، وكأنما اليابسة ومدنها أضحت مرادفة للعقم. في الفصل المعنون بـ«حين أثمرت بداخلي ثمرة الأوديسة» من النص السيري لنيكوس كازانتزاكيس «تقرير إلى غريكو»، ترد العبارة التالية: «ما نسميه... الخلود والنعمى يستقل قاربنا ويبحر معنا» (ص 577)، إنها التعبير الأبلغ عن استعادة الإحساس بالمطلق، والانفصال عن العرضي، المتمثل في العمائر والمدن والرطانات والأهواء المحلية. ولربما ذاك ما منح مدن الإسكندرية ومارسيليا وطنجة وبيروت وغيرها تماثلات شتى، هي المسكونة بخليط غير صاف، والمدينة للبحر وحده بقدرتها على العيش ومنح شهوة السفر.


مقالات ذات صلة

الروائي الكويتي هيثم بودي: «الملاحم» الخليجية كنز لم يكتشف بعد

ثقافة وفنون هيثم بودي

الروائي الكويتي هيثم بودي: «الملاحم» الخليجية كنز لم يكتشف بعد

تختزن في ذاكرتنا بالخليج العديد من السنوات الصعبة، التي لم تجد تصويراً مناسباً لها في الأعمال الأدبية، سنوات عرفت باسم المرض؛ كسنوات الجدري والطاعون والكوليرا،…

ميرزا الخويلدي (الكويت)
ثقافة وفنون الفن روح لا تموت

الفن روح لا تموت

كتب ليوناردو دافنشي عبقري الفنون الكلاسيكية ذات مرة: «الجسد الجميل يفنى، لكن العمل الفني الجميل لا يموت».

خالد الغنامي
ثقافة وفنون أر.إس . توماس

وصايا الشعراء... خرائط لمجاهيل القصيدة

نصائح الأدباء الذين أمضوا زمناً طويلاً في ممارسة الكتابة الإبداعية إلى الأجيال الشابة السالكة دروبَ الأدب حديثاً، في مؤداها، حديث الذات المرتد إلى تجربة...

كاظم الخليفة
ثقافة وفنون «سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

في روايته الأحدث «سيرة الفيض العبثية»، الصادرة عن دار «الفرجاني» في القاهرة، يسعى الروائي الليبي صالح السنوسي لتأريخ مرحلة تاريخية ممتدة في سيرة منطقة «الفيض»

عمر شهريار
ثقافة وفنون رواية عن الزنازين السورية

رواية عن الزنازين السورية

في عمله الروائي الجديد «جدران تنزف ضوءاً»، ينقل الكاتب السوري الكردي ماهر حسن القارئ إلى قلب الزنازين السورية، حيث يتحول المكان الضيق إلى عالم متكامل

«الشرق الأوسط» (برلين)

الروائي الكويتي هيثم بودي: «الملاحم» الخليجية كنز لم يكتشف بعد

هيثم بودي
هيثم بودي
TT
20

الروائي الكويتي هيثم بودي: «الملاحم» الخليجية كنز لم يكتشف بعد

هيثم بودي
هيثم بودي

تختزن في ذاكرتنا بالخليج العديد من السنوات الصعبة، التي لم تجد تصويراً مناسباً لها في الأعمال الأدبية، سنوات عرفت باسم المرض؛ كسنوات الجدري والطاعون والكوليرا، وسنوات باسم الجوع، كسنة المجاعة والبطاقة وغيرها... وسنة الكارثة الرهيبة التي عرفت بسنة «الطبعة»، وغيرها من السنوات التي ما زالت تحفر في الذاكرة ندوباً من المعاناة. ومع شحة الأعمال الأدبية والفنية التي تناولت هذه الأحداث، برز الأديب والروائي الكويتي هيثم بودي، الذي قدّم مجموعة من الروايات تناولت سنوات المحنة في منطقة الخليج، وتحوّل بعض هذه الأعمال الروائية إلى مسلسلات تلفزيونية بينها رواية «الدروازة»، التي تتناول وباء «الطاعون» الذي اجتاح الكويت عام 1831. وغيرها من الروايات.

يعمل هيثم بودي مذيعاً تلفزيونياً، ويقدّم برامج باللغة الإنجليزية، وهو كذلك رسام ومصور وعمل فترة في مجال السينما وكتابة السيناريو، ولديه أكثر من 12 رواية ترجم بعضها إلى اللغة الإنجليزية. «الشرق الأوسط» التقت به في الكويت، وأجرت معه الحوار التالي:

> لديك تجربة روائية تمتد عبر أكثر من 12 رواية و3 مجموعات قصصية ومسلسلين تلفزيونين، لماذا أنتَ بعيد عن المشهد الثقافي في الكويت؟

- منذ حازت روايتي «الطريق إلى كراتشي» على تنويه جائزة الإبداع العربي 2005، وقبلها بفترة يسيرة تحول بعض أعمالي الأدبية إلى أعمال درامية، شعرتُ بثقل «هذا النجاح المفاجئ»، وهو ثقلٌ نفسي لم أكن أعرفه من قبل، أحسست بالاغتراب عن نفس لا أعرفها، كما أحسست أن موهبتي الكتابية أقوى بكثير من شخصيتي الاجتماعية التي لم تتحمل كل هذا النجاح المفاجئ... فكان الابتعاد عن المشهد الثقافي في الكويت ضرورة نفسية أكثر من أي شيء: يجب أن أنجو بنفسي.

> لكنك بعدها، غادرت إلى بلد آخر ولعالم مختلف بعيد عن الكتابة

- صحيح، أحسست برغبة قوية لاكتشاف الذات فوجدتها فرصة سانحة إلى الهجرة إلى أرض جديدة أتعلم منها... فارتحلت لسبع سنوات إلى دبي وتعلمت الإخراج السينمائي والتمثيل في نيويورك (فيلم أكاديمي) وصقلتُ شخصيتي الاجتماعية والفنية والإبداعية بالتطبيقات العملية، ودرست «الغرافيك ديزاين»، واحتككت بعالم من الجنسيات المختلفة والأدباء والروائيين والممثلين وشركات الإنتاج ودور نشر عالمية، وأحسست أن العالم أكبر ومتنوع بالمواضيع والمعرفة... واقتحمت الإخراج السينمائي وحاز فيلمي «المعلم الأميركي» على جائزة أفضل مخرج واعد في مهرجان فويا السينمائي في هوليوود 2014.

فن «النوفيلا»

> أغلب رواياتك من نوع الرواية القصيرة أو «النوفيلا» يقوم بعضها على بطل محوري واحد، هل هذا يدلّ على نَفَسْ قصير في السرد أم لديك رؤية فنية؟

- تتنوع رواياتي بين الطويلة كـ«الهدامة» و«الدروازة» إلى الروايات القصيرة والتي تعتبر الأغلب بالفعل... اخترتُ «النوفيلا» لأني أرغب في الكتابة للإنسان العادي الذي لا يقرأ، ولم يرُق لي أن أكتب للنخب المثقفة على اعتبار أنها متخمة بالمعرفة، وأن الحاجة الحقيقية للأدب والشعر هي للإنسان العادي الذي هو أحوج ما يكون إلى الثقافة والفن الذي يرتقي بوعيه ويذكره بإنسانيته المفقودة في عالم المادة. وهذا الذي جعلني أراهن على الروايات القصيرة التي حققت لي انتشاراً أكثر.

> هل ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في اختيارك لشكل الرواية... ما دمنا نتحدث عن الانتشار؟

- الرواية القصيرة رواية الجماهير والطلبة وللذين يقرأون لأول مرة، باستطاعة القارئ البسيط أن ينهيها في جلسة واحدة... على عكس الروايات الطويلة التي تقرأ في أسبوعين أو شهر فهي تحتاج لقارئ خاص مثقف نخبوي ممتلئ بالمعرفة يقرأ من أجل المتعة... نعم وسائل التواصل الاجتماعي وضعتنا تحت التحدي، فهي سحبت البساط من المثقفين النخبويين، لذا أعتقد أن الرواية القصيرة وتسويقها عبر وسائل التواصل الاجتماعي هي الطريقة الأسهل لإيصال قصصنا الخليجية والعربية للأجيال في مختلف البلدان... وقريباً سأقدم مشروعي الجديد وهو الروايات المصورة والتي استفدت كثيراً من دراستي لتصميم الغرافيك وسأنقل قصصي ورواياتي إلى هذا البحر الشاسع الجديد وأن نحكي قصصنا للأجيال وللعالم أيضاً بسبب ثورة الذكاء الاصطناعي الذي أخذ يقدم لنا الصورة المتخيلة بسهولة ويسر.

أغلفة بعض أعماله
أغلفة بعض أعماله

الرواية والتاريخ

> رواياتك أيضاً تروي أحداثاً تاريخية مرّت بها منطقة الخليج... وخاصة سنوات المعاناة... من أين تستسقي مصادرك في كتابة هذه الأعمال؟

- في بدايات كتاباتي الروائية استقيت الحكايات من الأب والأم، فلأول مرة أسمع عن وباء «الطاعون»، الذي اجتاح الكويت عام 1831 من والدي وهو يتحدث عن نجاة والد جده حين كان طفلاً عمره عشر سنوات، بعد أن أخذ أخته ذات السبع سنوات وتسلقا سلماً في فناء البيت بعد موت أهلهما جميعاً وعبرا الحوائط بين البيوت ليلاً حتى هبطا في «سكة» وانطلقا إلى منطقة «الشويخ»، حيث يتجمع الناجون من الطاعون. فكتبت رواية «الدروازة» عن زمن الطاعون والتي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني.

كذلك، كان جدي لأمي «نوخذة - قبطان» سفينة يتاجر مع مواني الهند قديماً ومواني أفريقيا ومواني الخليج ويعود محملاً بالهدايا والقصص والمغامرات التي كتبتها نقلاً عن والدتي في رواية «الطريق إلى كراتشي» عن بحارة كويتيون فقدوا في الهند الغربية قبيل الحرب العالمية الثانية. وكتبت أيضاً 6 روايات قصيرة عن قصص النواخذة. وبعد ذلك اتسعت قراءاتي التاريخية في تاريخ الكويت والخليج وبدأت أقرأ في المصادر التاريخية والمراجع وأستقي منها الكثير من القصص والروايات.

> كيف ينفعل الراوي بأحداث لم يشهدها... ولم يعاصر أبطالها... مثل سنة «المجاعة» وسنة «الطبعة»؟

- أعتقد أن مخيّلة الروائي أو القاص لها الدور الأكبر في نقله والسفر به عبر الأزمنة واختراق الحجب والاستماع إلى الشخصيات والإحساس بمشاعرهم وأفكارهم وتوقع ردود أفعالهم، وللبحث التاريخي واتباع المنهج التاريخي في البحث عن المعلومات أهمية بالغة، فالقصة المسموعة تحتاج الكثير من التدعيم بالبحث المعلوماتي التاريخي، وأيضاً تدريب الراوي لموهبته عبر الكتابة وإعادة الكتابة والتأمل والإحساس بالجماليات الأخرى للتجربة الإنسانية، والتعرف على الجمال الكوني الذي يحيط به؛ كالفنون والموسيقى وقراءة الأدب العربي والعالمي... وهي كلها يمكنها أن تنسج للكاتب بساطاً سحرياً خاصاً ينقله عبر الزمن، يخترق عبره البيئات ويطير في فضاء فسيح لعوالم لم يطأها من قبل.

> ما أكثر الفترات أو الأحداث الخليجية التي تجدها ملهمة للكتابة عنها؟ ولماذا؟

- باعتقادي أن الفترات الملحمية هي الأهم والأكثر تأثيراً وإثارة، لرغبة القارئ الخليجي في الاستكشاف والتعرف على المفاصل المهمة والتحولات التي أثرت في تكوين شخصية مجتمعه الخليجي العربي القديم وحياة آبائه السابقين... نعلم أن الأحداث في الخليج متشابهة جداً بين المجتمعات الخليجية التي تقاربت نشأتها كإمارات بحرية تطل على الطرق التجارية البحرية وتتصل بالطرق التجارية البرية لوسط الجزيرة العربية، تاريخ متقارب من الملاحم المتشابهة، كالغوص للبحث عن اللؤلؤ، والتجارة الدولية البحرية والبرية، ومجابهة الكوارث الطبيعية، كالمجاعات والسيول الجارفة والأوبئة، وردّ عدوان الأمم الطامعة، أو التعاون الحضاري ثم اكتشاف النفط الذي قاد التحول المشترك للبلدان الخليجية، وأدخلها إلى العالم الحديث.

> لماذا تصدر العديد من رواياتك كإصدارات خاصة من دون دار طباعة... ألا يحرمك ذلك من الانتشار والحضور في المحافل الأدبية ومن المشاركة في المسابقات كذلك؟

- بالفعل أحسست بهذا التقصير وأبحث عن دار عربية أو خليجية تساعد على نشر أعمالي الأدبية لقد أهملت هذا الجانب بالفعل وانغمست في إخراج المنتج الأدبي أو التشكيلي لأنه تحدٍ كبير. وأظن أن هذه المشكلة يعيشها الكثير من المبدعين، وهي إهمال التسويق لقلة خبرتهم وانغماسهم بالعملية الإبداعية... لقد رأيت الكثيرين من الفنانين التشكيليين يرمون لوحاتهم في سراديب بيوتهم غير قادرين على تسويقها بسبب الانغماس في العملية الإبداعية... وكم تمنيت أن تنشأ منصة إلكترونية ثقافية عربية تسوق لأعمالنا سواء الأدبية أو التشكيلية، أو أعمال الخزف أو الحرف المبدعة أو الروايات والكتب... منصة تزيل عن كاهل المبدعين هذا الثقل في قدرتهم الضعيفة وعلاقاتهم الاجتماعية المحدودة في التسويق والانتشار.

> لديك روايات تحولت إلى أعمال تلفزيونية مثل «الإعصار»، التي تحولت لمسلسل باسم «الهدامة»، ومثل «الدروازة» عن سنة الطاعون، كيف تقيم هذه التجربة؟

- تجربة كنت أحلم بها، لا يعلم الكثيرون أنني درست السيناريو السينمائي والتلفزيوني في لندن عام 1996 قبل أن أكون كاتباً روائياً أدبياً، وأخفقت في إقناع شركات الإنتاج الفني حينها لتبني سيناريو فيلم «الطاعون»، فأصبت باليأس وتحولت إلى كاتب روائي وسرعان ما التفتت الصحافة الكويتية وشركات الإنتاج الفني لي كروائي أدبي، لما للرواية الأدبية من هالة أكثر من كاتب السيناريو... فكتبت رواية الهدامة وكتبت السيناريو أيضاً لـ30 حلقة. وحقق المسلسل قبولاً على مستوى الفضائيات الخليجية والعربية.

> حدثني عن رواية «الدمام»، كيف ولدت فكرتها، ما فضاءات هذه الرواية، ولماذا هي تجربة مختلفة في مسيرتك الأدبية؟

- قدمتني رواية «الدمام - ملحمة الحب والنفط والحرب»، ككاتب في الملاحم الخليجية ورواية «الدرة» أيضاً ملحمة خليجية في تاريخ الإمارات... أعتقد أن الملاحم الخليجية كنز لم يكتشف بعد... لقد دعينا كوفد من رابطة الأدباء الكويتية لزيارة الدمام بدعوة من نادي المنطقة الشرقية الأدبي في 2022... وأخذونا في جولة في الدمام ضمن البرنامج... وذهلت لما رأيت مركز الملك عبد العزيز الثقافي «إثراء»، الذي شيد على بئر «الدمام 7»... هذه البئر التي غيرت وجه تاريخ المملكة إلى الأبد... فعرفت أنني أمام ملحمة عظيمة لم يكتب عنها من قبل... فعاد الوفد وبقيت في الدمام في مركز «إثراء» لاثني عشر يوماً أقرأ مذكرات المكتشفين الأوائل للنفط في «أرامكو» والصعوبات التي واجهوها في الصحراء لاكتشاف النفط أيام الحرب العالمية الثانية وهجوم موسوليني السافر على مصفاتي البحرين والدمام... في ملحمة عظيمة سطرها المكتشفون الأوائل مع طلائع السعوديين الأوائل، وتدور أحداث الرواية بين كاليفورنيا ولندن والكويت والدمام والرياض، وهي تسطّر أحداثاً حتى لا ينساها التاريخ... كتبتها بالعربية والإنجليزية.

> لماذا ترجمت رواية «الدمام» للإنجليزية؟

- لدي رغبة قديمة وجامحة في حكاية قصصنا الخليجية للعالم، ولقد عزز هذه الرغبة كوني مقدم برنامج Great Stories على تلفزيون الكويت KTV2 وقدمت رواية الدمام بالإنجليزية لعشرين حلقة ورواية «الدرة» بالإنجليزية ورواية «المباركية» أيضاً حتى يسمع العالم قصصنا الخليجية وننقل مشاركتنا في التجربة الإنسانية العالمية.

> هل تفكر في تجربة أنماط أخرى من الكتابة، أم ستظل وفياً للرواية القصيرة؟- سأظل وفياً للقصة بكل أشكالها وقوالبها التي أتقنها سواء كانت قصة قصيرة أو رواية أدبية أو سيناريو تلفزيوني أو نص مسرحي أو لوحة تشكيلية أو تقديمها كقص حكائي على شاشات التلفزيون... سأظل وفياً للقصة لأنني ولدت قاصاً وهكذا سأبقى.