وصايا الشعراء... خرائط لمجاهيل القصيدة

في يوم الشعر العالمي

أر.إس . توماس
أر.إس . توماس
TT

وصايا الشعراء... خرائط لمجاهيل القصيدة

أر.إس . توماس
أر.إس . توماس

نصائح الأدباء الذين أمضوا زمناً طويلاً في ممارسة الكتابة الإبداعية إلى الأجيال الشابة السالكة دروبَ الأدب حديثاً، في مؤداها، حديث الذات المرتد إلى تجربة خبرها الأديب واستجمع خلاصتها. ليس خطاباً أبوياً، ويرتفع كذلك عن الأسلوب الوعظي بما يتضمنه من إشارات وإيحاءات تجاوز بها الأديب عثرات أو محذورات نتيجة لاندفاعه. منها جزء من وصف تجربته، والأبعد شوطاً، هو ما يأمل فعله لو عاد به الزمن.

قد تأتي هذه التجارب موجهةً بشكل مباشر، كوصايا عبد الحميد الكاتب للكتاب، أو تلك الوصايا المنبثة في «كشاكيل» الأدباء وكتبهم. الشعراء لهم طريقتهم الخاصة التي يعبرون بها عن رؤاهم وفهمهم للشعر. من ذلك تسمع شقشقة اللغة وجدال العقل ورفيف الروح؛ مزيج معبر، وتهويمات شبيهة بأحلام اليقظة؛ ذلك إن كانوا يعبرون شعراً عما تعنيه لهم القصيدة. أما عندما يتوجهون بخطابهم إلى مريديهم من الشعراء الشباب، فيصبح حديثهم مباشراً واضحاً؛ بأسلوب قريب من المدرسي التعليمي، وإن كان لا يخرج عن نطاقه الشعري الإيحائي. فنثراً، على سبيل المثال، كتب الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه أوائل القرن الماضي رسالةً إلى شاعر مبتدئ ينبهه إلى اكتشاف ما في نفسه من كنوز، يقول فيها: «كل ما حولك؛ كل ما تراه في حلمك من صور؛ كل ما في زوايا ذاكرتك هو ملك لعينيك. أما إذا ما بدا لك أن حياتك اليومية فقيرة جدباء فلا تلمها، بل لم نفسك أنك لست الشاعر الذي يستطيع أن يكتشف ما فيها من غنى».

«إلى الشاعر الشاب»

أما النصيحة بالقول الشعري، فتذهب إلى الاختزال والومض بالفكرة المراد إيضاحها مع شيء من المباشرة، كما في نص الشاعر الآيرلندي رونالد ستيوارت توماس «إلى الشاعر الشاب»، التي ينطلق في وصاياه من المرحلة الذهبية للروح في تعبيرها الشاطح، والمتوهج:

«في الأعوام العشرين الأولى

ستكون في طور النمو الجسمي،

بالطبع لم تولد لتكون شاعراً منذ البداية

ولكن في السنوات العشر القادمة

ستحصد من تجربتك المبكرة

وستظهر بابتسامة متكلفة

لتغازل عروس الشعر بوقاحة».

بمحدد العمر، يمضي الشاعر في وصاياه، وكأن هناك تلازماً بين نمو الخبرة الشعرية والتقدم في السن؛ لذا تحظى مرحلة «منتصف العمر» باهتمام الشاعر كونها تستدعي التأني في الاندفاع والمراجعة، مع قليل من التردد. بالإضافة إلى ما تقدمه القصيدة من معالجة عاطفية ووجدانية لمتاعب الروح في تلك المرحلة:

«ومن الأربعين وصاعداً

تتعلم من الحذف والنتوءات في القصائد

التي تكونت بين يديك القاسيتين

كيف تنظم بمهارة

الأجزاء في القصيدة الغنائية

أو السونيتة بشكل اعتباطي

في حين يعزز الزمان حافزاً جديداً

ليخفي جرحك من قصائدك

ومن جسارة الناس

أصحاب الفضول».

لمرحلة الكهولة اعتبارها لدى الشاعر، فنصوصها ستقع دائماً في دائرة رثاء الذات وهجاء الحياة بتخلفها عما وعدت به، كما كانت تلوح به بشائر الصبا من قبل، فأضحت يباباً مكفهرة:

«والآن كبرت

كما يبدو من سنين عمرك

إلا أنك ما زلت في عالم الشعر البطيء

وقد انتقلت إلى الرجولة الحزينة منذ قليل

وأنت تعلم أن الابتسامة على وجه هذا العالم المتكبر

ليست لك».

قصيدة في جناح الفراشة

أما الشاعر السعودي عبد الله السفر، فهو في وصاياه يذهب إلى الجانب التقني الإجرائي لكتابة القصيدة، ويمارس تمارينه على كتابتها ويشرح رؤيته عنها. لا يمنح نصائحه للغير، إنما هو حديث يرتد صداه إلى أناه المبدعة؛ بين تلك الذات الناقدة الفاحصة، وذاته الأخرى الشاعرة التي يستشرف أفقها ويهيئها للانفعال مع قضايا الوجود بقلق الكينونة وأحلام اليقظة؛ حينما:

«الغريب يودع قصيدته في جناح الفراشة،

ويمضي وديعاً ذائباً في زرقة الليل.

القصيدة نائمة في ليل الأصابع

مَجْمَعُ مسوداتٍ وقبضُ ريح

وكانت يده تطيش في الصفحة

وكان قلبه على الحبر

حقل المرارة ناصعٌ، والحبر ماء

اشحذ كلماتك. كل هذا الجمال لن ينتظر».

ما سبق من خطاب كان بمثابة التهيئة لإعلان المنهج وتحديد مستوى الطموح، أما بنود الشاعر الإجرائية لكتابة القصيدة، فَتُكّون بنية النص الشعري المنشود وتقوده من خلال ثلاث خطوات رئيسية يأمل من خلالها عبد الله السفر أن تراعيها القصيدة وتلتزم بها.

الأول، ألا يحصر الشعر جهود الفكر في نقل مظاهر الواقع وترجمتها، بل أيضاً يطلق خياله متحرراً من كل قيود الفكر؛ حيث الأثر الفني يتطلب معرفة عميقة في كيفية تشكل مظاهر الواقع وقيمته، ويتطلب أيضاً معرفة في كيفية إدراك ما ينبغي تأويله، كما يقول ألبير سوور، وهذا ما يتفق الشاعر معه:

«كلماتك اشحذها يا صديقي.

لا تشد النص إلى سرير المألوفية، سوف تزعجه بالكوابيس.

مع كل دورة زمنية، يقص النص ريشهُ ليقوى على الطيران في أفقٍ جديد.

ترفق، ترفق، وأنت تثني غصنَ القصيدة.

لا تتهور، وتزعم أنك قبضت على القصيدة.

ستكون من أولئك العميان الذين ادعوا - واحداً واحداً - امتلاك حقيقة الفيل.

السطح. إنه جلدٌ ميت! من يريده؟.. احفر عميقاً.

يخون الواقع من ينسخه بأمانة».

ليس نقل الواقع كما هو عليه فقط ما يجب أن ينأى عنه كاتب القصيدة الحديثة، بل أيضاً أن تتخفف ذاكرته وتتخلى عن مجمل اطلاعه على الأفكار والمعارف التي تسربت إلى وعيه بفعل القراءة؛ ليبقى أثرها وانطباعها كما وعاه في لحظة الاستقبال:

«ذهب إلى النسيان ما قرأته في الرواية. بقي لي كدرها المشع.

العربة توقفت في منتصف الفكرة. نزلَ اللعابُ متبوعاً بخيط كلامٍ أبيض».

عند هذا الحد من الاستعداد للدخول إلى فسحة القصيدة، يتجرد الشاعر من قبليات معرفته، ومن ذاته الواعية؛ ليلتحم مع النص ويتوحد معه:

«يا مرشدي سأحرق لوح وصاياك، وأدخل، وحدي في متاهة القصيدة.

يبتكر عزلته. يضع في قلبها الدودة ويحلم...».

البند الثاني، هو نتيجة لما سبقه؛ فعند توحده بالنص، تتقلص المساحة الافتراضية بين الوعي واللاوعي، بين الفكر والحلم. حينها يصل المبدع إلى الحالة التي يصورها موتسارت باستغراب: «تتهاجم عليّ الأفكار جماعة وبسهولة زائدة ولا أعلم كيف أتت ومن أين أتت»، والشاعر بتهيئته السابقة وعند قبضه على الومضة التي تمثل جذوة الإبداع، تتعدد خياراته للتعبير عن لحظته:

«من أجل استدامة جمرةِ نصه، لا يذهب إليه من طريق واحدة.

يا ابن الغرابة، في تربة هذا النص يختفي مجهولك. فأوغل بغريزتك وغُص بحدسك».

قد تأتي هذه الوصايا بشكلٍ مباشرٍ مثل وصايا عبد الحميد الكاتب أو منبثة في «كشاكيل» الأدباء وكتبهم

أما البند الثالث لإنتاج القصيدة المثلى في نظر الشاعر عبد الله السفر، فهو بتفعيل القوى الشاعرية المتفردة للمبدع، حيث وحدها من يستطيع إخراج المعنى وصياغته في صورته اللغوية المغايرة للغة التقريرية، بالتالي يكتسب هوية منشئه وبصمته. التوجه إلى نقل الإحساس والشعور وليس الحكاية؛ فتتخلى الألفاظ عن وظيفة نقل المعنى إلى نقل الإحساس المصاحب له مركزاً للتعبير؛ فيرى المتلقي الأحاسيس والمشاعر المنقولة أكثر مما يرى المعاني. وهذا ما عناه الشاعر السفر بـ«الرقيب» أو وعاء الترشيح الذي يقوم بمهمة التجريد:

«الرقيب يضع الكتابة على خازوق نياته، يصفي دمها من لغة الحياة.

الرقيب تنكل به الاستعارة، يفدح به المجاز.

هويةُ المبدع، دائماً، بدون. يشهِرُ لحمه خارج الأسوار ويغني.

يحتشد البحرُ في لحظة إصغاء.

تنبت للنص أجنحةٌ لا حصر لها عندما يتغلغل هواءُ الوجدان عميقاً في جسد الفكرة».

هذا البند الأخير لعبد الله السفر يأتي متوافقاً مع المرتبة الثالثة في مكونات الإبداع الشعري لرؤية الشاعر جون درايدن التي سمَّاها «بإلباس الفكرة» وتزيينها بإطار مناسب ومعقول من الفن القولي، في حين المرتبة الأولى هي «الاختراع» أو إيجاد الفكرة، والثانية «الاستخراج» أو التبديل للفكرة بحيث تتلاءم مع الموضوع.

وهكذا هو البيان الشعري لعبد الله السفر عن عناصر ومراحل تكون القصيدة الحديثة من منظوره، وهو مزيج من رؤية الشاعر وافتراضات الناقد اللذين يجتمعان فيه. فعقل الناقد الذي يعمل من خلال الشعر عادة ما يكون متقدماً على العقل الذي ينتج الشعر، سواء كان الشعر شعر الناقد نفسه أو شعر غيره، كما يقول الشاعر ت. س. إليوت.

ونختم بما ختم به الشاعر عبد الله السفر نصه: «الشعراء يجددون أعمارنا؛ أعمارَ الذين: يعيشون أقل من حياة وأطول من يأس».

* كاتب سعودي

 


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

ثقافة وفنون الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

نقلتْ إلينا «ثقافية الشرق الأوسط» بتاريخ 5 - 4 - 2025 مباراة «ندِّيِّة» بين مساعد الذكاء الاصطناعي والكاتب الفرنسي هيرفي لوتيلي تحت عنوان «روائي فرنسي يواجه روب

جهاد مجيد
ثقافة وفنون قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

يحوّل عاطف عبيد في مجموعته القصصية «راوتر شيخ البلد» فضاء قريته بشوارعها وأزقتها ومفارقات حياتها وبشرها إلى مادة خصبة للحكي، واصطياد القصص والحكايات،

جمال القصاص
ثقافة وفنون «السيدة الكبرى»... سيرة عجيبة لشاعرة أندلسية

«السيدة الكبرى»... سيرة عجيبة لشاعرة أندلسية

يمتزج التاريخ والخيال معاً في رواية «السيدة الكبرى» الصادرة في القاهرة عن دار «الكرمة» للكاتبة شيرين سامي، حيث تدور الأحداث في القرن الخامس الهجري حول قصة عجيبة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون جمعة اللامي

من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟

كان هناك جيلان متزامنان في العراق الحديث، تشكلا بعد عام 1958، الأول سياسي، جاء في سياق بواكير تشكيل الدولة الهجين، أحزاباً وزمراً عسكريةً، وتوّج أخيراً بأعتى دي

محمد خضير سلطان
ثقافة وفنون هيغل

هيغل... ليس فيلسوفاً؟

لم يحيّر عالمَ الفكر أحدٌ مثلما فعل هيغل. ما زلت ترى في أي معرض كتاب في العالم وبكل لغات الدنيا كتباً جديدةً عن هيغل بعد مائتي سنة من موته.

خالد الغنامي

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟
TT

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

نقلتْ إلينا «ثقافية الشرق الأوسط» بتاريخ 5 - 4 - 2025 مباراة «ندِّيِّة» بين مساعد الذكاء الاصطناعي والكاتب الفرنسي هيرفي لوتيلي تحت عنوان «روائي فرنسي يواجه روبوت الذكاء الاصطناعي... والنتيجة مذهلة».

وهيرفي لوتيلي حاز جائزة الكونغور عام 2020 عن روايته «الخلل»، وهو من المشهود لهم بالبراعة والبداعة الأدبية، وكان موضوع التباري بين الطرفين كتابة قصة قصيرة بوليسية. لماذا بوليسية والكاتب لوتيلي الذي حاز «الكونغور» ليس كاتباً بوليسياً؟ فروايته التي أحرز بها «الكونغور» سوريالية فيما وُصفت روايته البوليسية «وصية حجر الذئب» بالتقليدية؟ وإذا كان قد أثبت براعته في الرواية، فلماذا لا يكون التباري في الرواية؟ أرغبةٌ في الحصول على النتيجة في وقت أسرع، فلن يكون معقولاً ولا ممكناً أن نطلب من روائي أن ينجز رواية في أسبوع؟ وهذا مؤشر قوي على عدم انطلاق المباراة على أُسس عادلة، وكذلك على تصميم سابق للحصول على النتيجة وإعلانها «إعلامياً»، وهي فوز مساعد الذكاء الاصطناعي «كلاود Claude» على «الروائي» هيرفي لوتيلي في كتابة «قصة قصيرة» بوليسية! وروايته الكونغورية موصوفة بالسريالية! فمن الثابت نقدياً في عالم السرد أنه ليس شرطاً أنَّ مَن يبرع في كتابة الرواية يبرع في كتابة القصة القصيرة، وكذلك لا يحصل العكس. وثابت أيضاً أن ماركيز لم يبرع في كتابة القصة القصيرة كبورخس، ولا الثاني برع في كتابة الرواية كالأول. ومحمد خضير لم يبرع في كتابة الرواية كألبير كامو، ولا الأخير برع في كتابة القصة القصيرة كمحمد خضير. والأمر لا يختلف كثيراً عن براعة السياب في منجزه الشعري الكبير، وتواضع ما كتبه من قصص قصيرة، أو تفوُّق منجز حسب الشيخ جعفر الشعري على ما كتبه سردياً ومسرحياً. ولكن ليس في هذا حسب اللاعدالة التي انطلقت بها مباراة لوتيلي وكلاود، فمن اللامنطقي تحديد البداية وتحديد النهاية لطرفي التباري في كتابة عمل أدبي؛ فمن المعروف أن البداية والجملة الأولى تحديداً أصعب ما يواجهه كاتب القصة، وجملة البداية هي البوابة التي تتدفق عبرها الجمل التالية.

القاصُّ يفكر ملياً في جملة البداية، أما ما يليها من جمل فستنساب كأنها مسحوبة بمغناطيس جملة البداية؛ وقد يتوقف القاص كثيراً قبل أن يختار جملة عمله الأولى؛ فهي منطلقه في مشواره لإبداع ذلك العمل، وهي وحدها التي تتفرد بالتسمية من دون كل جمل النص القصصي ما عدا جملة النهاية التي لا تقلُّ معاناة الكاتب في اختيارها عن الجملة الأولى، فهي المرسى الذى يراه مناسباً لرسوِّ سفينته الناقلة حمولة قصته إلى شاطئ متلقيها. ولذا فتحديد جملة النهاية في مباراة هيرفي - كلاود تجسِّد اللاعدالة فيها وبالاً على الكاتب، بينما هي نوال لكلاود؛ فالأخير غُذْيَّ إلكترونياً كي يبني على ما يقدَّم له من معطيات وتحديداً جملة البداية وجملة النهاية الممتلئتين بحمولة قصصية تُفضي الى محتويات المتن.

مُنح كلاود امتيازاً فيما قيِّدت مخيلة هيرفي وأُثِّر سلباً في حرية خياراتها. ثم إن «مُلقِّن» كلاود رافقه طيلة فترة عمله «فوق رأسه» يوجهه نحو ما غُذْيَّ به، نحو مخزوناته التي يجاريها، لكن هل عملُ المخيلة البشرية المبدعة هو مجاراة ما أُبدِعَ سابقاً؟ كيف إذن سنحصل على أعمال أدبية مبتكرة لا مثيل سابقاً لها؟!

إن تاريخ تطور الأدب والفن هو تاريخ ابتكار اللامُبتكَر واجتراح اللامُجترَح «براءة اختراع»، وهذا هو الأساس في وصول الإبداع إلى عوالم جديدة، ومدارس جديدة، وتقنيات جديدة. ما أتى به جويس وفرجينيا وولف ومارسيل بروست لم يكن مماثلاً لسابق؛ لم يكن مثله ما قد سبقه.

إنها طفرة كالطفرات الوراثية البيولوجية، وكذلك الحال لما أبدعه كافكا، وكتَّاب أمريكا اللاتينية بغرائبيتهم، وفرسان حركة الشعر الحر في أدبنا العربي. والأمر ذاته في كل ابتكار للأساليب والتقنيات الفنية التي تبتكرها المخيلة الإبداعية لأول مرة؛ كاللامعقول والشيئية والفانتازية، التي اجترحتها المخيلة لتُغاير ما مضى لا لتجاريه او تجتره كما يحصل في منتجات الذكاء الاصطناعي. إن وقفة نقدية جادة ستوضح لنا أنه سيُخفق إخفاقاً ذريعاً في تحقيق أقل مما طلبناه فيما تقدم. وهذا ما أثبتته الباحثة الجادة الدكتورة نادية هناوي في تجربة اختباراتها للذكاء الاصطناعي وأعلنته في مقالها «فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الخلق الأدبي والفني» المنشور في جريدة «المدى» بتاريخ 30 - 6 - 2024، مُثبتةً فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الأعمال الأدبية المتميزة -على الرغم من أن المطلوب منه ليس مضاهاة ما هو مُنجَز، بل تجاوزه لكي يحل محل مخيلة الإبداع البشري التي من طبيعتها تجاوز نفسها بالابتكار.

وفيما يلي نص ما توصلت إليه د.هناوي: «سألنا الذكاء الاصطناعي أن يكتب دراسة نقدية عن قصة (صحيفة التساؤلات) للقاصِّ المعروف محمد خضير، وأخرى عن رواية (المخطوط القرمزي) للكاتب الإيطالي أنطونيو كالا، وثالثة عن قصيدة مالك بن الريب الشهيرة (ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً)، ورابعة عن قصيدة محمود درويش (خطبة الهندي الأحمر)، فكانت إجابات chatGPT-4o ساذجة وبسيطة وإحالات عبارة عن شروح ومعلومات لا جديد فيها البتّة؛ كونها تقوم على تجميع بيانات متوفرة أصلاً على الشبكة العنكبوتية وتجري محاكاتها بطريقة التنظيم والتخطيط مما لا يقدر الإنسان القيام به، لكن ما يميزه عليها أنه قادر على الإبداع وابتكار ما هو غير مودع داخل تلك الشبكة».

وتأسيساً على ما تقدم يمكننا الاستنتاج أن برمجيات الذكاء الاصطناعي لن تُنتج لنا رواية تغيِّر مسار السرد الروائي كـ«يولسيس»، ولا قصيدة تعمل ما عملته «الأرض اليباب» في الشعر الإنجليزي والعالمي، ولا رواية بالرموز والدلالات الفكرية التي ابتدعها نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا»، لعل تجارب مماثلة لما قامت به د.هناوي تخفف من غلواء المنبهرين والمروجين لفكرة موت الإبداع الأدبي والفني على يد الذكاء الاصطناعي، الذين قد لا يكون باعث بعضهم الانبهار وحده، فربما يخالطه شيء من الحساسية من المبدعين -أدباء وفنانين- وما يحظى به تفردُهم آنياً وتاريخياً.

وقد أعقبت ذلك تقارير علمية من مواقع العمل الميداني في مراكز الذكاء الاصطناعي تثبت بوضوح عجز الذكاء الاصطناعي في ميدان الأدب والفن، منها ما أكده بيل جيتس المؤسس المشارك في شركة «مايكروسوفت» من أن «بعض المهن ستظل بمنأى عن استبدال الآلات بالبشر»، وقال عن الذكاء الاصطناعي تحديداً: «لن يحل محل العقل البشري في المجالات التي تتطلب إبداعاً وذكاءً عاطفياً»، (موقع البيان رضا أبو العينين 30 - 3 - 2025). كما وصف علماء مختصون، مثل إميلي بندر، عمل النماذج اللغوية الكبيرة بأنها ببّغاوات عشوائية.

أما دوكلاس هوفستاتر، عالم الإدراك الأمريكي فيقول إن كل ما تقدمه هذه النماذج «فراغٌ مذهلٌ مخفيٌّ تحت مظهره البرَّاق والسطحي». أما الباحثة مارلين كنعان، أستاذة الفلسفة والحضارات، فتجزم بأن الذكاء الاصطناعي لن يُشكل خطراً على الفنون والآداب. وتخلص الدراسة إلى «أن الإبداع الحقيقي ينبع من الإنسان، وأن هذه النماذج مجرد أدوات يمكن أن تساعدنا في عملنا»، وأيضا يكمن جوهر الإبداع البشري في وجود أفكار ورؤى فريدة يسعى الفرد إلى نقلها والتعبير عنها، (من دراسة بعنوان: لماذا لا يستطيع الذكاء الاصطناعي التفوق على البشر في مجال الكتابة الإبداعية - موقع البوابة التقنية في 7 - 4 - 2025). المسابقة مؤشر على تصميم سابق للحصول على النتيجة وإعلانها «إعلامياً» وهي فوز مساعد الذكاء الاصطناعي