لماذا انتحر إرنست همنغواي؟

لاحقته المخابرات الأميركية في كل مكان حتى في مستشفى الأمراض العقلية

همنغواي في مكتبه
همنغواي في مكتبه
TT

لماذا انتحر إرنست همنغواي؟

همنغواي في مكتبه
همنغواي في مكتبه

كان الكاتب الأميركي إرنست همنغواي قد نشر ثلاث أو أربع روايات متتالية أمّنت له المجد الأدبي من كل أبوابه. وكانت أولاها: «الشمس تشرق أيضاً» (1926). وقد نالت شهرة واسعة وحظيت بأفضل المبيعات. وهي تعدُّ إحدى أعظم روايات اللغة الإنجليزية في القرن العشرين. وفيها يصور لنا الكاتب أجواء باريس بكل دقة في فترة ما بين الحربين العالميتين. إنه يتحدث لنا عن ذلك الجيل الضائع، جيل الاحتراق والعبور، الذي عاش أهوال الحرب العالمية الأولى ولم يستطع نسيانها.

ثم في عام 1929 نشر همنغواي رائعته الثانية «وداعاً أيها السلاح». وقد بيع منها خلال أربعة أشهر فقط ما لا يقل عن ثمانين ألف نسخة. ثم تحولت بسرعة إلى مسرحية تمثيلية، ثم إلى فيلم سينمائي، وانهالت عليه الشهرة العريضة من كل حدب وصوب. وكذلك الأموال والفلوس. وراح يدلي بالمقابلات الصحافية للجرائد الأميركية والعالمية وتحول إلى نجم النجوم. وقد صرح لأحد الصحافيين بأنه كتب الصفحة الأخيرة من روايته 39 مرة. وفي كل مرة كان يشطبها قبل أن تعجبه أخيراً في المرة الأربعين... وهي تشبه السيرة الذاتية. وفيها يتحدث عن الحب والحرب والممرضة الإيطالية التي عالجته وشفته من جرح خطير كان قد أصيب به على الجبهة في نواحي ميلان أثناء الحرب العالمية الأولى. ولكن المشكلة هي أنها جرحته جرحاً خطيراً من نوع آخر: لقد لوعته حباً وغراماً. وهذا الجرح الثاني لا علاج له ولا شفاء منه.

وفي عام 1940 نشر رائعته الكبرى الثالثة «لمن تقرع الأجراس؟»، وهي عن الحرب الأهلية الإسبانية. وقد نالت نجاحاً فورياً مدوياً. وبيعت منها مليون نسخة بعد عام واحد فقط من ظهورها. مليون نسخة! ثم قبض مبلغ مائة وخمسين ألف دولار على تحويلها إلى فيلم سينمائي. وهذا رقم قياسي في ذلك الزمان. ولم يسبق أن ناله أي كاتب آخر أميركي أو غير أميركي. وهو الذي اختار الممثل غاري كوبر والممثلة أنغريد بيرغمان لكي يلعبا دور بطل الرواية وبطلتها.

وفي عام 1952 تصدر رائعته الكبرى الرابعة «الشيخ والبحر». وقد نالت نجاحاً هائلاً وفورياً. وربما كانت هذه آخر ضربة عبقرية وأكبر ضربة حققها همنغواي في ساحة العمل الروائي. وقد توج همنغواي عام 1954 بجائزة «نوبل للآداب». لكنه لم يكلف نفسه عناء السفر إلى استوكهولم لتسلمها. فأرسل لهم كلمة قصيرة جداً قُرئت بالنيابة عنه. وكان مما قاله فيها: «إن حياة الكاتب هي حياة متوحدة أو وحيدة. إنه يشتغل ضمن أجواء مطبقة من الوحدة والعزلة والصمت. وإذا كان كاتباً جيداً بما فيه الكفاية فإن عليه أن يواجه كل يوم مسألة وجود الأبدية أو عدم وجودها. بمعنى آخر فإن سؤال الموت وما بعد الموت، سؤال الخلود أو الفناء الكامل سوف يظل يلاحقه باستمرار».

هكذا نكون قد عدنا إلى مسألة السر الأعظم أو اللغز الأكبر الذي لا يعطي نفسه لمخلوق على وجه الأرض.

سؤال بلا جواب؟

ولكن يبقى السؤال مطروحاً: لماذا ينتحر كاتب حقق كل هذا النجاح الأدبي غير المسبوق؟ لماذا ينتحر بعد أن نال «جائزة نوبل» ووصل إلى قمة الأدب الأميركي والعالمي؟ لماذا ينتحر بعد أن حققت رواياته مبيعات خيالية ودرت عليه الملايين؟ لماذا ينتحر وهو في عز الشباب: ستون سنة! كان يمكن أن يعيش منعماً مرفهاً عشرين سنة أخرى أو حتى خمساً وعشرين. وهي أجمل سنوات العمر، سنوات التقاعد، خصوصاً إذا كنت تمتلك كل هذه الملايين من الدولارات المتراكمة على حسابك البنكي. إنه تقاعد من ذهب...

ولكن إذا عرف السبب بطل العجب.

في عام 2011 وفي يوم 2 يوليو (تموز)، أي بعد خمسين سنة بالضبط من انتحاره نشرت جريدة «النيويورك تايمز» خبراً مثيراً سرعان ما انفجر كالقنبلة الموقوتة. مفاده أن الرجل لم ينتحر اختياراً وإنما اضطراراً. فقد كان ملاحقاً من قبل عملاء المخابرات الأميركية (إف بي آي)، وذلك بتهمة التعامل مع النظام الكوبي. وللتدليل على هذا نشرت الجريدة الأميركية الشهيرة رسالة لصديقه هارون إدوارد هوتشنير. وهي رسالة ألقت أضواء جديدة على المراحل الأخيرة من حياة إرنست همنغواي. ماذا يقول صديقه الشخصي في هذه الرسالة التي قلبت الأمور رأساً على عقب. إنه يقول ما معناه: في أحد الأيام اتصل بي همنغواي وهو في حالة من الاضطراب لا تُوصف. وقال لي بأنه متعب جداً من الناحية النفسية والجسدية. وفهمت منه أنه يعيش حالة هلع وأنه بحاجة لأن يراني. فذهبت فوراً للقياه وعندئذ كشف لي السر الخطير الذي يؤرقه ويقض مضجعه. قال لي: أنتم لا تعرفون ماذا يحصل لي؟ أنا في خطر يا جماعة. أنا ملاحق من قبل المخابرات ليلاً نهاراً فقط. تليفوني مراقب وبريدي مراقب وحياتي كلها تحت الرقابة. أكاد أجن!

ثم يضيف صديقه في الرسالة قائلاً:

ولكن المقربين منه لم يلحظوا وجود أي برهان عملي على ذلك. ولذلك اعتقدوا أنه أصيب بمرض البارونايا: أي الذُهان الهذياني أو الهلوسات الجنونية. لقد غرق الكاتب الشهير في هوس الإحساس الوهمي بأنه ملاحق من قبل أجهزة المخابرات. فأين هي الحقيقة إذن؟ هل كان ملاحقاً فعلاً أم أنه كان موسوساً عقلياً ومتوهماً بأنه ملاحق؟ ومعلوم أن أحد النقاد كان قد اتهمه سابقاً بعد أن تعرف عليه بأنه مصاب بمرض العُصاب الجنوني والهستيريا الشخصية. وإلا من أين جاءت كل هذا الإبداعات العبقرية؟

فيما بعد كشفت الأرشيفات أن رئيس المخابرات إدغار هوفر الذي كان يرعب حتى رؤساء أميركا كان قد وضع بالفعل همنغواي تحت المراقبة والتنصت بتهمة التعامل مع جهة أجنبية معادية. ولذلك لاحقته المخابرات في كل مكان حتى في مستشفى الأمراض العقلية، بل وحتى على شواطئ البحار حيث كان يعشق التنزه. لقد أرهقوه فعلاً بالملاحقات حتى جننوه ودفعوه دفعاً إلى الانتحار. والأنكى من ذلك أنهم اتهموه بأشياء لا علاقة له بها. ماذا تستطيع أن تفعل إذا غلطت بك إحدى الجهات ولعنت أسلافك وأنت بريء كلياً مما يظنون أو يتوهمون؟ هذا ما حصل لإرنست همنغواي على ما يبدو. وبالتالي فقد ذهب ضحية عبث الأقدار الاعتباطية أو غلطات الوجود. لقد غلطوا به مكان شخص آخر. المجرم الحقيقي نجا بجلده والبريء دفع الثمن!

ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها

ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج ما يلي: أن تكون عبقرياً مشهوراً فهذا يعني أنك قد دخلت فوراً في الدائرة الحمراء للخطر. سوف تنزل على رأسك النوازل غصباً عن أبيك. يقول الفيلسوف الفرنسي المعروف ميشيل سير: لقد درست سيرة حياة مشاهير علماء فرنسا وفلاسفتها على مدار 400 سنة متواصلة ولم أجد واحداً منهم عاش مرتاح البال. كلهم كانوا معرضين للخطر بشكل أو بآخر وأحياناً لخطر الاغتيال. نستنتج أيضاً أن ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها. لقد احترقوا لكي يضيئوا لنا الطريق. وبالتالي فإذا كنا نريد أن نعيش مرتاحي البال فمن الأفضل أن نكون أشخاصاً عاديين كبقية البشر لا أكثر ولا أقل. كنا نعتقد أن العبقرية أو الشهرة نعمة فإذا بها نقمة حقيقية. تقريباً لا يوجد عبقري واحد إلا ودفع ثمن شهرته عداً ونقداً بشكل أو بآخر: المتنبي قُتل في الخمسين، ابن سينا مات على الأرجح مسموماً في السابعة والخمسين، جمال الدين الأفغاني مات مسموماً في الآستانة عند الباب العالي وهو لما يبلغ الستين، عبد الرحمن الكواكبي قتله الباب العالي أيضاً في القاهرة عن طريق فنجان قهوة صغير وهو في السابعة والأربعين. ديكارت مات مسموماً في السويد وهو في الرابعة والخمسين، وذلك على يد كاهن أصولي كاثوليكي دس له السم في القربان المقدس! الدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق وأحد أساطين القانون السوري والعالمي سقط مضرجاً بدمائه تحت وابل من رصاص الطليعة المقاتلة لـ«الإخوان المسلمين» وهو في الثامنة والخمسين. والقائمة طويلة... عندما نكتشف كل ذلك نتنفس الصعداء ونحمد الله ألف مرة على أننا لسنا عباقرة!


مقالات ذات صلة

المؤلف الوسيط... من دور النشر إلى أروقة العرض

ثقافة وفنون رشيد الضعيف

المؤلف الوسيط... من دور النشر إلى أروقة العرض

لم تكن وظيفة الوساطة بين الكاتب والناشر تمثل سلطة في عالم صناعة الكتب، سواء كانت ذات طبيعة إبداعية أو معرفية، إلا في حدود منتصف القرن الماضي

شرف الدين ماجدولين
كتب خالد السلطاني

حداثةٌ وما بعد حداثة من بوّابة العمارة

لا يمكنُ للمشتغل في تاريخ الثقافة وفلسفات الحداثة وما بعد الحداثة في عالمنا العربي إلّا أن يدقق كثيراً وطويلاً في الحقيقة التالية....

لطفية الدليمي
يوميات الشرق مشاهدة الأفلام المأخوذة عن روايات ودراستها جزآن أساسيان بالورشة (الشرق الأوسط)

السينما السعودية للاستفادة من الأدب المحلي

بدأ برنامج «صناع الأفلام» التابع لهيئة الأفلام السعودية برئاسة المخرج عبد الله آل عياف، تنفيذ «خطة طموح» للاستفادة من الأدب المحلي عبر ورشة «الاقتباس»

انتصار دردير (القاهرة )
ثقافة وفنون جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)

جمال بيروت الفريد هو مصدر ثرائها وشقائها الأبديين

قليلة هي المدن التي كانت مسرحاً للنزاعات وصراعات القوى المتناحرة، كما هي حال بيروت ذات الجمال الآسر والتاريخ الحافل بالمفارقات.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون تمثالان منمنمان من محفوظات متحف البحرين الوطني

تمثالان نحاسيان من معبد باربار في البحرين

أشهر المجسمات الأثرية التي عُثر عليها في جزيرة البحرين مجسّم نحاسي يمثل رأس ثور ذا قرنين هلاليين ضخمين، ويُعرف بثور باربار، نسبة إلى اسم المعبد الأثري الذي خرج

محمود الزيباوي

100 عام من القصة التشيلية

100 عام من القصة التشيلية
TT

100 عام من القصة التشيلية

100 عام من القصة التشيلية

بصدور أنطولوجيا القصة التشيلية المعاصرة، الموسومة بـ«لو لمست أوتار قلبي» - دار خطوط وظلال، عمّان - 2024، يكون المترجمان المغربيان سعيد بنعبد الواحد وحسن بوتكى قد أضافا إلى المكتبة العربية كتاباً جديراً بالتنويه والاهتمام. وهو يجيء ضمن سلسلة إنجازاتهما ومبادراتهما المتميزة، بشكل فردي أو مشترك، في مجال ترجمة الأدب المكتوب بالإسبانية أو البرتغالية إلى العربية. تكمن أهمية هذه الأنطولوجيا، بالدرجة الأساس من الحاجة إليها، لمجهولية فن القصة التشيلية، للقارئ العربي عموماً، على الرغم من أهمية المنجز القصصي التشيلي وتميزه، حتى بالنسبة إلى واقع القصة في بقية دول أميركا اللاتينية، وكما تؤكد مقدمة الأنطولوجيا، فإن «القليل هم من يعرفون إسهام الأدب التشيلي في تطوير جنس القصة القصيرة في أميركا اللاتينية»، أي ما يعطي لهذا الأدب دور الريادة. من هنا يكتسب عمل مثل هذا أهمية مضاعفة، ففضلاً عن مهمة التعريف بهذا الجانب الحيوي من الأدب التشيلي، وتقديم نماذج قصصية مهمة في ذاتها، فإنها مثّلت في الآن نفسه، فترة زمنية شاسعة زادت على القرن. وإذا ما بدا عدد الكتاب المختارين محدوداً، وهم أحد عشر كاتباً وكاتبة، بواقع قصة لكل كاتب، فإن ذلك لم يحُل دون تمكين القارئ من إطلالة بانورامية على المشهد القصصي التشيلي المترامي زمنياً، حتى مع الإقرار بوجود بعض النقص، مثال ذلك غياب كاتب مهم وأساسي في المشهد الأدبي التشيلي هو الروائي والقاص «مانويل روخاس» الذي تعرّف عليه القارئ العربي من قبل عبر روايته المهمة «ابن لص». لكن تبقى لكل مختارات ظروفها وأسبابها في حضور كاتب وغياب آخر.

استُهلّت الأنطولوجيا بالكاتب «بالدوميرو ليو»، وهو أحد رواد القصة التشيلية، إذ صدر له منذ عام 1904 أربع مجموعات قصصية، وهو يُحسب، نقدياً، على المذهب الطبيعي، واهتمّ في نصوصه بـ«مواضيع اجتماعية، مثل الظلم، واستغلال العمال في المناجم، والحياة القروية القاسية»، وسوى ذلك، كما جاء في الصفحة التعريفية الموجزة بالكاتب التي سبقت قصته، والتي ذكرت أيضاً، بأنه يصف الواقع بدقة بُغية فضحه. وهو ما كان في قصته المختارة هنا من مجموعته الأولى «تحت الأرض»، والمعنونة بـ«البوابة رقم 12»؛ إذ تتعرّض القصة إلى عالم عمال المناجم القاتم، بالمعنى الحرفي، فالظلام العميق أبعد من أن يُبدّد بمصابيح هي على وشك الانطفاء، بتعبير القصة، والسخام الذي يحيط بالعمال هو من صلب الأجواء الخانقة التي نجح الكاتب في تصويرها بحرفية وعمق كبيرين، وهو يعالج موضوعاته الرئيسية والمتعلقة بعمل الأطفال في المناجم، من خلال شخصية الطفل «بابلو» ذي الثماني سنوات، وما يعنيه ذلك. وينجح الكاتب، فضلاً عن وصف المكان وأجوائه، في وصف المشاعر الإنسانية المتضاربة لكل من «باولو»، وما ينتابه من خوف وأفكار حيال المكان، وما يبعثه فيه من رهبة، ومن ثمّ الأب ومسؤول العمل، وترددهما في تشغيل الطفل من عدمه، كاشفاً عن مقدرة عالية في سبر نفوس أبطاله، وما يعتمل فيها من هواجس والتعبير عن كل ذلك ببراعة.

رهافة وحرفية

امتازت القصص الإحدى عشرة التي شكّلت مادة الكتاب، برهافة الصنعة القصصية وحرفية كتابها العالية، وهو الانطباع الأهم الذي يراود القارئ ما إن يفرغ من قراءة كل قصة من القصص. وإذا كان هناك من تفاوت في الموضوعات، بطبيعة الحال، فلم يكن من تفاوت على صعيد التقنية القصصية المُحكمَة. حتى في حال عدم الاتفاق مع الثيمة الأساس لقصة ما أو الشعور ببطء السرد فيها، كما في قصة الكاتب «خورخي إدواردز»، المعنوَنة «النظام العائلي»، وهي أطول قصة في الكتاب، فقد احتلّت 30 صفحة منه، لكن لم تكن لتخرج، بدورها، عن دائرة الإبداع والإحكام التقني، والضرورة أيضاً تقتضي هنا الإشارة إلى أن هذه هي القصة الوحيدة التي يمكن تسجيل الملاحظة الآنفة عليها. عدا عن ذلك لا يمكن إلا وصف بقية القصص بالتفوّق وبقوة تأثير الموضوعات المتناولة فيها، التي لا يمكن لقارئها نسيانها لما حملته من شحنات إنسانية ولما اتشحت به من إهاب جمالي. وكما تشير المقدمة بما معناه، أن الكتّاب المختارين هنا لم يُولوا اللعب السردي المجاني اهتمامهم، قدر اهتمامهم بما هو إنساني، وكأنهم بذلك «أكثر جدية وأكثر انشغالاً بهموم الإنسان»، من بقية كتاب القصة في مختلف أنحاء القارة اللاتينية.

في هذا الشأن يمكن استحضار عنوان أكثر من قصة، وقد تكون في مقدمة ذلك قصة إيزابيل الليندي، التي منحت عنوانها الشاعري للأنطولوجيا «لو لمست أوتار قلبي»، التي يمكن أن تكون شاهداً متقدماً على شعرية القص، من الناحية الفنية، ومثالاً على توحّد الكاتبة هنا، أو الكاتب عموماً، مع قضايا المجتمع، لناحية المحتوى. لقد قدمت الليندي من خلال نموذج «أورتينسيا» صورة مروّعة لما يمكن أن يؤدي إليه الاستبداد والفساد من مظالم، و«أورتينسيا» هذه يمكن أن تصلح رمزاً لواقع أميركا اللاتينية، عموماً، حيث تُختطف وهي في سن الخامسة عشرة، وتُحتجز لما يقارب نصف قرن في قبو من قبل «أماديو بيرالتا»، الذي يمثّل صورة عن الانحلال الأخلاقي بوصفه فرداً ومثالاً للسلطة المتعسفة، لاحقاً. إذ لفتت انتباهه للمرة الأولى من خلال عزفها، وهو ما قلب حياتها رأساً على عقب. إن السنوات المديدة التي عاشتها «أورتينسيا» في قبو محرومة من ضوء الشمس ومن الهواء النظيف، بل بالأحرى من كل مستلزمات الحياة، حوّلتها إلى نوع من مسخ كما برعت الكاتبة في تصويرها، فقد تحطّم جسدها بالكامل سوى يديها اللتين سلِمتا بسبب مواصلتهما العزف، وما في ذلك من رمزية، وهو شبيه بالإشارة البليغة للكاتبة، لحظة العثور على «أورتينسيا» وتحريرها بأنّ ما كان يؤكد أصلها الآدمي فقط هو آلة القانون التي تحضنها.

تكمن أهمية الأنطولوجيا بالدرجة الأساس من الحاجة إليها لمجهولية فن القصة التشيلية للقارئ العربي عموماً

أجيال متعددة

لقد سبقت الإشارة بأنه لا يمكن لقارئ هذه القصص نسيانها، لطبيعة موضوعاتها أولاً، وللإطار الفني الاحترافي الذي وضعها فيه كتابها وكاتباتها. من بين هذه القصص قصة «سيدة» للكاتب خوسي دونوسو، الذي يتم التعريف به بصفته «أكبر روائي تشيلي في القرن العشرين». بدءاً يمكن القول عن القصة إنها مشوّقة، ذات طابع شعري، وليس المعني بذلك اللغة، فمسألة اللغة قابلة للجدل، لكن المقصود هنا بالشعري هو بنية القصة ذاتها، والروح المبثوثة في القص والتفاصيل الحية التي جعلت حتى من هواجس البطل الداخلية وأحلامه شيئاً مجسداً، مرئياً. تتحدث القصة ذات البعد الفلسفي عن شعور البطل الذي هو الراوي نفسه، بأن المشهد الماثل الذي يعيشه ويصفه للقارئ قد عاشه من قبل أو حلم به. هذه الفكرة الرئيسية التي قامت عليها القصة أو انطلقت منها هي فكرة فلسفية بالأساس، وقد تعرّض لها سبينوزا من قبل، مسمياً هذا الشعور «ذكرى الحاضر». يستثمر الكاتب طاقة هذا الشعور الخفي لينشئ نصاً من أجمل نصوص السرد القصصي، لا سيما العلاقة الغامضة والحلمية بين البطل والسيدة المجهولة التي يصادفها في عربة «الترام»، رغم أنه ليس من علاقة تنشأ بين الاثنين، ولم يتبادلا حتى مجرد كلمة، لتغدو القصة بكاملها مساحة للتعقب والترقّب من قبل البطل، ويتدفق السرد هادئاً حتى النهاية، نهاية السيدة عندما تخيّلَ البطل موتها حين قرأ في الجريدة نعياً لسيدة تُدعى «إستر أرانثيبيا»، رغم أنه لا فكرة لديه مطلقاً عن اسمها، وهذا أغرب موقف في القصة، لينتهي إلى القول إنه يُخيّل إليه أنه قد عاش حدثاً شبيهاً بهذا من قبل، كأن الكاتب أراد الإشارة إلى دورة الوجود الغامضة الملتبسة وحُلمية ما يحيط بالبشر. ومن القصص التي يجدر التنويه بها قصة الأعمى للكاتب «إرنستو لانخير مورينو»، وهو إضافة إلى كونه قاصاً وروائياً فهو شاعر أيضاً، وله عديد من الدواوين الشعرية. في قصته «الأعمى» التي يفيق بطلها ذات صباح ليجد نفسه وقد استردّ بصره، ليكتشف نفسه ويتعرّف على ملامحه ومن ثم العالم، بخروجه إلى الشارع لأول مرة من دون عصاه؛ ليُصدم بالضجيج ولوحات الإعلانات، في إشارة نقد واستهجان، غير أن ذلك لم يفسد سعادته بولادته من جديد، مبصراً. إن الفكرة في ذاتها تنطوي على طاقة شعرية، تجعل القارئ يتذوّق العالم، من خلال العينين المستردّتين لأعمى سابق! وهو يصف ما يرى بمزيج من الحرمان والشغف. وبعد أن أدّى الكاتب هذه المهمة، أي اكتشاف العالم، بمفارقاته، يعيد بطله كفيفاً من جديد، إذ إنّ واقعة استرداده البصر لم تكن سوى حلم، مع الإيحاء بأنه كان أكثر سلاماً في حالته الأولى!

من القصص المميزة الأُخرى التي تشكّل علامة في الأنطولوجيا قصة الكاتب «أنطونيو سكارميتا» صاحب العديد من الروايات المعروفة، وعلى رأسها روايته الشهيرة «ساعي بريد نيرودا»، بالإضافة إلى روايتي «عرس الشاعر» و«أب سينمائي» وسوى ذلك. في هذه الأنطولوجيا اُختيرت له قصة بعنوان «هاتف نقال»، وهي قصة يمكن القول إنها فريدة في موضوعها أو في الأقل في فكرتها الأساس؛ إذ تنبني القصة وأحداثها الأساس على حيازة البطل هاتف شخصٍ آخر، بعد أن نسيه الأخير في محل عام. وبتلقيه بعد ذلك مكالمة من امرأة على علاقة بصاحب الهاتف الأصلي، فيجيبها كما لو أنه هو المقصود، لتترتب على ذلك سائر المواقف والنهاية الفاجعة في القصة. ويحضر الهاتف أيضاً، الذي سيكون له دوره في قصة الكاتب «روبيرتو بولانيو»، القائمة على «المكالمات الهاتفية»، وهذا هو اسمها. والقصة بمجملها ذات طابع بوليسي، وهي تحمل البصمة الأسلوبية الخاصة بكاتبها، الغني عن التعريف. ثمة أيضاً قصة الأب لـ«أليغاريو لاثو باييثا»، وهي قصة عن جحود الأبناء، وأميَل إلى أن تكون تقليدية المضمون، غير أن معالجتها كانت متقدمة. وهي شبيهة بقصة «السيدة» لـ«فيدريكو غانا» التي تتحدّث عن الوفاء عبر سرد ممتع. وتتناول الكاتبة «بيا باروس» في قصتها «طبيعة الأمور» موضوعاً في منتهى الحساسية على الصعيد الأُسري والاجتماعي، وبشيء من الحس البوليسي، مقدِّمةً قصة، تنم عن خبرة ومراس. وللكاتبة روايتان وسبع مجموعات قصصية.

وإذا ما كانت الأنطولوجيا قد افتتحت بكاتب مجهول لدى القارئ العربي، فإن خاتمتها كانت على العكس من ذلك مع الكاتب «لويس سبولبيدا»، وقصته «مصباح علاء الدين». «سبولبيدا» الذي عرفه القارئ العربي من قبل وأحبّه، عبر أعمال عديدة له، أشهرها «العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية»، و«قصة النورس والقط الذي علّمه الطيران».

وهكذا فإن هذه الأنطولوجيا متعددة الأجيال كانت فرصة لاستعادة أجواء كتّاب عرفهم القارئ من قبل، إلى جانب كتّاب يتعرّف إليهم للمرة الأولى وهم جديرون بالانضمام إلى ذاكرة أدبية لا تؤْثِر إلّا الجديد والمميز وتحتفي به.