المؤلف الوسيط... من دور النشر إلى أروقة العرض

مهنة «المحرر الأدبي» برزت منذ النصف الثاني من القرن الـ19

رشيد الضعيف
رشيد الضعيف
TT

المؤلف الوسيط... من دور النشر إلى أروقة العرض

رشيد الضعيف
رشيد الضعيف

لم تكن وظيفة الوساطة بين الكاتب والناشر تمثل سلطة في عالم صناعة الكتب، سواء كانت ذات طبيعة إبداعية أو معرفية، إلا في حدود منتصف القرن الماضي، رغم بروز مهنة «المحرر الأدبي» منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث خصص فولتير تعريفاً لعمله في «المعجم الموسوعي للقرن التاسع عشر»، بوصفه الساهر على «توظيف معرفته ومهاراته وطاقته الإبداعية في ترجمة أفكار الغير، وإن لم يؤمن بها»، بينما لم يتجاوز عمر القيم الفني ستة عقود في الغرب، وبرز بوصفه صانع صيغة العرض، الذي يختار اللوحات، ويبرز بنهجه التنظيمي محتواها الفني. فالشيء الأكيد أن الروائي أو الفيلسوف أو الناقد أو المؤرخ، أو المسرحي، لا يحتاج إلى دار نشر فقط ليرى عمله النور، مثلما لا يحتاج الفنان إلى مجرد غاليري ليقدم أعماله الفنية للجمهور، ثمة مؤلفان وسيطان في عملية الانتقال من الورشة إلى المنتج المعروض للبيع، «محرر» يراجع مخطوط الكاتب وينقحه ويقترح تعديلات قد تمتد من العنوان إلى المبنى العام مروراً بالفصول والمباحث، والمشاهد والفضاءات والشخصيات، وقيّم معارض (كيراتور) يحول الأعمال المتراكمة، المتقاطعة والمتنائية، إلى متوالية لوحات ومنحوتات وتنصيبات ينتظمها نسق بصري، يضمر رؤية، تغوي جامعي الأعمال الفنية. الوسيطان معاً منتسبان إلى تقاليد مهنية، لها مهاراتها وحدوسها الفارقة، ليس من شأنها الزيادة في المتن، وإنما الإعلاء من الكيف المتقن، كلاهما متصل بالصيغة، التي تلتبس بالجوهر، تلك التي تقتضي صرامة مع الذات، وكلاهما أيضاً وافد من عالم برزخ بين المعرفة الجمالية ومهارات التسويق، الأمر الذي يفترض أن يمتلكا معاً حساسية خاصة تجاه منطق العرض، بما يصون الكاتب والفنان والناشر وصاحب الرواق من أقدار الخيبة والسقوط.

محمد برادة

في مقال لامع للناقد الفرنسي لوران بوديي بعنوان: «الكيراتور: المهنة الجديدة بعالم الفن» تحدث عما أسماه بـ«مفهمة المعارض»، وإكسابها عمقاً فكرياً، في الآن ذاته الذي لم يستبعد هاجس القيمة، في عالم استفحلت فيه الأساليب الاختراقية، أمر له علاقة بالمزاج العام، وبالذوق غير المستقر، الذي يطول المشهد البصري، وبالقدر ذاته السرديات اللفظية، حيث المحرر، بمعنى ما، يعيد تركيب صيغة العرض، بناء على مفاهيم غير مستقرة، وذائقة متحولة.

في هذا السياق تحديداً لا يمكن تمثل القيّم الفني (الكيراتور) الذي يعود عمره الافتراضي إلى أقل من عمر المحرر الأدبي بقرن ونصف من الزمان (على الأقل)، إلا بما هو تنويع على صيغة التحرير المرتبطة بالصحافة، وبأساليب تكييف المعلومات والأخبار، ضمن خط تحريري، ففي النهاية لا يتحقق عمل قيم المعارض من دون تكييف وترتيب وسعي إلى الإقناع، منذ أن ابتدع السويسري هارالد سزيمان صيغة «النيابة عن الفنانين» في تنظيم العروض ومنحها عناوين، وصيغاً ورقية مرافقة، تقول ما يتوق المشاهد لفهمه.

ولعل ما يلفت الانتباه لأول وهلة هو أن التداول المهني للمحرر والكيراتور لم يكن تجاوز معنى المساعدة في التعبير عن رؤى أشخاص قاصرين، في حدود معينة، لقد كان الكيراتور منتدباً قضائياً لمساعدة العاجزين، مثلما أن المحرر لم يكن سوى كاتب عمومي، يصوغ رسائل وشكايات لغير المتعلمين، إنها مهارات تتوخى، في المحصلة، تمثيل من لا قدرة لهم «على الدفاع عن مصالحهم»؛ وكأنما ثمة عماء أصيل في الإبداع، مهما ارتفعت قيمته، يستلزم «هداية»، قد تمتد من خطأ في العبارة الروائية إلى تلف في سند اللوحة.

والحق أنه قد يستطيع روائيون راسخون أن يكتبوا أعمالهم ويراجعوها ويعرضوها على قراء من مقامات شتى، وقد يأخذون برأيهم، أحياناً، وقد يخالفونهم الرأي، أحياناً عديدة، وقد يمضون إلى أقرب ناشر، مقتنع بعدم التدخل في المعروض عليه لنشره، وقد تنجح الرواية، وتحقق الأثر المرغوب، كما قد لا يكون لها أي صدى، شيء شبيه بآلاف المعارض التي هي مجرد محلات لبيع الأعمال الفنية، يرتجلها فنانون برغبة في التخلص من مجهود استمر زمناً طويلاً، تتداخل فيها الأعمال وتبدو متنابذة ودونما حاجة لمجاورة ملفقة، لهذا لا تتطلب نصوصاً هادية. إن علاقة الكاتب والرسام بأعمالهما تنطوي على عواطف وانحيازات وأوهام، تجعل المكتوب والبصري عرضة لأي قدر بعد خروجه، وتطوع كليهما للقيام بدور الوساطة، تجاوز مخل إلى ما لا يفترض أن يقوما به، فهما معاً ليسا متلقيين محايدين، وغالباً ما تكون لديهما حساسية شديدة تجاه الحذف، أو الإضافة.

في روايات عربية عديدة هناك عشرات المشاهد الزائدة وشخصيات لا وظائف لها وآلاف الأخطاء في اللغة والتاريخ والحقائق الجغرافية والإثنية والاجتماعية

في أمثلة عديدة على امتداد مسار الرواية العربية، يمكن أن نقف عند اسم شخصية يتغير في نص، أو حوار خاطئ، أو انقلاب في وقائع لا منطق لها، أو تحول في صيغة السرد من وجهة نظر إلى أخرى لا يتحمله المبنى السردي... يحضرني هنا مثالان شهيران لم يتجاوز فيهما النص عتبة الثلاثمائة صفحة، أولهما في رواية «حيوات متجاورة» لمحمد برادة حين تبدّل اسم شخصية رئيسية في أحد مقاطع الفصل الأخير من «عبد الموجود الوارثي» إلى «عبد الواحد الوارثي»، والثاني في رواية «هرة سيكيردا» لرشيد الضعيف، حيث تحولت شخصية «سوسا»، في إحدى الفقرات العابرة، من خادمة فلبينية إلى خادمة حبشية؛ هذان مثالان لكاتبين متحققين، لم يتدخل فيهما المحرر، ويمكن العثور في نماذج أخرى على عشرات المشاهد الزائدة والشخصيات التي لا وظائف لها. وآلاف الأخطاء المتعلقة باللغة والتاريخ والحقائق الجغرافية والإثنية والاجتماعية. هي تفاصيل قد تتوه في ثنايا المتن الممتد، وأحياناً يلتقطها النقاد، بينما هي من صميم عمل المحرر الذي يقدم الصيغة المشذبة والمراجعة للنشر. للمحرر سلطة على الروائي يستمدها من دار النشر، يمكن أن يقترح عنواناً أدق، ومساحة أجدى وحبكة أكثر تماسكاً، وهو موضع ثقة الروائي والناشر على حد سواء، لأن هدفه هو تحويل العمل التخييلي إلى منتج رابح. لهذا يمكن أن نستعرض عدداً كبيراً من قصص الأخذ والرد بين روائيين ومحررين في قائمة طويلة تشمل نجوماً من فيليب روث إلى لوكليزيو، من توماس مان إلى دوريس ليسينغ.

لكن إذا كان المحرر وسيطاً أساسياً في عالم النشر، فإنه مع ذلك لم يتحول يوماً إلى اسم علم له شهرة وصيت يضاهي اسم الكاتب، بينما تحول القيم الفني، في أروقة الفن عبر العالم إلى سلطة عاتية، تصنع الأسماء وتبرز الأهواء والأساليب، وتقترح على المشهد الفني وعلى أسواق الفن علامات جديدة، دون أن يعني ذلك أنه قد لا يتحول بحكم وظيفته إلى مجرد مساعد للفنان، ففي تصريح لا يخلو من تذمر، أورده الباحث الفرنسي إيمانويل أوكو عن «مهنة الكيراتور الأكثر حداثة في عالم اليوم»، ترى قيّمة المعارض غاييل شاغبو أن : «حوارنا مع الفنان ينتقل غالباً من الجمالي إلى الأسئلة الأكثر جوهرية. لكي تكون قيماً للمعارض، من الأفضل معرفة كيفية الرد على رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالفنان في منتصف الليل ووضع جدول بيانات ممتازاً، بدلاً من التشدق فقط بمعرفتك بتاريخ الفن».


مقالات ذات صلة

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

كتب مايا ويند

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين

ندى حطيط
كتب «الشارقة الثقافية»: أفريقيا في المدونة الشعرية العربية

«الشارقة الثقافية»: أفريقيا في المدونة الشعرية العربية

صدر أخيراً العدد 95، لشهر سبتمبر (أيلول) 2024م، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمن مجموعة من الموضوعات والمقالات والحوارات، في الأدب والفن والفكر والسينما.

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون جورج أورويل

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

بـ10 آلاف جنيه إسترليني يمكن شراء رسالة كتبها بخط اليد، مؤلف رواية «1984» إريك بلير (1903 – 1950)، الشهير بالاسم الأدبي جورج أورويل.

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون «مريم ونيرمين».. الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء

«مريم ونيرمين».. الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت رواية «مريم ونيرمين» للكاتب عمرو العادلي، التي تعزف في قضيتها الكبرى على وتر الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء عبر لغة بسيطة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «توسيع دائرة الشكوكيين» لخالد الغنامي

«توسيع دائرة الشكوكيين» لخالد الغنامي

صدر للباحث خالد الغنامي كتاب جديد بعنوان «توسيع دائرة الشكوكيين»، وحسب المؤلف، فإن الداعي لهذه الدراسة في أول الأمر قبل توسع البحث هو خطأ يتكرر في الدرس الفلسفي

«الشرق الأوسط» (الرياض)

قطر ضيف شرف «معرض الرياض الدولي للكتاب 2024»

يُعدّ معرض الرياض الدولي للكتاب واحداً من أبرز معارض الكتب العربية (واس)
يُعدّ معرض الرياض الدولي للكتاب واحداً من أبرز معارض الكتب العربية (واس)
TT

قطر ضيف شرف «معرض الرياض الدولي للكتاب 2024»

يُعدّ معرض الرياض الدولي للكتاب واحداً من أبرز معارض الكتب العربية (واس)
يُعدّ معرض الرياض الدولي للكتاب واحداً من أبرز معارض الكتب العربية (واس)

تحلُّ دولة قطر ضيف شرفٍ لـ«معرض الرياض الدولي للكتاب 2024»، الذي سيقام خلال الفترة بين 26 سبتمبر (أيلول) الحالي، و5 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، في جامعة الملك سعود.

وذكرت وزارة الثقافة السعودية أن اختيار دولة قطر ضيف شرف معرض الرياض الدولي للكتاب يأتي «في إطار العلاقات الأخوية المتينة التي تربط بين الشعبين الشقيقين»، وهي «مشاركة تعكس الروابط التاريخية التي تجمع البلدين، وتعزّز التبادل والتعاون الثقافي بين المملكة ودولة قطر».

من جانبه، رحب الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي، بمشاركة الدوحة في المعرض، وكتب عبر حسابه على منصة «إكس» للتواصل الاجتماعي: «أهلاً بالشقيقة قطر... ثقافة وشعباً، ضيف شرف معرض الرياض الدولي للكتاب 2024».

وتتضمن مشاركة قطر جناحاً يتضمن إصدارات وزارة الثقافة القطرية، ومجموعة من المخطوطات النادرة، وتفعيلات متنوعة مخصصة للأطفال، ضمن جناح منطقة الطفل بالمعرض، بالإضافة إلى مشاركة الفرقة الشعبية القطرية، وتنظيم ندوات وجلسات حوارية وأمسيات شعرية ضمن البرنامج الثقافي.

ويمثل معرض الرياض الدولي للكتاب نافذة ثقافية تجمع بين صُناع الأدب والنشر والترجمة من مختلف أنحاء العالم، لتبادل المعرفة والثقافة، ودعم صناعة النشر، وتعزيز القراءة في المجتمع، حيث يتيح فرصة تقديم أحدث المؤلفات والإصدارات الأدبية للقراء والمهتمين.

تعكس المشاركة التبادل والتعاون الثقافي بين السعودية وقطر (حساب المعرض على منصة «إكس»)

ويتضمن المعرض برنامجاً ثقافياً يحتوي على مجموعة واسعة من الفعاليات والأنشطة الثقافية المتميزة، مثل المحاضرات، ووِرش العمل، والندوات، التي يشارك فيها نخبة من الخبراء والمثقفين.

ويُعدّ معرض الرياض الدولي للكتاب واحداً من أبرز معارض الكتب العربية، إذ يتميز بعدد الزوار الكبير، وتنوع برنامجه الثقافي. كما يشهد مشاركة واسعة من دُور النشر العربية والإقليمية والدولية، ما يجعله حدثاً ثقافياً بارزاً على المستوى الدولي.