«بيوت من ورق» رواية تستدعي سيرة الشاعرة إميلي ديكنسون

إميلي ديكنسون
إميلي ديكنسون
TT

«بيوت من ورق» رواية تستدعي سيرة الشاعرة إميلي ديكنسون

إميلي ديكنسون
إميلي ديكنسون

عن دار «العربي» بالقاهرة، صدرت رواية «بيوت من ورق» للكاتبة الكندية دومينيك فورتييه، التي تتناول سيرة واحدة من أشهر الشاعرات على المستوى العالمي، وهي الشاعرة الأميركية إميلي ديكنسون «1830– 1886». يغوص العمل الذي ترجمته نهى مصطفى في باطن تلك الشخصية المثيرة للتأمل، ليلمس أشد مشاعرها حميمية وخصوصية، ونعرف لماذا اختارت حياة العزلة والوحدة عن العالم المحيط بها، وكيف ضاق عالمها أكثر، عاماً تلو الآخر، حتى أصبح كالحبل الذي يلتف حول نفسه، حتى يصبح بيتها الحقيقي مع الوقت هو عالمها المصنوع من الورق الذي تركته. هي رواية عن المشاعر الصاخبة التي لا يمكن التعبير عنها إلا بالصمت والشعر.

عاشت إميلي ديكنسون في الحقيقة حياة غريبة مدهشة؛ حيث تركت المدرسة وهي مراهقة، على الرغم من ثراء الأسرة، وقررت أن تعتزل العالم داخل غرفة في منزل العائلة الضخم بولاية ماساتشوستس، وتفرغت لكتابة الشعر والرسائل على نحو سرِّي، دون أن تخبر أحداً، ولم تُنشر أعمالها إلا بعد وفاتها، حين اكتشفتها بالصدفة شقيقتها.

ودومينيك فورتييه كاتبة ومترجمة تعيش بمدينة مونتريال، صدر لها كثير من الأعمال الروائية، مثل: «حول الاستخدام السليم للنجوم»، و«في خطر البحر»، وفازت روايتها «بيوت من ورق» بجائزة «رينودو» الأدبية التي تعد من أهم الجوائز الفرنسية. واختارت المؤلفة أن تصدِّر روايتها بمقولة لإميلي ديكنسون تقول فيها: «يتطلب الأمر زهرة برسيم ونحلة واحدة لتتكون البراري، زهرة برسيم ونحلة وأحلام يقظة، وستكفي أحلام اليقظة وحدها إذا كان النحل قليلاً».

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«في ذلك الوقت، كنا نبحث عن منزل يطل على البحر، وليس بعيداً جداً عن المدينة، ليكون منزلنا الجديد. رفضنا على الفور منطقة (كيب كود) لأنها باهظة الثمن، مزدحمة بالناس، يغزوها السياح في الصيف، ويذهب إليها سكان بوسطن في عطلات نهايات الأسبوع الطويلة. لعدة سنوات كنا نقضي الصيف في منطقة (كيب إليزابيث) بولاية (مين) في منزل على أرض شاسعة، تضم حقولاً وغابات ومقبرتين صغيرتين وبِركة وتلالاً ومباني من القرن التاسع عشر، تحول أغلبها إلى أنقاض وإسطبلات للخيول الأصلية ومهبط للطائرات؛ حيث يوجد عدد من طائرات (سيسناس) الملونة، وبستان، ومزرعة صغيرة؛ حيث تربى أبقار (غالاوي) المخططة، ولا أعرف ماذا أيضاً.

يقع كل هذا على عشرات الكيلومترات المربعة بحجم محمية طبيعية، وهذا بالضبط ما كان عليه الأمر؛ لأننا من نوافذ المنزل الذي استأجرناه كنا نرى دائماً الغزلان وعائلات الديوك الرومية، أو الطيور البرية والأرانب والنسور، وحتى في بعض الأحيان عند منعطف الطريق كنا نرى حيوان النيص، في حجم كلب لابرادور. بالقرب من هذا المنزل يوجد شاطئ مهجور، رماله شديدة البياض وناعمة كالدقيق، وصلنا إليه عبر طريق متعرجة تعبر المستنقعات وغابات الصنوبر والتلال الرملية، مثل ممالك القصص الخيالية الصغيرة.

هذا ما رأيته في ذهني عندما غادرنا هذا الصباح نحو ما يعرف في بوسطن باسم (نورث شور) بعد أن قررنا التوجه شمالاً على طول الساحل، حتى نجد شاطئاً يرحب بنا. كان النهار رمادياً وبارداً بالنسبة لفصل الربيع. ما زالت الأشجار دون أوراق، تقريباً كنا في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني). قدنا سيارتنا لثلاثين دقيقة لمغادرة المدينة عبر الطريق 1؛ حيث يمتد شريط من المتاجر الكبيرة والمطاعم الشهيرة ومحطات الوقود ومواقف السيارات لمسافة كيلومترات. من بعيد، تذكرنا السيارات الواقفة تلمع أسفل الشمس وبدت من بعيد كحشرات.

واصلنا السير شمالاً، في نهاية المطاف ظهر في الطريق بعض المنتجعات السياحية في تتابع لا نهاية له. أستخدم مصطلح (المنتجعات) بدلاً من كلمة المدن؛ لأبدو أنني أستخدم كلمات طنانة أو لإثارة الإعجاب، ولكن ربما لأن المصطلح الذي اخترته يصف أجواء هذه الأماكن المطلة على البحر. على الجانب الآخر من الطريق السريعة كانت المباني السكنية تشبه المكعبات، المنازل تقف جنباً إلى جنب، ربما تم بناؤها في الخمسينات من القرن الماضي، دون أي اعتبار للهندسة المعمارية أو التخطيط العمراني. كان الأمر كما لو أن شخصاً ما قرر أن يبني مدينة دون روح، وبعشوائية بالقرب من الأمواج».



تجليات الحب العذري في حياة الجاهليين وأشعارهم

غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في  العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"
غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"
TT

تجليات الحب العذري في حياة الجاهليين وأشعارهم

غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في  العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"
غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"

إذا كانت ظاهرة الحب العذري في الحقبتين الراشدية والأموية قد أثارت الكثير من اللبس والغبار النقدي في أوساط الباحثين وأهل الاختصاص، فإن هذَين اللبس والغبار قد تضاعف منسوبهما فيما يخص الحقبة الجاهلية، التي بدت أكثر مَدعاةً للبلبلة والإرباك من الحقبة التي تلتها، أما مصدر هذا الإرباك فمُتأتٍّ عن الصورة النمطية التي رسمها المؤرخون على نحوٍ عامّ للعصر الجاهلي، حيث انسحب الجهل بالدين الجديد على كل ما يخص ذلك العصر، فتم استدعاء الطباقات المختلفة لتزيين التعارض المانوي بين الحقبتين، فوُضع الحِلم مقابل الجهل، والروح مقابل الجسد، والحب المتعفِّف مقابل الجموح الشهواني.

ولعل في قصص الحب المؤثرة التي عاشها الشعراء الجاهليون ما يؤكد أن الحب الجسدي لم يكن وحده سيد الساحة آنذاك، بل شهدت تلك المرحلة، إلى جانبه، وجوهاً شتى للتعفُّف والتصعيد العاطفي، والانقطاع لامرأة واحدة، ومن بينها القصة الأكثر شهرةً التي جمعت بين عنترة بن شداد وابنة عمه عبلة.

والواقع أن الفضل في ذيوع تلك القصة يعود إلى شخصية عنترة بالذات، وهو الذي آثر الرد على سَواد لونه وشعوره المُمِضِّ بالدونية على استعلاء بني عبس، عبر «تبييض» صورته في عيون قومه، متخذاً من شجاعته الخارقة ودفاعه المستميت عن حبه لعبلة وسيلته الأنجع لصُنع أسطورته.

ولم تكن شجاعة عنترة هي السبب الوحيد لتحوُّله في الأزمنة اللاحقة إلى رمز قومي، بل قدرته الفائقة على أن يُخرج الفروسية من ساحة المعركة إلى ساحة الحياة نفسها، وأن يوائم بين المفارَقات، فيجمع بين الفحولة الجسدية وشفافية الروح، وبين قوة الشكيمة وعذوبة القلب.

وفي أكثر فصول معلّقته صلة بالملاحم يحوّل عنترة جمال عبلة الطيفي إلى تعويذة رمزية تعصمه من الهلاك، حيث يتداخل لَمعانُ السيوف بلَمعانِ ثغر الحبيبة، ويصبح تتيُّمه بالأخيرة وقوفاً على خط التماسّ الأكثر خطورةً بين الحب والموت.

اللافت في شخصية عنترة أن نزوعه التعفُّفي بدا متأصلاً في تكوينه وطباعه، حيث نقل الأصفهاني عنه رفضه الإذعان لإرادة امرأة أبيه التي تحرَّشت به في صباه، حتى إذا شعرت بالمهانة بعد صَدِّه لها فعلت ما فعلَته زُليخة بيوسف، فاشتكته إلى أبيه، الذي غضب غضباً شديداً وضربه بالسيف، فوقعت عليه امرأة أبيه وكفَّته عنه. كما يبدو عنترة من شعره أنه كان عُذرِيَّ الهوى أبِيَّ النفس كثير الحياء، وهو القائل:

وأغُضُّ طرفِي ما بدَت ليَ جارتي

حتى يُوارِيَ جارتي مأواها

إني امرؤٌ سَمْحُ الخَليقةِ ماجدٌ

لا أُتبعُ النفسَ اللجوجَ هواها

أما عبد الله بن عجلان النهدي فقد كان واحداً من أسياد قومه، ويعيش مع زوجته هند حياةً هانئة استمرت سنوات سبعاً، قبل أن يطلب إليه أبوه أن يطلّقها لأنها لم تنجب له أولاداً، مهدِّداً إياه بالتبرؤ منه إن لم يفعل، وحين رفض عبد الله الاستجابة لطلبه لجأ الأب إلى استخدام الحيلة، فدعا ابنه إلى مجلس للشراب، حتى إذا تعتع ابنَه السُّكْرُ قام بتطليق زوجته، التي انبرى ذَوُوها وقد شعروا بالإهانة إلى تزويجها من أحد رجال بني نُمَير، وعبثاً حاول الأب أن يُقنع ابنه المكلوم بالارتباط بأي فتاة أخرى، حيث راح الأخير يبحث عن ضالّته بين ثنايا القصائد والحسرات، وبينها قوله:

ألا حيِّيا هنداً إذا ما تَصدَّفتْ

وقلبُكَ إن تنأى بها الدارُ مُدْنِفُ

فلا هندَ إلا أن يُذكِّر ما مضى

تَقادُمُ عصرٍ، والتذكُّرُ يشغفُ

ولم أرَ هنداً بعد موقف ساعةٍ

بنُعمانَ في أهل الدّوارتُطوِّفُ

أتت بين أترابٍ تَمايَسْنَ إذ مشَت

دَبِيبَ القَطا أو هنَّ منهنَّ ألطَفُ

وإذ تشاء الصُّدَف أن تنشب بين بني نهد وبني عامر، قبيلتَي عبد الله وهند، معاركُ ونزاعات ضارية كانت نتائجها سجالاً بين الطرفين، عمدت هند، وقد أعدّت قبيلتُها العُدّة لغزو خصومها، وخافت على عبد الله من أن يصيبه مكروه، إلى إرسال مَن يُحذِّر النهديِّين من مباغتة قومها لهم، وهو ما قلَب نتيجة المعركة، وأدى إلى هزيمة بني عامر.

ويُضيف الرواة أن عبد الله، وقد اشتد به السقم، خرج مُغافِلاً أباه في خضم الحرب المشتعلة، وقصد منازل بني نُمَير حيث تقيم هند، حتى إذا التقى الحبيبان وعانق كل منهما صاحبه بالنشيج والأسى، سقطا على وجهَيهما ميتَين.

ولا تخرج قصة حب المرقش الأكبر لابنة عمه أسماء بنت عوف عن السياق الدراماتيكي لقصص الحب العذري في البيئة الجاهلية، فقد طلب عوف، عم الشاعر وأحد الفرسان المُبَرَّزين في بني بكر بن وائل، من ابن أخيه أن يتمرّس في القتال، كشرط أساسي لتزويجه من ابنته، في ظل استشراء حرب البَسوس بين بكر وتغلب، وإذ أذعن الفتى العاشق لرغبة عمه، والتحق بأحد الملوك فمدحه ونال أعطياته، وتدرّب عنده على القتال، نكث عوف بوعده، وزفَّ ابنته إلى أحد أثرياء بني عطيف مقابل مائة من الإبل، وحين عاد المرقش من رحلته عمد والدها إلى تلفيق رواية كاذبة حول موت الفتاة بمرض مفاجئ، ثم دعا ابن أخيه إلى زيارة قبرها المزعوم، بعدما كان قد ذبح كبشاً ودفنه في المكان إياه.

إلا أن المرقش ما لبث أن اكتشف الحيلة التي دبّرها له عمه في غيابه، فظلّ يطارد أسماء، حتى اهتدى في نجران إلى راعٍ للماعز، شاءت الصُّدَف أنه كان يرعى قطيعاً يخص زوج حبيبته، ثم أرسل خاتمه إلى أسماء، فعرفت صاحبه للتوِّ، وألحّت على زوجها أن يذهبا إليه، فأذعن للأمر، وإذ عثرا عليه في أحد الكهوف كان المرض قد أتلف جسمه تماماً، فحملاه إلى منزلهما قبل أن يقضي الحبيبان نحبَهما في وقت لاحق. وقد كتب المرقش في حب أسماء قصائد ومقطوعات كثيرة، بينها قوله:

أَغالِبُكَ القلبُ اللجوجُ صبابةً

وشوقاً إلى أسماءَ، أم أنتَ غالِبُهْ

يَهِيمُ ولا يَعيا بأسماءَ قلبُهُ

كذاك الهوى أمرارُهُ وعواقبُهْ

وأسماءُ هَمُّ النفس إن كنتَ عالماً

وبادِي أحاديث الفؤادِ وغائبُهْ

وإذا كان لنا ما نلاحظه حول القصتين الأخيرتين، فهو أن الحب العذري ليس مطابقاً بالضرورة للحب الأفلاطوني واللاجسدي، بدليل أن كلاً من هند وعبد الله قد تقاسما السرير نفسه لسنوات عدة، قبل أن تقودهما التقاليد والظروف الصعبة إلى الانفصال.

في قصص الحب المؤثرة التي عاشها الشعراء الجاهليون وجوه شتى للتعفُّف والتصعيد العاطفي والانقطاع لامرأة واحدة

كما تؤكد القصة الثانية أن الحب العذري لم ينشأ في صدر الإسلام كما ذهب الكثيرون، وإن كانت تعاليم الإسلام الحاثّة على التعفّف وكبح الشهوات قد ضاعفت من انتشاره، بل هو أحد التجليات السلوكية والاجتماعية والنفسية لعالَم الصحراء المحكوم بالقسوة والعنف والترحّل والعَوَز المادي، وما يستتبعه ذلك من نزوع إلى قهر النفس وتعذيب الذات.

كما أنه ليس أمراً بلا دلالة أن تكون قصة قيس بن ذريح وزوجته لُبنى نسخة مطابقة لقصة ابن عجلان وزوجته هند، سواء من حيث غضب الأب والطلاق بالإكراه، والارتباط الانتقامي برجل آخر، وصولاً إلى النهاية المفجعة للعاشقَين، أو أن تكون قصة عروة بن حزام وحبيبته عفراء في العصر الراشدي مماثِلةً تماماً لقصة المرقش وأسماء، حيث عروة الذي مات أبوه باكراً يتربّى في كَنَف عمه ويعشق ابنته، ويواجه من الصعوبات ما يطابق قصة المرقش المأساوية.

وإذا كان ذلك التماثل يعود من بعض وجوهه إلى تشابه الظروف أو غرابة المصادفات، فإنه يَشِي في الوقت ذاته بتدخل الرواة المتأخرين في «تكييف» الوقائع والأحداث بما يتناسب مع العصر الذي سبق، والذي ظل بالنسبة لهم، وبالرغم من التغييرات الدراماتيكية التي أحدثها الإسلام، النموذجَ التأسيسي للشعرية العربية، ولما يماثلها في الحياة وأنماط السلوك والرؤية للعالم.

عاجل الدفاع التونسية: مسلحون يهاجمون دورية عسكرية قرب الحدود الليبية ومقتل جندي