لبنى وقيس بن ذريح... السرير الزوجي الذي عصفت به رياح الفقدان

علاقتهما الفريدة تؤكد أن الحب العذري ليس «استبعاداً» للجسد ولا رديفاً للعذرية

صورة تخيلية لقصص العذريين
صورة تخيلية لقصص العذريين
TT

لبنى وقيس بن ذريح... السرير الزوجي الذي عصفت به رياح الفقدان

صورة تخيلية لقصص العذريين
صورة تخيلية لقصص العذريين

لم يكن لقصة قيس بن ذريح وحبيبته لبنى بنت الحباب أن تدخل في سياق هذه السلسلة من المقالات المتعلقة بزواج المبدعين، لو لم تتوج علاقة الثنائي العاشق بالزواج، خلافاً لكل العلاقات المماثلة التي لم يظفر خلالها شعراء بني عذرة الآخرون بغير سراب الحبيبة المعشوقة المفضي إلى الجنون والموت. ولعل قصة الشاعر الذي أُلحق اسمه بحبيبته لبنى على غرار أترابه من العذريين، هي إحدى أكثر قصص ذلك الزمن مصداقية، وقدرة على الإقناع. لا أقول ذلك من منطق التشكيك العميق بكل ما نقله إلينا الرواة من قصص الحب المماثلة، أو الدحض الكامل لإحدى أنبل الظواهر الشعرية والإنسانية التي عرفها العرب في تاريخهم، بل لأن وقائع القصة تتغذى من عناصر واقعية قابلة للتصديق، بقدر ما هي قابلة للحدوث، ولو بنسخ مختلفة، في غير زمان ومكان. ولعل هذه العناصر المشار إليها هي التي دفعت الكاتب المصري طه حسين إلى القول في كتابه «حديث الأربعاء» إن قصة حب قيس للبنى هي «قصة جيدة حقاً، ولا ينبغي أن تقرن بهذا السخف الذي تحدث الرواة به عن المجنون، ولا إلى هذا الفتور الذي ذكروا به حب جميل لبثينة». على أن وضع الأمور في نصابها يستوجب العودة إلى ما حفظه تاريخ الأدب من سيرة الحبيبين، اللذين بدا ارتباطهما الزوجي خروجاً عن السياق المألوف للحب العذري، قبل أن تذهب الأمور مرة ثانية إلى مآلها المأساوي.
قد يكون أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني»، هو أحد أكثر مؤرخي الأدب الذين أولوا عناية خاصة بسيرة قيس بن ذريح وتعقب أخباره مع لبنى، وصولاً إلى الاستشهاد بالكثير من نصوصه الشعرية التي تنضح بالحزن الشفاف واللوعة الصادقة. أما الخطوط العامة للقصة فتبدأ مع مرور قيس بإحدى خيام بني كعب بن خزاعة مستسقياً الماء، وقد استبد به العطش. وما إن خرجت إليه لبنى بنت الحباب لتعطيه حاجته، وهي «امرأة مديدة القامة، شهلاء وحلوة المنظر والكلام» حتى وقعت في نفسه ووقع في نفسها في الآن ذاته. وبعد أن دعته إلى الخيمة ليبترد، أقبل أبوها فأكرمه وأطعمه، حتى إذا عاد إلى منزله وأخبر أباه بالأمر، طالباً منه خطبتها له، رفض الوالد الثري ذلك، لأنه كان يخطط لتزويج ابنه الوحيد بإحدى بنات عمه، كي لا تقع ثروته وميراثه في قبضة الغرباء. وإذ يستعين قيس لتحقيق مأربه بالإمام الحسين بن علي، الذي كان أخاً له في الرضاعة، استجاب الحسين لطلبه وزار كلاً من الطرفين المعنيين بالمصاهرة، فاستجابا له دون تردد، بما سمح للعاشقين الفتيين أن يطفئا بالزواج اللوعة التي لم يتمكن من إطفائها أي ثنائي مماثل من بني عذرة. ولكن السعادة التي ظللت الزوجين الوالهين سرعان ما تبددت، مخلية بريقها الآسر للكثير من الكوابيس.
كانت الحمى التي أصيب بها الزوج العاشق في أحد الأيام هي الذريعة الملائمة لمفاتحته من قبل والديه بشأن تطليقه للبنى، التي لم تنجب له طفلاً تؤول إليه ثروة ذريح الطائلة. وحين رفض قيس الانصياع للضغوط أقسم الأب بألا يظلله أي سقف قبل أن يقوم ابنه بتطليق زوجته، ثم راح لأسابيع لاحقة يقضي أيامه تحت الشمس اللاهبة لصحراء الحجاز، حيث يروي أبو الفرج أن قيساً الممزق بين عشقه لامرأته وبين خوفه على أبيه، كان يحرص على الوقوف إلى جانب هذا الأخير ساعات عديدة من النهار لكي يظلله من وهج الشمس، قبل أن يستسلم في لحظة ضعف لاحقة للأمر الواقع، ويقوم بتطليق لبنى. ولم يكد أهل الزوجة المهانة يرحلون بابنتهم بعيداً، حتى كان الزوج المغلوب على أمره ينتبه إلى الكارثة التي ألحقها بنفسه، ثم يشحذ على سكين الندم والحسرة كل ما أوتيه من ملكة النظم الشعري. بعد ذلك يشكو والد لبنى أمره إلى معاوية، وقد شعر بالإهانة والحرج بسبب تشبيب قيس العلني بابنته المطلقة، فطلب الخليفة من والي المدينة مروان بن الحكم إهدار دم الشاعر، كما طلب من والد لبنى أن يبحث عن زوج آخر لابنته، وهو ما حدث بالفعل، حيث تم تزويجها لخالد بن حلزة الغطفاني، وهو ما أفقد قيس توازنه العقلي ودفعه إلى محاولة اللقاء بها دون طائل. لكن الصدفة تفعل فعلها في هذا الصدد، إذ إن قيساً نزل بعد ذلك في المدينة المنورة عارضاً ناقة له للبيع، فاشتراها أحد الأشخاص طالباً إليه أن يوافيه إلى منزله ليدفع له المال. ويصدف أن يكون الشاري هو زوج لبنى بالذات، حتى إذا التقى الحبيبان على غير موعد، أصابهما من الاضطراب والذهول ما جعل الزوج الغافل ينتبه إلى ما يجري، وصولاً إلى الوقوف على الحقيقة الصادمة.
وكما هو الحال في الكثير من قصص العذريين، تتعدد الروايات بعد ذلك. فثمة من قال إن قيس بن ذريح عمد إلى الاستعانة مرة أخرى بالإمام الحسين، الذي أقنع خالد بن حلزة بتطليقها لتعود ثانية إلى الرجل الذي أحبته. وثمة من نفى ذلك جملة وتفصيلاً، ليؤكد أن قيساً ما لبث أن هام، بعد لقائه الأخير بلبنى، على وجهه، ولم يجد له مهنة، وفق أكثر الرواة، سوى البكاء والنشيج والتمرغ ونظم قصائد الندم على ما فات من أيام سعادته الآفلة. حتى إذا قضت لبنى نحبها بفعل مرضٍ أصابها لاحقاً، لم يصمد العاشق الملتاع سوى أيام معدودة، قبل أن يواجه المصير نفسه.
ثمة الكثير بالطبع مما يمكن قوله بشأن هذه القصة المؤثرة التي يجمعها بالشعر العذري إخلاص الشاعر العاشق لامرأة واحدة، ووقف كل ما ينظمه من شعر على ذكرها والتغزل بمحاسنها، والتحسر على ما فات من أيام وصالها الوردية. لكن ارتباط العاشقين بعلاقة زوجية طويلة استمرت وفق بعض الرواة لسنوات عشر، يمنح هذه التجربة طابعها المتفرد، ليس فقط من زاوية دحض الجناس الشائع حول علاقة الحب العذري بالعذرية والتبتل التام، والنأي به بالتالي عن أي شبهة جسدية وشهوانية، بل من الزاوية المتعلقة بقدرة الحب على الصمود في وجه الأعاصير، وعلى البقاء مشتعلاً رغم انتقاله إلى خانة الزواج، وما يرتبه ذلك من حالات الضجر وانتفاء الدهشة وتصادم الأمزجة. إذ لطالما تغذى الحب العذري من سحر المسافة الفاصلة بين الطرفين، التي تتيح لكليهما أن «يخترع «الآخر من عنديات أحلامه وهواماته الشخصية. حتى إذا أخلت هذه المسافة مكانها للحضور المحسوس، فقدت العلاقة الكثير من وهجها وسحرها السابقين. وهو ما يؤكده قول جميل بن معمر عن بثينة:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتُها
ويحيا إذا فارقتُها فيعود
كما أننا لا نستطيع في هذا السياق أن نُغفل الأبعاد الاجتماعية والطبقية والدينية لهذه التراجيديا العاطفية والإنسانية التي دفع الزوجان العاشقان ثمنها الباهظ. فالتفاوت الطبقي الواضح بين عائلتي قيس ولبنى هو الذي وفر لمأساتهما المشتركة عناصر الاكتمال. صحيح أن المقدس الديني، ممثلاً بالإمام الحسين، هو الذي تكفل بردم الهوة الفاصلة بين العائلتين، إلا أن فترة التعايش القلق لم تدم طويلاً قبل أن ينجح أهل قيس في دفعه أخيراً إلى تطليق زوجته، بدعوى عجزها عن إنجاب طفل يحفظ لعائلة الأب ميراثها وثروتها الطائلة. أما الشاعر الذي غلبه الندم فقد راح ينشد بحرقة بالغة:
يقولون لبنى فتنةٌ، كنتَ قبلها
بخيرٍ، فلا تندمْ عليها، وطلّقِ
فطاوعتُ أعدائي وعاصيتُ ناصحي
وأقررتُ عين الشامت المتخلّقِ
وددتُ وبيتِ الله أني عصيتُهم
وحُمّلتُ في رضوانها كل موبقِ
فتنكرُ عيني بعدها كلّ منظرٍ
ويكره سمعي بعدها كلّ منطقِ
واللافت هنا أن المسؤولية عن عدم الإنجاب قد تم تحميلها إلى الزوجة لا الزوج، دون أي يمتلك والدا قيس الثريان أي دليل قاطع على ذلك، وهو ما يعكس القيم الاجتماعية السائدة آنذاك، حيث كان على المرأة بوجه عام أن تدفع الكلفة الباهظة للغلبة الذكورية بمستوياتها المختلفة. ولعل هذا الواقع بالذات هو ما يجعل من الحب العذري، إضافة إلى جمالياته الفنية وعذوبته الآسرة، إعلاءً غير مسبوق لمكانة المرأة المعشوقة، كما لجوهر الأنوثة الكونية، وسط عالم الصحراء المثخن بالعنف و«العطش» الروحي والخوف من المجهول، بما يكسب طلب الماء واستسقاءه من قبل قيس، وتلبية لبنى لذلك الطلب، قيمة رمزية بالغة الأبعاد والدلالات. وإذا كان العطش قد تجدد ثانية يتجدد مع فراق الحبيبين، فلأن الأسطورة لا تقبل لبطلها أن يرتوي، ولأن «العالم العذري هو صحراء من السراب، لا يموت فيها الإنسان إلا من الظمأ»، وفق ما يقوله الطاهر لبيب في كتابه المميز «سوسيولوجيا الغزل العربي».
وللتراب أيضاً رمزيته الخاصة في هذه التراجيديا العاطفية. فإذ ينتبه قيس فجأة إلى غياب لبنى، لا يجد في الشعر وسيلة كافية لاستردادها من عهدة الفقدان، فيتعقب بداية أثر خف بعيرها على الرمل ويشرع بتقبيله، ثم يذهب إلى حيث كان يطيب لها الجلوس فيقبل أثر قدمها هناك، ممرغاً وجهه بالتراب الذي لا تزال ذراته تتضوع بعبق لبنى وحضورها الدافئ، حيث يقول في ذلك:
وما أحببتُ أرضكمُ ولكنْ
أقبّل إثْر مَن وطئ الترابا
لقد لاقيتُ من كلَفي بلبنى
بلاءً ما أُسيغ به الشرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى
عييتُ فما أطيق له جوابا
وإذا كان لهذه الحادثة من دلالة، فهي تدل على الأبعاد السحرية التي تكتسبها الأماكن المُخلاة من سكانها في نفوس البشر، بحيث تبدو وكأنها الامتداد الطبيعي لأجساد من غادروها، ويبدو الاحتفاظ بها نوعاً من التعويض الرمزي عن غياب ساكنيها. ولعل هذه الرمزية بالذات هي التي جعلت من البكاء على الأطلال أحد التقاليد الأكثر رسوخاً في الشعر العربي القديم. لا بل إن فكرة الطلل، بما هي تعبير عن الفقدان، تكاد تكون الفكرة الأكثر جوهرية التي ينهض فوقها مفهوم الأدب والفن.
فبعد مرور قرون عديدة على مأساة قيس ولبنى، يخبرنا الشاعر الأميركي المعاصر آرتشي أمونز بأن المشهد الأقوى الذي حرضه على الكتابة، ليس مشهد أخيه المتوفى زمن الطفولة، بل مشهد الأم التي لم تكد تعثر على آثار قدميه في حديقة المنزل، حتى قررت أن تبني حولها ما يقيها هبوب الريح، كي يظل من الحضور الملموس لابنها الراحل ما يعصمه من الاضمحلال.
على أن المأزق الذي يعيشه قيس بن ذريح، بكل ما يكتنفه من مشاعر الندم وخواء الحياة وانسداد الأفق، لن يجد طريقه إلى الحل النهائي إلا بالموت، حيث سيتكفل هذا الأخير بتلبية نداءات الشاعر الذي كان يهتف من قلب المأساة:
لقد عنّيتني يا حبّ لبنى
فقعْ إما بموتٍ أو حياةِ
فإن الموت أهونُ من حياةٍ
منغّصةٍ، لها طعم الشتاتِ
وقال الناصحون: تخلّ عنها
فقلتُ: نعم، إذا حانت وفاتي



لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي