البحر الطويل يرافق الشعراء العذريين في براري الفقدان

تتبعاته الصوتية أشبه بتواشجات النفس وتموجات المكان الصحراوي

البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي
البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي
TT

البحر الطويل يرافق الشعراء العذريين في براري الفقدان

البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي
البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي

لم تكن البحور المختلفة التي اختار العرب الأقدمون أن ينظموا قصائدهم وفق أنساقها الإيقاعية خاضعة لمنطق الصدفة العارضة، بقدر ما تبدو متصلة بروح المكان الصحراوي من جهة، وبشجى النفس المتقلبة في انفعالاتها توتراً وعصفاً وتشظياً وانبساطاً، من جهة أخرى. ومع أن معظم القبائل العربية كانت تترحل في الصحارى القاحلة بحثاً عن الماء والكلأ، فإنه لأمر لافت أن تُنعت الأنساق الوزنية بالبحور، لا بشيء آخر متصل باليابسة. فقد وجد العرب في المتتاليات الزمنية للإيقاع ما يجافي الصلابة والثبات، ليتماهى مع حركة الأمواج في صعودها وهبوطها الدائمين من جهة، ومع التموج المماثل للكثبان الرملية التي تعيد الرياح نسجها وتشكيلها بشكل دائم، وفق ما يعبر امرؤ القيس من جهة أخرى. ولأن للأمواج هامشاً أوسع للتبدل، وللتعبير عن الوداعة أو الاضطراب، فقد وقع الاختيار على «البحور»، لكي تكون أحوالها المتغايرة معياراً لوتائر الإيقاع وتشكيلاته الصوتية والعصبية. هكذا بدت البحور الشعرية بجوازاتها المختلفة، ترجمة إيقاعية وزمنية لمكابدات الشعراء ومشاعرهم المتباينة، ولضبطهم أثناء الكتابة، متلبسين بحالات الزهو أو الغضب، الانتصار أو الانكسار، وبنشوة الحب أو مرارة الفقدان. ولعلهم لا يجافون الحقيقة بشيء أولئك الذين يتحدثون عن أن الإرهاصات الأولى للقصيدة تحضر على شكل غمغمات إيقاعاتية غامضة، ما تلبث أن تنحو في فترة لاحقة نحو تجسدها اللفظي والأسلوبي. وهو ما يؤكده قول الشاعر الفرنسي بول فاليري بأن «على الصوت أن يكون صدى للمعنى».

حالتا الصعود والهبوط

إذا كانت العلاقة بين الإنسان وبيئته الحاضنة، هي التي تحدد الكثير من سلوكيات البشر وطبائعهم وصولاً إلى تعبيراتهم الإبداعية، فإن الأنساق الإيقاعية للشعر العربي لم تكن منفصلة بأي حال عن طبيعة الحياة العربية الموزعة بين الرحابة والانغلاق، بين الرومانسية المفرطة والقسوة المفرطة، بين الحب والموت. ومن بين البحور الستة عشر للعروض العربي، قد يكون البحر الطويل، القائم على تعاقب تفعيلتي «فعولن» و«مفاعيلن» مرات أربع في البيت الواحد، هو الأكثر تعبيراً عن روح المكان الشاسع، الذي يمتد بلا نهاية في أفقٍ غامض المعالم. وكما أن الصحراء العربية مؤلفة من كثبان رملية مقوسة، تحولها الريح والمطر وعوامل الطبيعة الأخرى إلى متتاليات شبه متناظرة من الصعود والهبوط، فإن تفعيلتي البحر الطويل تحققان الأمر نفسه، حيث يرمز الجزء الأول من «فعولن» إلى حالة الصعود، بينما يرمز الجزء الثاني إلى حالة الهبوط. وكذلك هو الأمر مع «مفاعيلن»، مع تعديل طفيف متعلق بتكرار الجزء الثاني من التفعيلة.
أما الهدف الآخر الذي يصيبه البحر الطويل فهو يتعلق بتناغمه الصوتي والدلالي مع حالة التنقل والترحال في المكان الصحراوي، الذي تمثله حركة الإبل على وجه التحديد. فإذا كان بحر الخبب، بخاصة في صيغتي «فعِلن» و«فعْلن»، متصلاً بإيقاع الخيول خلال سيرها، السريع أو البطيء في المفازات الشاسعة، فإن هذا البحر يبدو متناغماً مع الإيقاع المتفاوت في وتيرته لحركة الإبل المترحلة، حيث يتناغم المقطعان الأولان من «فعولن» و«مفاعيلن» مع حركة قائمتي الجمل المرفوعتين إلى الأعلى، فيما تتناغم المقاطع اللاحقة مع حركة هبوط القائمتين نحو الأرض. وإذا كان التناظر الشكلي واضحاً تماماً بين تحدب المكان الصحراوي وتحدب الإبل، بخاصة ذات السنامين، فإن الإيقاع «المحدودب» للبحر الطويل، يقع على المستوى الرمزي في السياق نفسه، معبراً ليس فقط عن تضاريس المكان وجغرافيته، بل عن السينوغرافيا الموازية لحركة الجسد المندفعة إلى الأمام تارة، وإلى الوراء تارة أخرى.
على أن الدلالة الثالثة لإيقاع هذا البحر، هي تلك المتصلة بخلجات البشر ومكابداتهم الصعبة، وسط قفار شاسعة مأهولة بالخوف والقلق والمجابهة الدائمة مع الآخر الجحيمي. ولعل ما يعطي للبحر الطويل مكانته التفضيلية بين نظرائه، ليس ناجماً عن طوله اللافت الذي يشي به النعت فحسب، بل عن كونه الأقدر على صهر الشحنات الوجدانية والتأملية للشعراء، في بوتقة إيقاعية شديدة المرونة والتنوع والانسياب الصوتي. ففي تفعلتيه المتعاقبتين ما يتسع لانقباض النفس وانفساحها وأنينها، وما يواكب تطلعها المثلوم بالشكوك إلى المستقبل، أو التفاتاتها المتحسرة إلى أطلال الماضي. وهو يتسع للصيغ الكلامية المتبدلة بين الخبر والإنشاء، ولصيحات التعجب والاستفهام عند المنعطفات غير المنتظرة للمصائر، ولصيغ المرارة والتفجع في قصائد الرثاء، كما لصرخات النداء الغامض في براري الفقدان.

إيقاعات مثخنة بالأنين والشجن

ليس من قبيل المصادفات البحتة تبعاً لذلك، أن يعمد امرؤ القيس إلى نظم معلقته المعروفة، التي تشكل أحد النصوص المؤسسة للشعرية العربية، على البحر الطويل بالذات، بل إن اختياره لهذا البحر ناجم عن كونه الأكثر مواءمة لترنحات نفسه المثلومة بسيف الغياب، فضلاً عن أن تفعيلاته هي الأكثر قدرة على احتضان حروف العلة، المرافقة لاعتلال الروح، وعلى حمل الترجيعات المتولدة عن صيغ النداء والشكوى والمناشدات المُرة. وهو ما لا تنحصر تمثلاته الواضحة في مناجاة الشاعر لليله الأبدي المشرع على الأرق والخوف فحسب: «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ\ بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ»، بل في ندائه المماثل للحبيبة المتمنعة حتى تخوم القتل:
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدللِ وإن كنت قد أزمعتِ صَرْمي فأجملي
وإن أكُ قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابكِ تنْسلِ
وما ذرفتْ عيناك إلا لتضربي بسهميْك في أعشار قلبٍ مقتلِ
وإذا كان الامتداد الزمني المؤثر والرحب للبحر الطويل، سيجعله محطاً لأنظار البعض من شعراء المعلقات، مثل طرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى، والكثير من شعراء الأطلال، فإن أكثر ما يمكن التوقف عنده، هو الشغف البالغ الذي أظهره شعراء الحب العذري بهذا البحر، الذي بدا وكأنه «المطية» الأمثل لحمل وجيب قلوبهم إلى مسامع حبيباتهن النائيات والمتشحات بثوب الغياب. كما أن الطول الملحوظ لهذا البحر، يتناسب تماماً مع ما يتمتع به العاشق العذري من نفَس طويل في الحب والانتظار الدهري للحبيبة الغائبة، كما في الصبر على آلام الفراق. ومن يقرأ دواوين العذريين في مصادرها المختلفة لا بد أن يصاب بالدهشة حين يكتشف أن أكثر من ثمانين في المائة من قصائد هذه الدواوين قد تم نظمه على البحر الطويل بالذات، في حين يتوزع الباقي على البسيط والكامل وبعض البحور الأخرى. وهو ما ينسحب على معظم ما كتبه جميل بن معمر الذي يبدو وكأنه، كسواه من العذريين، مكتوب على خطوط التماس الفاصلة بين ضوء الحب وعتمته، كما بين سطح الأرض وباطنها:
ألا ليتنا نحيا جميعاً، وإن نمُتْ يجاور، في الموتى، ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغبٍ إذا قيل قد سُوي عليها صفيحُها
أظل نهاري مستهاماً، وتلتقي مع الليل روحي في المنام وروحُها
ولم تكن تجربة قيس بن الملوح العاطفية بمنأى عن الاحتفاء المماثل بهذا البحر، والاتكاء شبه الدائم على إيقاعاته المثخنة بالأنين والشجن وتمزقات النفس. وإذا كان البعض قد شكك بوجود قيس الفعلي، معتبراً أن قصة عشقه الهذياني ليست سوى ضرب من الأساطير التي ابتدعتها مخيلات الرواة، فإن الشعر الذي بين أيدينا هو حقيقة واقعة لا يرقى إليها الشك، بكل ما يختزنه من لهب الداخل وفورانات العاطفة المحمومة، وهو ما منح «المجنون» فرصة الخلود، بقدر ما حوله إلى ملهم حقيقي للعشرات من شعراء العالم وكتابه اللاحقين. كما لا نملك في هذا الخصوص إلا أن نلاحظ الفارق الشاسع بين شعر الطرديات والشعر السياسي في العصر الأموي من جهة، وبين شعر الحب عند قيس وأترابه العذريين من جهة أخرى، حيث النوعان الأولان يكرران الصيغ والنماذج الجاهلية بكل ما تتسم به من خشونة وتعقيد وإغراب لفظي وتعبيري، في حين أن شعر العذريين كان يشف مع الحب إلى أبعد حدود الشفافية، ويبدو لشدة صدقه وكأنه يسيل كما الماء، من أكثر جهات القلب صلة بالعذوبة والتفجر التلقائي ومناجاة الغياب:
ألا زعمتْ ليلى بأنْ لا أحبها بلى وليالي العشْر والشفْع والوتْرِ
بلى والذي لا يعلم الغيبَ غيرُهُ بقدرته تجري السفائن في البحرِ
بلى والذي نادى من الطور عبْده وعظم أيامَ الذبيحة والنحرِ
لقد فُضلتْ ليلى على الناس مثلما على ألف شهرٍ فُضلتْ ليلة القدْر
لا يعني ذلك بأي حال أن الشعراء ليسوا قادرين على تطويع البحور وتوسيع آفاقها واحتمالاتها الإيقاعية، وفقاً للحالة النفسية التي يمرون بها لحظة الكتابة، وهو ما يساعدهم على تحقيقه هامشٌ غير قليل من الجوازات وسياقات النبر والإشباع والتوتر، إضافة إلى حذف التفعيلات واجتزائها. وهو ما أتاح للشعراء أن يستثمروا البحر المذكور في موضوعات متنوعة كالوصف والفخر والخمريات والتأمل الوجداني والمديح الملحمي. ومع ذلك فإن الجغرافيا الإيقاعية الحزينة للبحر الطويل، هي التي دفعت هؤلاء أنفسهم إلى توظيفه الناجح في مجال الرثاء، كما فعلت الخنساء في رثاء أخيها صخر، والمتنبي في رثاء جدته، وابن الرومي في رثاء ولده الأوسط، ومالك بن الريب في رثاء نفسه. وحتى لو لم يكن هناك موتى «مؤهلون» لرثاء الشعراء، فإن البحر الطويل قادر على بث روح الأسى في باطن الكلمات، ونقل عدواها دون إبطاء إلى نفس المتلقي. كأن إيقاع هذا البحر مصنوع من غروب الأشياء، أو من مادة هاربة ومفتوحة على التلاشي. وليس أدل على ذلك من أبيات ابن الدمينة، التي لا تنفك تقودنا إلى منابعها المترعة بالحنين إلى كل مكانٍ نأى بعيداً، أو كل حبيبٍ فقدناه:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجْت عن نجدِ وقد زادني مسراك وجداً على وجدِ
أإنْ هتفتْ ورقاء في رونق الضحى على فننٍ غض النبات من الرنْدِ
بكيتَ كما يبكي الوليد، ولم تكن جلوداً، وأبديْتَ الذي لم تكن تُبْدي
رعى الله من نجدٍ أناسٌ أُحبهمْ فلو نقضوا عهدي حفظتُ لهم ودي
إذا وعدتْ زاد الهوى بانتظارها وإن بخلتْ بالوعد، مت على الوعدِ



لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي