البحر الطويل يرافق الشعراء العذريين في براري الفقدان

تتبعاته الصوتية أشبه بتواشجات النفس وتموجات المكان الصحراوي

البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي
البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي
TT

البحر الطويل يرافق الشعراء العذريين في براري الفقدان

البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي
البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي

لم تكن البحور المختلفة التي اختار العرب الأقدمون أن ينظموا قصائدهم وفق أنساقها الإيقاعية خاضعة لمنطق الصدفة العارضة، بقدر ما تبدو متصلة بروح المكان الصحراوي من جهة، وبشجى النفس المتقلبة في انفعالاتها توتراً وعصفاً وتشظياً وانبساطاً، من جهة أخرى. ومع أن معظم القبائل العربية كانت تترحل في الصحارى القاحلة بحثاً عن الماء والكلأ، فإنه لأمر لافت أن تُنعت الأنساق الوزنية بالبحور، لا بشيء آخر متصل باليابسة. فقد وجد العرب في المتتاليات الزمنية للإيقاع ما يجافي الصلابة والثبات، ليتماهى مع حركة الأمواج في صعودها وهبوطها الدائمين من جهة، ومع التموج المماثل للكثبان الرملية التي تعيد الرياح نسجها وتشكيلها بشكل دائم، وفق ما يعبر امرؤ القيس من جهة أخرى. ولأن للأمواج هامشاً أوسع للتبدل، وللتعبير عن الوداعة أو الاضطراب، فقد وقع الاختيار على «البحور»، لكي تكون أحوالها المتغايرة معياراً لوتائر الإيقاع وتشكيلاته الصوتية والعصبية. هكذا بدت البحور الشعرية بجوازاتها المختلفة، ترجمة إيقاعية وزمنية لمكابدات الشعراء ومشاعرهم المتباينة، ولضبطهم أثناء الكتابة، متلبسين بحالات الزهو أو الغضب، الانتصار أو الانكسار، وبنشوة الحب أو مرارة الفقدان. ولعلهم لا يجافون الحقيقة بشيء أولئك الذين يتحدثون عن أن الإرهاصات الأولى للقصيدة تحضر على شكل غمغمات إيقاعاتية غامضة، ما تلبث أن تنحو في فترة لاحقة نحو تجسدها اللفظي والأسلوبي. وهو ما يؤكده قول الشاعر الفرنسي بول فاليري بأن «على الصوت أن يكون صدى للمعنى».

حالتا الصعود والهبوط

إذا كانت العلاقة بين الإنسان وبيئته الحاضنة، هي التي تحدد الكثير من سلوكيات البشر وطبائعهم وصولاً إلى تعبيراتهم الإبداعية، فإن الأنساق الإيقاعية للشعر العربي لم تكن منفصلة بأي حال عن طبيعة الحياة العربية الموزعة بين الرحابة والانغلاق، بين الرومانسية المفرطة والقسوة المفرطة، بين الحب والموت. ومن بين البحور الستة عشر للعروض العربي، قد يكون البحر الطويل، القائم على تعاقب تفعيلتي «فعولن» و«مفاعيلن» مرات أربع في البيت الواحد، هو الأكثر تعبيراً عن روح المكان الشاسع، الذي يمتد بلا نهاية في أفقٍ غامض المعالم. وكما أن الصحراء العربية مؤلفة من كثبان رملية مقوسة، تحولها الريح والمطر وعوامل الطبيعة الأخرى إلى متتاليات شبه متناظرة من الصعود والهبوط، فإن تفعيلتي البحر الطويل تحققان الأمر نفسه، حيث يرمز الجزء الأول من «فعولن» إلى حالة الصعود، بينما يرمز الجزء الثاني إلى حالة الهبوط. وكذلك هو الأمر مع «مفاعيلن»، مع تعديل طفيف متعلق بتكرار الجزء الثاني من التفعيلة.
أما الهدف الآخر الذي يصيبه البحر الطويل فهو يتعلق بتناغمه الصوتي والدلالي مع حالة التنقل والترحال في المكان الصحراوي، الذي تمثله حركة الإبل على وجه التحديد. فإذا كان بحر الخبب، بخاصة في صيغتي «فعِلن» و«فعْلن»، متصلاً بإيقاع الخيول خلال سيرها، السريع أو البطيء في المفازات الشاسعة، فإن هذا البحر يبدو متناغماً مع الإيقاع المتفاوت في وتيرته لحركة الإبل المترحلة، حيث يتناغم المقطعان الأولان من «فعولن» و«مفاعيلن» مع حركة قائمتي الجمل المرفوعتين إلى الأعلى، فيما تتناغم المقاطع اللاحقة مع حركة هبوط القائمتين نحو الأرض. وإذا كان التناظر الشكلي واضحاً تماماً بين تحدب المكان الصحراوي وتحدب الإبل، بخاصة ذات السنامين، فإن الإيقاع «المحدودب» للبحر الطويل، يقع على المستوى الرمزي في السياق نفسه، معبراً ليس فقط عن تضاريس المكان وجغرافيته، بل عن السينوغرافيا الموازية لحركة الجسد المندفعة إلى الأمام تارة، وإلى الوراء تارة أخرى.
على أن الدلالة الثالثة لإيقاع هذا البحر، هي تلك المتصلة بخلجات البشر ومكابداتهم الصعبة، وسط قفار شاسعة مأهولة بالخوف والقلق والمجابهة الدائمة مع الآخر الجحيمي. ولعل ما يعطي للبحر الطويل مكانته التفضيلية بين نظرائه، ليس ناجماً عن طوله اللافت الذي يشي به النعت فحسب، بل عن كونه الأقدر على صهر الشحنات الوجدانية والتأملية للشعراء، في بوتقة إيقاعية شديدة المرونة والتنوع والانسياب الصوتي. ففي تفعلتيه المتعاقبتين ما يتسع لانقباض النفس وانفساحها وأنينها، وما يواكب تطلعها المثلوم بالشكوك إلى المستقبل، أو التفاتاتها المتحسرة إلى أطلال الماضي. وهو يتسع للصيغ الكلامية المتبدلة بين الخبر والإنشاء، ولصيحات التعجب والاستفهام عند المنعطفات غير المنتظرة للمصائر، ولصيغ المرارة والتفجع في قصائد الرثاء، كما لصرخات النداء الغامض في براري الفقدان.

إيقاعات مثخنة بالأنين والشجن

ليس من قبيل المصادفات البحتة تبعاً لذلك، أن يعمد امرؤ القيس إلى نظم معلقته المعروفة، التي تشكل أحد النصوص المؤسسة للشعرية العربية، على البحر الطويل بالذات، بل إن اختياره لهذا البحر ناجم عن كونه الأكثر مواءمة لترنحات نفسه المثلومة بسيف الغياب، فضلاً عن أن تفعيلاته هي الأكثر قدرة على احتضان حروف العلة، المرافقة لاعتلال الروح، وعلى حمل الترجيعات المتولدة عن صيغ النداء والشكوى والمناشدات المُرة. وهو ما لا تنحصر تمثلاته الواضحة في مناجاة الشاعر لليله الأبدي المشرع على الأرق والخوف فحسب: «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ\ بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ»، بل في ندائه المماثل للحبيبة المتمنعة حتى تخوم القتل:
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدللِ وإن كنت قد أزمعتِ صَرْمي فأجملي
وإن أكُ قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابكِ تنْسلِ
وما ذرفتْ عيناك إلا لتضربي بسهميْك في أعشار قلبٍ مقتلِ
وإذا كان الامتداد الزمني المؤثر والرحب للبحر الطويل، سيجعله محطاً لأنظار البعض من شعراء المعلقات، مثل طرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى، والكثير من شعراء الأطلال، فإن أكثر ما يمكن التوقف عنده، هو الشغف البالغ الذي أظهره شعراء الحب العذري بهذا البحر، الذي بدا وكأنه «المطية» الأمثل لحمل وجيب قلوبهم إلى مسامع حبيباتهن النائيات والمتشحات بثوب الغياب. كما أن الطول الملحوظ لهذا البحر، يتناسب تماماً مع ما يتمتع به العاشق العذري من نفَس طويل في الحب والانتظار الدهري للحبيبة الغائبة، كما في الصبر على آلام الفراق. ومن يقرأ دواوين العذريين في مصادرها المختلفة لا بد أن يصاب بالدهشة حين يكتشف أن أكثر من ثمانين في المائة من قصائد هذه الدواوين قد تم نظمه على البحر الطويل بالذات، في حين يتوزع الباقي على البسيط والكامل وبعض البحور الأخرى. وهو ما ينسحب على معظم ما كتبه جميل بن معمر الذي يبدو وكأنه، كسواه من العذريين، مكتوب على خطوط التماس الفاصلة بين ضوء الحب وعتمته، كما بين سطح الأرض وباطنها:
ألا ليتنا نحيا جميعاً، وإن نمُتْ يجاور، في الموتى، ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغبٍ إذا قيل قد سُوي عليها صفيحُها
أظل نهاري مستهاماً، وتلتقي مع الليل روحي في المنام وروحُها
ولم تكن تجربة قيس بن الملوح العاطفية بمنأى عن الاحتفاء المماثل بهذا البحر، والاتكاء شبه الدائم على إيقاعاته المثخنة بالأنين والشجن وتمزقات النفس. وإذا كان البعض قد شكك بوجود قيس الفعلي، معتبراً أن قصة عشقه الهذياني ليست سوى ضرب من الأساطير التي ابتدعتها مخيلات الرواة، فإن الشعر الذي بين أيدينا هو حقيقة واقعة لا يرقى إليها الشك، بكل ما يختزنه من لهب الداخل وفورانات العاطفة المحمومة، وهو ما منح «المجنون» فرصة الخلود، بقدر ما حوله إلى ملهم حقيقي للعشرات من شعراء العالم وكتابه اللاحقين. كما لا نملك في هذا الخصوص إلا أن نلاحظ الفارق الشاسع بين شعر الطرديات والشعر السياسي في العصر الأموي من جهة، وبين شعر الحب عند قيس وأترابه العذريين من جهة أخرى، حيث النوعان الأولان يكرران الصيغ والنماذج الجاهلية بكل ما تتسم به من خشونة وتعقيد وإغراب لفظي وتعبيري، في حين أن شعر العذريين كان يشف مع الحب إلى أبعد حدود الشفافية، ويبدو لشدة صدقه وكأنه يسيل كما الماء، من أكثر جهات القلب صلة بالعذوبة والتفجر التلقائي ومناجاة الغياب:
ألا زعمتْ ليلى بأنْ لا أحبها بلى وليالي العشْر والشفْع والوتْرِ
بلى والذي لا يعلم الغيبَ غيرُهُ بقدرته تجري السفائن في البحرِ
بلى والذي نادى من الطور عبْده وعظم أيامَ الذبيحة والنحرِ
لقد فُضلتْ ليلى على الناس مثلما على ألف شهرٍ فُضلتْ ليلة القدْر
لا يعني ذلك بأي حال أن الشعراء ليسوا قادرين على تطويع البحور وتوسيع آفاقها واحتمالاتها الإيقاعية، وفقاً للحالة النفسية التي يمرون بها لحظة الكتابة، وهو ما يساعدهم على تحقيقه هامشٌ غير قليل من الجوازات وسياقات النبر والإشباع والتوتر، إضافة إلى حذف التفعيلات واجتزائها. وهو ما أتاح للشعراء أن يستثمروا البحر المذكور في موضوعات متنوعة كالوصف والفخر والخمريات والتأمل الوجداني والمديح الملحمي. ومع ذلك فإن الجغرافيا الإيقاعية الحزينة للبحر الطويل، هي التي دفعت هؤلاء أنفسهم إلى توظيفه الناجح في مجال الرثاء، كما فعلت الخنساء في رثاء أخيها صخر، والمتنبي في رثاء جدته، وابن الرومي في رثاء ولده الأوسط، ومالك بن الريب في رثاء نفسه. وحتى لو لم يكن هناك موتى «مؤهلون» لرثاء الشعراء، فإن البحر الطويل قادر على بث روح الأسى في باطن الكلمات، ونقل عدواها دون إبطاء إلى نفس المتلقي. كأن إيقاع هذا البحر مصنوع من غروب الأشياء، أو من مادة هاربة ومفتوحة على التلاشي. وليس أدل على ذلك من أبيات ابن الدمينة، التي لا تنفك تقودنا إلى منابعها المترعة بالحنين إلى كل مكانٍ نأى بعيداً، أو كل حبيبٍ فقدناه:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجْت عن نجدِ وقد زادني مسراك وجداً على وجدِ
أإنْ هتفتْ ورقاء في رونق الضحى على فننٍ غض النبات من الرنْدِ
بكيتَ كما يبكي الوليد، ولم تكن جلوداً، وأبديْتَ الذي لم تكن تُبْدي
رعى الله من نجدٍ أناسٌ أُحبهمْ فلو نقضوا عهدي حفظتُ لهم ودي
إذا وعدتْ زاد الهوى بانتظارها وإن بخلتْ بالوعد، مت على الوعدِ



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.