البحر الطويل يرافق الشعراء العذريين في براري الفقدان

تتبعاته الصوتية أشبه بتواشجات النفس وتموجات المكان الصحراوي

البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي
البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي
TT

البحر الطويل يرافق الشعراء العذريين في براري الفقدان

البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي
البحر الطويل يتناغم صوتياً ودلالياً مع حركة الإبل في المكان الصحراوي

لم تكن البحور المختلفة التي اختار العرب الأقدمون أن ينظموا قصائدهم وفق أنساقها الإيقاعية خاضعة لمنطق الصدفة العارضة، بقدر ما تبدو متصلة بروح المكان الصحراوي من جهة، وبشجى النفس المتقلبة في انفعالاتها توتراً وعصفاً وتشظياً وانبساطاً، من جهة أخرى. ومع أن معظم القبائل العربية كانت تترحل في الصحارى القاحلة بحثاً عن الماء والكلأ، فإنه لأمر لافت أن تُنعت الأنساق الوزنية بالبحور، لا بشيء آخر متصل باليابسة. فقد وجد العرب في المتتاليات الزمنية للإيقاع ما يجافي الصلابة والثبات، ليتماهى مع حركة الأمواج في صعودها وهبوطها الدائمين من جهة، ومع التموج المماثل للكثبان الرملية التي تعيد الرياح نسجها وتشكيلها بشكل دائم، وفق ما يعبر امرؤ القيس من جهة أخرى. ولأن للأمواج هامشاً أوسع للتبدل، وللتعبير عن الوداعة أو الاضطراب، فقد وقع الاختيار على «البحور»، لكي تكون أحوالها المتغايرة معياراً لوتائر الإيقاع وتشكيلاته الصوتية والعصبية. هكذا بدت البحور الشعرية بجوازاتها المختلفة، ترجمة إيقاعية وزمنية لمكابدات الشعراء ومشاعرهم المتباينة، ولضبطهم أثناء الكتابة، متلبسين بحالات الزهو أو الغضب، الانتصار أو الانكسار، وبنشوة الحب أو مرارة الفقدان. ولعلهم لا يجافون الحقيقة بشيء أولئك الذين يتحدثون عن أن الإرهاصات الأولى للقصيدة تحضر على شكل غمغمات إيقاعاتية غامضة، ما تلبث أن تنحو في فترة لاحقة نحو تجسدها اللفظي والأسلوبي. وهو ما يؤكده قول الشاعر الفرنسي بول فاليري بأن «على الصوت أن يكون صدى للمعنى».

حالتا الصعود والهبوط

إذا كانت العلاقة بين الإنسان وبيئته الحاضنة، هي التي تحدد الكثير من سلوكيات البشر وطبائعهم وصولاً إلى تعبيراتهم الإبداعية، فإن الأنساق الإيقاعية للشعر العربي لم تكن منفصلة بأي حال عن طبيعة الحياة العربية الموزعة بين الرحابة والانغلاق، بين الرومانسية المفرطة والقسوة المفرطة، بين الحب والموت. ومن بين البحور الستة عشر للعروض العربي، قد يكون البحر الطويل، القائم على تعاقب تفعيلتي «فعولن» و«مفاعيلن» مرات أربع في البيت الواحد، هو الأكثر تعبيراً عن روح المكان الشاسع، الذي يمتد بلا نهاية في أفقٍ غامض المعالم. وكما أن الصحراء العربية مؤلفة من كثبان رملية مقوسة، تحولها الريح والمطر وعوامل الطبيعة الأخرى إلى متتاليات شبه متناظرة من الصعود والهبوط، فإن تفعيلتي البحر الطويل تحققان الأمر نفسه، حيث يرمز الجزء الأول من «فعولن» إلى حالة الصعود، بينما يرمز الجزء الثاني إلى حالة الهبوط. وكذلك هو الأمر مع «مفاعيلن»، مع تعديل طفيف متعلق بتكرار الجزء الثاني من التفعيلة.
أما الهدف الآخر الذي يصيبه البحر الطويل فهو يتعلق بتناغمه الصوتي والدلالي مع حالة التنقل والترحال في المكان الصحراوي، الذي تمثله حركة الإبل على وجه التحديد. فإذا كان بحر الخبب، بخاصة في صيغتي «فعِلن» و«فعْلن»، متصلاً بإيقاع الخيول خلال سيرها، السريع أو البطيء في المفازات الشاسعة، فإن هذا البحر يبدو متناغماً مع الإيقاع المتفاوت في وتيرته لحركة الإبل المترحلة، حيث يتناغم المقطعان الأولان من «فعولن» و«مفاعيلن» مع حركة قائمتي الجمل المرفوعتين إلى الأعلى، فيما تتناغم المقاطع اللاحقة مع حركة هبوط القائمتين نحو الأرض. وإذا كان التناظر الشكلي واضحاً تماماً بين تحدب المكان الصحراوي وتحدب الإبل، بخاصة ذات السنامين، فإن الإيقاع «المحدودب» للبحر الطويل، يقع على المستوى الرمزي في السياق نفسه، معبراً ليس فقط عن تضاريس المكان وجغرافيته، بل عن السينوغرافيا الموازية لحركة الجسد المندفعة إلى الأمام تارة، وإلى الوراء تارة أخرى.
على أن الدلالة الثالثة لإيقاع هذا البحر، هي تلك المتصلة بخلجات البشر ومكابداتهم الصعبة، وسط قفار شاسعة مأهولة بالخوف والقلق والمجابهة الدائمة مع الآخر الجحيمي. ولعل ما يعطي للبحر الطويل مكانته التفضيلية بين نظرائه، ليس ناجماً عن طوله اللافت الذي يشي به النعت فحسب، بل عن كونه الأقدر على صهر الشحنات الوجدانية والتأملية للشعراء، في بوتقة إيقاعية شديدة المرونة والتنوع والانسياب الصوتي. ففي تفعلتيه المتعاقبتين ما يتسع لانقباض النفس وانفساحها وأنينها، وما يواكب تطلعها المثلوم بالشكوك إلى المستقبل، أو التفاتاتها المتحسرة إلى أطلال الماضي. وهو يتسع للصيغ الكلامية المتبدلة بين الخبر والإنشاء، ولصيحات التعجب والاستفهام عند المنعطفات غير المنتظرة للمصائر، ولصيغ المرارة والتفجع في قصائد الرثاء، كما لصرخات النداء الغامض في براري الفقدان.

إيقاعات مثخنة بالأنين والشجن

ليس من قبيل المصادفات البحتة تبعاً لذلك، أن يعمد امرؤ القيس إلى نظم معلقته المعروفة، التي تشكل أحد النصوص المؤسسة للشعرية العربية، على البحر الطويل بالذات، بل إن اختياره لهذا البحر ناجم عن كونه الأكثر مواءمة لترنحات نفسه المثلومة بسيف الغياب، فضلاً عن أن تفعيلاته هي الأكثر قدرة على احتضان حروف العلة، المرافقة لاعتلال الروح، وعلى حمل الترجيعات المتولدة عن صيغ النداء والشكوى والمناشدات المُرة. وهو ما لا تنحصر تمثلاته الواضحة في مناجاة الشاعر لليله الأبدي المشرع على الأرق والخوف فحسب: «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ\ بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ»، بل في ندائه المماثل للحبيبة المتمنعة حتى تخوم القتل:
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدللِ وإن كنت قد أزمعتِ صَرْمي فأجملي
وإن أكُ قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابكِ تنْسلِ
وما ذرفتْ عيناك إلا لتضربي بسهميْك في أعشار قلبٍ مقتلِ
وإذا كان الامتداد الزمني المؤثر والرحب للبحر الطويل، سيجعله محطاً لأنظار البعض من شعراء المعلقات، مثل طرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى، والكثير من شعراء الأطلال، فإن أكثر ما يمكن التوقف عنده، هو الشغف البالغ الذي أظهره شعراء الحب العذري بهذا البحر، الذي بدا وكأنه «المطية» الأمثل لحمل وجيب قلوبهم إلى مسامع حبيباتهن النائيات والمتشحات بثوب الغياب. كما أن الطول الملحوظ لهذا البحر، يتناسب تماماً مع ما يتمتع به العاشق العذري من نفَس طويل في الحب والانتظار الدهري للحبيبة الغائبة، كما في الصبر على آلام الفراق. ومن يقرأ دواوين العذريين في مصادرها المختلفة لا بد أن يصاب بالدهشة حين يكتشف أن أكثر من ثمانين في المائة من قصائد هذه الدواوين قد تم نظمه على البحر الطويل بالذات، في حين يتوزع الباقي على البسيط والكامل وبعض البحور الأخرى. وهو ما ينسحب على معظم ما كتبه جميل بن معمر الذي يبدو وكأنه، كسواه من العذريين، مكتوب على خطوط التماس الفاصلة بين ضوء الحب وعتمته، كما بين سطح الأرض وباطنها:
ألا ليتنا نحيا جميعاً، وإن نمُتْ يجاور، في الموتى، ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغبٍ إذا قيل قد سُوي عليها صفيحُها
أظل نهاري مستهاماً، وتلتقي مع الليل روحي في المنام وروحُها
ولم تكن تجربة قيس بن الملوح العاطفية بمنأى عن الاحتفاء المماثل بهذا البحر، والاتكاء شبه الدائم على إيقاعاته المثخنة بالأنين والشجن وتمزقات النفس. وإذا كان البعض قد شكك بوجود قيس الفعلي، معتبراً أن قصة عشقه الهذياني ليست سوى ضرب من الأساطير التي ابتدعتها مخيلات الرواة، فإن الشعر الذي بين أيدينا هو حقيقة واقعة لا يرقى إليها الشك، بكل ما يختزنه من لهب الداخل وفورانات العاطفة المحمومة، وهو ما منح «المجنون» فرصة الخلود، بقدر ما حوله إلى ملهم حقيقي للعشرات من شعراء العالم وكتابه اللاحقين. كما لا نملك في هذا الخصوص إلا أن نلاحظ الفارق الشاسع بين شعر الطرديات والشعر السياسي في العصر الأموي من جهة، وبين شعر الحب عند قيس وأترابه العذريين من جهة أخرى، حيث النوعان الأولان يكرران الصيغ والنماذج الجاهلية بكل ما تتسم به من خشونة وتعقيد وإغراب لفظي وتعبيري، في حين أن شعر العذريين كان يشف مع الحب إلى أبعد حدود الشفافية، ويبدو لشدة صدقه وكأنه يسيل كما الماء، من أكثر جهات القلب صلة بالعذوبة والتفجر التلقائي ومناجاة الغياب:
ألا زعمتْ ليلى بأنْ لا أحبها بلى وليالي العشْر والشفْع والوتْرِ
بلى والذي لا يعلم الغيبَ غيرُهُ بقدرته تجري السفائن في البحرِ
بلى والذي نادى من الطور عبْده وعظم أيامَ الذبيحة والنحرِ
لقد فُضلتْ ليلى على الناس مثلما على ألف شهرٍ فُضلتْ ليلة القدْر
لا يعني ذلك بأي حال أن الشعراء ليسوا قادرين على تطويع البحور وتوسيع آفاقها واحتمالاتها الإيقاعية، وفقاً للحالة النفسية التي يمرون بها لحظة الكتابة، وهو ما يساعدهم على تحقيقه هامشٌ غير قليل من الجوازات وسياقات النبر والإشباع والتوتر، إضافة إلى حذف التفعيلات واجتزائها. وهو ما أتاح للشعراء أن يستثمروا البحر المذكور في موضوعات متنوعة كالوصف والفخر والخمريات والتأمل الوجداني والمديح الملحمي. ومع ذلك فإن الجغرافيا الإيقاعية الحزينة للبحر الطويل، هي التي دفعت هؤلاء أنفسهم إلى توظيفه الناجح في مجال الرثاء، كما فعلت الخنساء في رثاء أخيها صخر، والمتنبي في رثاء جدته، وابن الرومي في رثاء ولده الأوسط، ومالك بن الريب في رثاء نفسه. وحتى لو لم يكن هناك موتى «مؤهلون» لرثاء الشعراء، فإن البحر الطويل قادر على بث روح الأسى في باطن الكلمات، ونقل عدواها دون إبطاء إلى نفس المتلقي. كأن إيقاع هذا البحر مصنوع من غروب الأشياء، أو من مادة هاربة ومفتوحة على التلاشي. وليس أدل على ذلك من أبيات ابن الدمينة، التي لا تنفك تقودنا إلى منابعها المترعة بالحنين إلى كل مكانٍ نأى بعيداً، أو كل حبيبٍ فقدناه:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجْت عن نجدِ وقد زادني مسراك وجداً على وجدِ
أإنْ هتفتْ ورقاء في رونق الضحى على فننٍ غض النبات من الرنْدِ
بكيتَ كما يبكي الوليد، ولم تكن جلوداً، وأبديْتَ الذي لم تكن تُبْدي
رعى الله من نجدٍ أناسٌ أُحبهمْ فلو نقضوا عهدي حفظتُ لهم ودي
إذا وعدتْ زاد الهوى بانتظارها وإن بخلتْ بالوعد، مت على الوعدِ



الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

عيسى مخلوف
عيسى مخلوف
TT

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

عيسى مخلوف
عيسى مخلوف

لعلني لا أجافي الحقيقة في شيء إذا نوهت في بداية هذه المقالة بأن مسارعتي لقراءة إصدار عيسى مخلوف الجديد «باريس التي عشت» لا تعود إلى جاذبية المدينة المعنية بالكتابة وسحرها الاستثنائي، أو إلى اهتمامي المزمن بكل ما يمت لأدبي الرحلة والسيرة بصلة أو نسب فحسب، بل كان دافعي الأهم للقراءة هو قدرة صاحب «رسالة إلى الأختين» العالية على أن يوائم في كتاباته بين عمق المعرفة وجماليات السرد وإشراقة اللغة والأسلوب.

وإذا كان مخلوف لا يتوانى عن تحويل العديد من إصداراته إلى «معرض» شديد الثراء لثقافته الواسعة وعلاقاته المباشرة برموز الثقافة العالمية المعاصرة، فإن ما يبدو عند بعض الكتاب نوعاً من التبجح المعرفي، يتخذ عند عيسى طابعه التلقائي، ويبدو جزءاً لا يتجزأ من الموضوع المتناول بالمقاربة والبحث، بعيداً عن الادعاء والاستعراض المتعسف للكتب المقروءة.

ولا بد من التنويه إضافة إلى ما تقدم بأن تعامل مخلوف مع الكتابة بوصفها مولّداً للمتعة، إضافة إلى شغفه المفرط بالحرية، هو ما جعله يخرج عن فكرة التجنيس الأدبي النمطي. فهو إذ جانب في كتابه السابق «ضفاف أخرى» الامتثال لمفاهيم السيرة الشخصية المألوفة، لم يتقيد في عمله الأخير بالمفهوم السائد لأدب الرحلات. فبدلاً من التنزه في جغرافيا العاصمة الفرنسية وأماكنه، آثر مخلوف القادم إلى باريس من كاراكاس لمتابعة تحصيله العلمي، أن يحتفي بروح المدينة الكوزموبوليتية التي تحوّلت عبر الزمن إلى مساحة نادرة للتنوير والتجريب الحداثي، وإلى منصة مفتوحة للاندماج الثقافي الكوني.

يتحدث مخلوف في مقدمته المسهبة لكتابه عن أن تصوره لباريس قبل القدوم إليها، كان بالدرجة الأولى ذا منشأ ثقافي وإبداعي. وإذا كان ذلك التصور منقسماً بين الرومانسية والواقعية، فلأن قراءاته الأولى كانت هي الأخرى مزيجاً من كتابات فيكتور هيغو وموباسان ولامارتين وبلزاك وإميل زولا، وصولاً إلى بودلير الذي انقلب على التقاليد السائدة في عصره. وقد جهد صاحب «أزهار الشر» في البحث عن صورة للمدينة تتعدى جمالها الهندسي الخلاب، لتتصل بالأبعاد الروحية والشهوانية للمدينة الغامضة، وصولاً إلى مخاطبته لها بالقول «لقد أعطيتِني طينكِ فصنعتُ منه الذهب».

وإذ يشير المؤلف إلى الدور الرائد الذي لعبه نابليون الثالث في تغيير ملامح باريس وإنارتها وشق طرقاتها وتزيينها بالحدائق، وتأهيلها بالمكتبات والمقاهي والمسارح وقاعات الأدب والفن، يشير في الوقت نفسه إلى أن المدينة لم تكن في القرنين الفائتين صناعة فرنسية صرفة، بل هي ثمرة التفاعل الخلاق بين مبدعيها المحليين من أمثال رامبو ومالارميه وسارتر وأراغون وبونفوا وبارت وفوكو، وبين القادمين إليها من أربع رياح الأرض ليعثروا في كنفها على ما ينقصهم من نيران الشغف أو هواء الحرية. ومن بين هؤلاء كتّاب وفنانون عالميون من أمثال بورخيس وماركيز وبيكاسو ودالي، وعرب ولبنانيون من أمثال جبران وآسيا جبار وصليبا الدويهي وشفيق عبود والطاهر بن جلون وصلاح ستيتية وإيتيل عدنان وفاروق مردم بك وغيرهم.

على أن احتفاء مخلوف بالمدينة التي كانت قبل عقود، الحاضنة الأمثل لمغامرة الكتابة والفن، التي شكلت الملجأ والكنف والملاذ لكل الهاربين من وطأة التخلف والجهل والاستبداد في بلدانهم الأم، لم يمنعه من الإقرار بتقهقرها المأساوي إزاء ما سماه إريك أورسينا، عضو الأكاديمية الفرنسية، غول الرأسمالية المفترس، الذي عمل بنهم مرَضي على افتراس كل إبداع خلاق وتفريغه من مضمونه، وإخضاعه لسوق الشراء والبيع ومنطق العرض والطلب. وقد عبّر بيار بورديو من جهته عن هذه الظاهرة بالقول «إن المنتج الثقافي أصبح يُعامل اليوم بوصفه سلعة وأداة لهو وتسلية، فيما بات أصحاب المال والنفوذ هم رعاة الثقافة وأسيادها وراسمي القواعد الجديدة للاجتماع البشري وقوانينه».

وفي تلك البورتريهات الملتقطة للكتاب الباريسيين، مقيمين ووافدين، ثمة ما يبدأ من لحظة اللقاء الختامي ثم يعود على طريقة «الفلاش باك» إلى لحظة البدايات، كما في الفصل المتعلق بإيتيل عدنان، الشاعرة والرسامة اللبنانية المعروفة. فالمؤلف يستهل الفصل بالحديث عن اللقاء الأخير الذي جمعه بإيتيل قائلاً: كانت إيتيل جالسة في قاعة الاستقبال، حيث نلتقي عادة، وكانت متعبة ومتألمة. لقد توقفت عن تناول الدواء الذي سبّب لها الدوار. قلت لها سنتصل بالطبيب، ونطلب منه أن يصف لك دواء آخر. وكان ردها حاسماً ما من أدوية للشيخوخة. إلا أنه ما يلبث، إثر عرض مكثف لأبرز محطات حياتها ووجوه تميزها الإبداعي، أن يقول لا أدري متى التقينا، إيتيل وأنا، أول مرة. فبعض اللقاءات سابقة لأوان حدوثها، وموجودة حتى قبل أن توجد.

ومن بين ما يلفتنا في الكتاب حرص صاحبه على المواءمة بين فكرة المثقف المتخصص التي لازمت الحداثة في بعض حقبها الأخيرة، وفكرة المثقف الموسوعي الذي لا تحول هويته الشعرية الأساسية، دون اهتمامه بشؤون الفكر والفلسفة والأدب والتاريخ، وتفاعله النقدي العميق مع فنون الشعر والرواية والموسيقى وفنون التشكيل. على أن المعرفة هنا لا تظل أسيرة التنظير الممل واللغة الباردة، بل ثمة على الدوام تيار من العاطفة الدافئة والحماس المكتوم، يسري في شرايين الكتابة، بعيداً عن الإنشاء الرخو والمبالغة الميلودرامية.

أما الأمر الآخر اللافت، فيتعلق بحرص مخلوف على تقديم الثقافة والإبداع بوصفهما جسور التواصل الأهم بين طرفي العالم اللذين باعدت بينهما الضغائن السياسية وتضارب المصالح والعصبيات العرقية والدينية المختلفة. فحيث تطلع الكثير من المبدعين المشرقيين والعرب إلى الغرب، باعتباره موئل الحرية الأرحب، والكنف الأمثل لصقل التجارب الأدبية والفنية، كان كتاب وفنانون غربيون يتطلعون بالمقابل إلى الشرق، بوصفه الظهير الأكثر صلابة لنداءات الروح، والينبوع الأولي للبراءة الملهِمة.

وفيما يتقاسم المؤلف مع الكتاب والفنانين الذين تناولهم في كتابه، الكثير من شؤون الإبداع وشجونه، وصولاً إلى الأسئلة الممضة المتعلقة بالحياة والفن والزمن والموت، يحرص على أن يقدم لقارئه أعمق ما لدى محاوريه من الكنوز المعرفية التي يملكونها، عبر برقيات ولقىً وحدوس إنسانية شديدة التكثيف، بحيث نقرأ لإيف بونفوا قوله «إن القرن الحادي والعشرين هو على الأرجح القرن الذي سيشهد على اختناق الشعر تحت الأنقاض التي تغطي العالم». ونقرأ لبورخيس، الذي تمكن مخلوف أن يلتقيه لدقائق معدودة في باريس، قوله: «أعمى أنا ولا أعرف شيئاً ولكنني أتوقع أدَقّ المسالك»، ولجان جينيه «الجرح وحده أصل الجمال». كما نقرأ لشفيق عبود، الفنان التشكيلي اللبناني: «الهواة يلعبون، يتسلّون، يركضون وراء الواجهات. وحده الفنان الحقيقي ينتحر في صناعة المستقبل».

تعامل مخلوف مع الكتابة بوصفها مولّداً للمتعة هو ما جعله يخرج عن فكرة التجنيس الأدبي النمطي

وإذا لم يكن بالأمر السهل التوقف عند المحطات المختلفة للكتاب، الذي شاءه مخلوف أن يأخذ شكل المقاربات النقدية والشخصية لمن احتضنه وإياهم كنف المدينة العريقة، فإن ما يلفتنا في الكتاب، الذي يقع بين اليوميات والسيرة الشخصية وأدب الرحلة، هو إبعاد السرد عن البرودة والتقعر والنمذجة الجامدة، ومهره بقدر غير قليل من الحب، وبلمسة إنسانية متأتية عن علاقة المؤلف المباشرة بمن كتب عنهم. وسواء أخذت تلك العلاقة شكل الصداقة الحميمة أو اللقاء الصحافي البحت، فثمة في الحالين ما يعطي الكتابة عند صاحب «عزلة الذهب» سمات الصور والرسوم، التي تحاول تأبيد اللحظات العابرة ومنعها من الإمَحاء.

والواقع أن الشعور الذي يمنحه كتاب «باريس التي عشت» لقارئه، هو مزيج من الانتشاء بلغة مخلوف التي تشع نضارة وعذوبة، وبين لسعة الأسى الشجي المتأتية عن كون معظم لقاءات المؤلف مع المبدعين المعنيين، كانت تتم في المراحل الأخيرة من أعمارهم، أو في اللحظات القاسية التي تسبق الموت. ففي حين كان مرض السرطان قد فتك بأجساد البعض، كما في حالة إدوار سعيد وسعد الله ونوس وأمجد ناصر، كان البعض الآخر منهكاً ومهيضاً تحت مطرقة الشيخوخة، كما في حالة خورخي بورخيس وصلاح ستيتية وإيتيل عدنان.

وثمة، أخيراً، ما يُخرج الكتاب من الخانة المتعلقة بأدب الرحلة التقليدي، ليجعله تقصياً لمسالك الذات الإنسانية، شبيهاً بما قصده خليل حاوي في قصيدته المعروفة «رحلة السندباد الثامنة». كما يبدو من بعض وجوهه نوعاً من أدب «الرحيل»، والرثاء التأبيني المضمر لمن رحل من المبدعين، وضرباً من ضروب التلفت بالقلب نحو نوعين من السحر متلازمين: سحر المدينة المنقضي وسحر الحياة الآفل.