«قتلة قمر الأزهار»... هل صوّر حقاً معاناة السكان الأصليين في أميركا؟

لم يفز بـ«أوسكار» ولم ينل رضا كل سكان أميركا الأصليين

«قتلة قمر الأزهار»... هل صوّر حقاً معاناة السكان الأصليين في أميركا؟
TT

«قتلة قمر الأزهار»... هل صوّر حقاً معاناة السكان الأصليين في أميركا؟

«قتلة قمر الأزهار»... هل صوّر حقاً معاناة السكان الأصليين في أميركا؟

شاهدت فيلم مارتن سكورسيزي «قتلة قمر الأزهار» في مسرحٍ لم يكن فيه أحد غيري. كنت المشاهد الوحيد فكأنما العرض كان خاصاً لي، لا يشاركني في مشاهدته أحد. وخرجت بعد نهايته وحدي ولم أكن وحدي. كنت واحداً من الذين خرجوا من المسارح السينمائية على امتداد العالم، بعد 206 دقائق من الإمتاع والإدهاش والإثارة. وأظن أنني لم أكن المشاهد الوحيد الذي تَوَلّدَ في داخله شعوٌر بعدم الارتياح من الفيلم وله؛ شعور لوّث المتعة والدهشة قليلاً.

ذهبت إلى السينما بقليل من معرفةٍ ومعلوماتٍ عن بعض «الأحداث» المحاور في قصة الفيلم؛ معرفة استقيتها من بعض تاريخ وأدب وكتابات عدد من سكان أميركا الأصليين، ومن كتاب ديفيد غران «قتلة قمر الأزهار»، وكانت تحوم في ذهني أسئلة تتعلق بالـ«كيف»، بالخطاب السردي/ بكيفية تسريد سكورسيزي للتآمرات والجرائم والفظائع التي تعرضت لها قبيلة أوسيج في أوكلاهوما في عشرينات القرن الماضي. هذا ما كان يهمني أكثر من الأحداث. لم أتساءل عمّن سيكون في المركز، ومن في الهامش. كان ذلك محدداً ومعروفاً منذ إعلان مشاركة روبرت دي نيرو، وليوناردو دي كابريو في الفيلم. يبدو أنه لا يمكن تصور فيلم هوليوودي بدون نجم أو نجوم، ولا يمكن تصورُ وجود نجوم في الهامش، يعيشون في أطراف العوالم الخيالية في أفلامها.

في بداية الأمر، فكرت في الكتابة عن الفيلم، عن تجربة مشاهدته وانطباعاتي وما يمكن اعتباره رأيي النقدي فيه، ثم قررت إرجاء ذلك إلى ما بعد المتابعة عن بُعْد لِمَا يُحْدِثُه من ترددات وأصداء، وما يثيره من تفاعلات وآراء في مجتمعات السكان الأصليين. أعتقد أن فترة ما بعد هدوء الضجة الإعلامية حول «الأوسكار»، وتَبَيُّنِ من فاز ومن لم يفز، وسقوط فيلم سكورسيزي من قائمة الأفلام الفائزة بجوائز «الأوسكار»، هي الوقت المناسب للكتابة المؤجلة. ولكن الفكرة تغيرت من مقاربة نقدية للفيلم، إلى كتابة تنقل وتعرض انطباعات وآراء مواطنين أصليين.

شكلت التصريحات وردود الأفعال في المجتمعات الأصلية تجاه الفيلم طيفاً من المواقف والآراء المتباينة، يمكن إجمالها في ثلاثة أنواع: تصريحات عن تجربة مشاهدة الفيلم، وأخرى بالإعجاب والإشادة بالفيلم والمخرج، وأخرى انتقادية. سأكتفي بالكتابة عن النوعين الثاني والثالث.

إشادة وتقدير

«قتلة قمر الأزهار» يُقدم الحقيقة عاريةً بتصويره الفظائع والمظالم التي ارتُكبت بحق أمة أوسيج، يقول جيفري ستاندنغ بير، رئيس أمة أوسيج، في تصريح يعود إلى 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إن الفيلم قصة أمة أوسيج عن الثقة والخيانة كما أخرجه مارتن سكورسيزي. ويضيف ستاندنغ بير أن المرء يحتاج إلى معرفة أنها قصة حقيقية عن موت العديد من الأوسيج وتغير أشجار عائلات إلى الأبد، بالإضافة إلى تعريته الحقيقة. ويرى رئيس أمة أوسيج أن «قتلة قمر الأزهار» يشكل تحدياً للتاريخ حتى لا يتكرر.

وتحدثت جيانا سيكي، أميرة أمة أوسيج من 2021 - 2023، عن صعوبة التاريخ الذي يصوره «قتلة قمر الأزهار»، فهو يروي تاريخهم المظلم، كما تقول، بالإضافة إلى تضمنه أشياء وحقائق أخرى مجهولة لا يعرفها ولا يتكلم عنها أحد. و«أميرة أوسيج» لقب ممثلة أمة أوسيج في المعرض الهندي الأمريكي الذي يقام في أغسطس (آب) من كل عام في أناداركو في أوكلاهوما، ويستمر لمدة أسبوع. وتقول سيكي إنه بسبب تمثيله لأحداث لا تَرِدُ في أحاديث الناس، أو نادراً ما ترد، كان للفيلم تأثير عظيم حقاً.

مآخذ وانتقادات

كتابة جزء في المقالة لعرض انتقادات للفيلم من فنانين ونقاد وأكاديميين من السكان الأصليين، لا تعني بالضرورة أن تلك الانتقادات وردت منفصلةً دائماً في أحاديث وتصريحات ومقالات خالية من التقدير لسكورسيزي والإشادة بفيلمه. ولكنها (الانتقادات) كانت الملمح الغالب في السياقات التي وردت فيها. نقطة أخرى يتعين توضيحها، أيضاً، هي أنني أركز على عرض الانتقادات ووجهات النظر دون الإشارة إلى أصحابها، أي لا أذكر الأسماء والمصادر لكثرتها ولتعددها، وأكتفي بعرض الآراء المتكررة، التي شكلت نقاط تقاطع والتقاء لوجهات النظر بين نقاد الفيلم. أستثني منهم لِصِلَتِه المباشرة بالفيلم كونه ممن اشتغلوا عليه، كريستوفر كوت، مستشار لغة أوسيج لـ«قتلة قمر الأزهار».

في حديثة لـ«هوليوود ريبورتر» في 19 أكتوبر 2023، يشيد كوت بسكورسيزي لقيامه بعمل رائع في تصويره للاستغلال والجرائم اللذين تعرض لهما الأوسيج على يد الأميركان البيض. لكن الفيلم، حسب كوت، يقدم تاريخاً مروياً تقريباً من وجهة نظر إرنست بوركهات (ليوناردو دي كابريو)، الذي اجتمع فيه «الحب» لمولي مع المؤامرة، على نحو غير معقول ويصعب تصديقه، لأنه عندما يتآمر شخص على قتل عائلتك فإن ذلك ليس حباً، حسب كوت. ويذكر أنه كان يتمنى لو كان الفيلم يروي القصة من وجهة نظر مولي، ثم يستدرك قائلاً لكن هذا يتطلب مُخْرِجاً من أمة أوسيج. تبدو الممثلة ليلي غلادستون (مولي بوركهارت) وكأنها تَرُدُّ على كوت بقولها: «لا أحد سوف يُسَلِّم 200 مليون دولار لصانع أفلام من أوسيج» في حوار لمجلة «بريتيش فوغ».

غياب السياق التاريخي

وأشاد آخرون بالفيلم لإسقاطه الضوء على فترة حرجة من تاريخ أمة أوسيج بمشاركة ممثلين من السكان الأصليين، وفي الوقت ذاته، انتقدوا غياب السياق التاريخي فيه. فعلى الرغم من تصويره جرائم قتل حقيقية ووحشية بهدف رفع الوعي بالاضطهاد والعنف اللذين طالا المجتمعات «الهندية» الأميركية، فإنه يخلو من أي رسالة أو إشارة تلفت الانتباه إلى أن العنف الذي استهدف أمة أوسيج لم يكن بسبب الجشع الفردي فحسب، بل كان نتيجة الحط والاحتقار الممنهجين لقيمة حياة السكان الأصليين الذين يعيشون تحت نير الاستعمار. لم يكن عنف المستعمر الاستيطاني، بكل أنواعه وتجلياته، يستهدف أسرة واحدة أو قبيلة واحدة، بل طال مئات القبائل على امتداد القارة الأميركية، كما أن قصته لم تبدأ ولم تنته في العشرينات من القرن العشرين.

وامتداداً لفكرة إغفال السياق التاريخي للأحداث، أشار آخرون إلى أنه لا يولي اهتماماً كبيراً بتأسيس سياق الظروف التي لعبت دوراً في حدوث جرائم القتل؛ فسياسة الحكومة الفيدرالية للتخصيص وتكريس البيروقراطية جعلا الموارد الطبيعية المحلية متاحة لغير الأوسيج، وغير السكان الأصليين. ولا يتضمن، أيضاً، أي توضيح لكيفية اختيار وتعيين أوصياء من البيض على الأوسيج، وكيف استطاع أولئك الأوصياء سرقة ملايين الدولارات منهم. لقد أشرع قانون التخصيص 1906 الباب لدخول البيض إلى الأرض التي لم تعد محمية، وفي ظله دُشِّن نظام الأوصياء، فكان منهم المستغلون والسارقون والقتلة. ثمة اعتراف بأن «قتلة قمر الأزهار» يصورُ الأوصياء قتلةً، بيد أنه يخلو من أي تفسير لكيفية نشوء الظاهرة ودور الكونغرس فيها بتمريره قانون التخصيص. ويرى هؤلاء النقاد أن الفيلم غير دقيق في تصويره للتاريخ والنظام الذي أدى إلى حدوث الكارثة.

لم يكن عنف المستعمر الاستيطاني يستهدف قبيلةً واحدةً، بل طال مئات القبائل على امتداد القارة الأميركية

التنميط وبناء الشخصيات

بناء الشخصيات الأوسيجية أحد العناصر التي لفتت انتباه بعض نقاد الفيلم. تصف ناقدة وكاتبة مسرحية من أمة شيروكي أداء الممثلين بأنه مذهل للغاية؛ لكن تنتقد السيناريو لأنه لم يعطِ مولي بوركهارت المزيد من الفاعلية والعمق ومنحنى الشخصية «character arc»؛ فشخصيتها لم تتطور بشكل كامل مثل نظرائها. وعلق آخرون بأنه على الرغم من نجاح سكورسيزي في النأي عن الصورة النمطية أو ما يعرف بـ«هندي هوليوود»، فإنه لم يذهب بعيداً جداً، فشخصية مولي والشخصيات الأوسيجية الأخرى نمطية مقارنةً بالشخصيات البيضاء. وعبرت ناقدة من «أمة غيتسان» عن خيبة توقعاتها بأن يصور الفيلم أمة أوسيج كشعب لم يسقط بدون قتال، يدافعون عن أنفسهم، ولا ينتظرون منقذاً أبيض ليدافع عنهم.

و«قمر الأزهار/ the flower moon» الاسم الذي يطلقه شعب أوسيج وشعوب أصلية أخرى، في الولايات المتحدة وكندا، على «البدر» في شهر مايو (أيار) فقط وليس في كل الشهور، فلكل بدر من كل شهر اسمه الخاص. لذا من الممكن تسمية الفيلم «قتلة بدر الأزهار»، ويسمى مايو «قمر الأزهار» أيضاً. ففي 24 مايو 1921، بدأت مولي بوركهارت، من سكان بلدة مستوطنة أوسيج «غري هورس»، أوكلاهوما، تتوجس خيفة من حدوث شيء ما لإحدى شقيقاتها الثلاث (آنا براون). وأُفَضِّلُ «قتلة قمر الأزهار»، لدلالاته الثقافية، ترجمةً لعنوان الفيلم بدلاً من «قتلة زهرة القمر».

ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

الانفعال بين علم النفس والأدب

كتب توماس ديكسون

الانفعال بين علم النفس والأدب

كتاب صغير عن موضوع كبير. ففي نحو 150 صفحة من القطع الصغير، تحت عنوان «تاريخ الانفعالات: مدخل بالغ الإيجاز»

د. ماهر شفيق فريد
كتب غلاف موت صغير

لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

كان لترجمة الدكتورة، مارلين بوث، رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر» دور في تقوية اهتمام صغير لديّ؛ الاهتمام بتغيّر، أو ضياع العناوين الأصلية لبعض الروايات العربية

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون تمثال برونزي من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة

حامل الطير... تمثال برونزي من موقع «مليحة» الأثري

من موقع «مليحة» الأثري في إمارة الشارقة، خرجت مجموعة من القطع البرونزية المتعدّدة الأشكال والأنواع، منها تمثال برونزي من الحجم الصغير يمثّل شاباً فتياً

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الطفولة المهدرة والشباب الضائع في «ليالي الرقّة الحمراء»

الطفولة المهدرة والشباب الضائع في «ليالي الرقّة الحمراء»

صدرت حديثاً عن منشورات رامينا في لندن رواية «ليالي الرقّة الحمراء» للروائيّ الكرديّ السوريّ آلان كيكاني.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا

إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا

إن الكاتب العظيم الذي يعيش معزولاً ليس له سوى أن ينتظر الساعة التي يُرسل فيها إلى القبر.

حسونة المصباحي

جيرار دو نيرفال... عبقري على حافة الجنون

جيرار دو نيرفال
جيرار دو نيرفال
TT

جيرار دو نيرفال... عبقري على حافة الجنون

جيرار دو نيرفال
جيرار دو نيرفال

تقول لنا النظرية الحديثة في علم النفس والتحليل النفسي: العُصاب الجنوني هو الذي يصنع الكتاب الكبار والإبداع العبقري هو الذي يشفيه. العبقرية بهذا المعنى تعني الانتصار على الجنون الداخلي، أو ترويضه، أو تحجيمه. كان دوستيوفسكي قد قال لأخيه في رسالة مبكرة: عندي مشروع كبير؛ أن أصبح مجنوناً (أي عبقرياً). وبالفعل لو لم يستطع تأليف رواياته الهائلة كـ«الجريمة والعقاب» و«الإخوة كرامازوف» لكان قد جُنَّ نهائياً. وقل الأمر ذاته عن سلفادور دالي الذي أنقذته لوحاته الخارقة من الجنون. وقِسْ على ذلك... هذه هي المعادلة الجدلية، أو المعادلة الديالكتيكية، التي تربط بين العبقرية والجنون. معظم العباقرة الذين نسمع بأسمائهم ونُبجّلهم ونعظّمهم كانوا يعانون معاناة سيكولوجية هائلة تصل أحياناً إلى حافة الجنون. ولكن بضربة عبقرية خارقة كتأليف قصيدة، أو رواية، أو كتاب فلسفي نادر، استطاعوا التغلب عليها. بهذا المعنى كل عبقري مجنون بشكل من الأشكال ولكن ليس كل مجنون عبقرياً. فجنون المجانين لا يؤدي إلا إلى الهذيان الكامل ولا ينتج عنه أي شيء. إنه لا يؤدي إلى تأليف روائع أدبية كبرى كتلك التي أتحفنا بها شكسبير أو المتنبي أو جان جاك روسو الذي أوصلوه إلى حافة الجنون في أواخر حياته من كثرة الملاحقات والاضطهاد. كنت قد كرست فصلاً كاملاً لمعالجة هذه الإشكالية الكبرى في كتابي الأخير الصادر عن «دار المدى» بعنوان: «العباقرة وتنوير الشعوب».

والآن ماذا عن جيرار دو نيرفال الذي جُنَّ وانتحر في نهاية المطاف بعد أن أتحفنا بروائع أدبية خالدة؟ لم يستطع حتى الإبداع الخارق أن يحميه من السقوط في حمأة الجنون وجحيمه البهيم. وبالتالي فهو استثناء على القاعدة. ولكنه ليس الوحيد. هناك نيتشه أيضاً وهولدرلين وبعض الآخرين. نيرفال، هذا الرجل المسكين الطيب الذي احتقره عصره في القرن التاسع عشر بسبب متاعبه النفسية وفقره، راح القرن العشرون يرفعه إلى مصافِّ الكبار، بل كبار الكبار من أمثال بودلير، وفلوبير، وبلزاك، وفيكتور هيغو، وسواهم من المشاهير. بل إن بودلير ذاته كان مجهولاً في عصره إلى حد كبير ولم تنفجر شهرته كالقنبلة الموقوتة إلا بعد موته. وقد استشعر ذلك هو شخصياً عندما قال هذه العبارة الرائعة: شهرة ما بعد الموت تعنيني! ولكن على الأقل شهرة بودلير لم تتأخر نصف قرن أو قرناً كما حصل لجيرار دو نيرفال. هل نعلم مثلاً أن غوستاف لانسون، أستاذ طه حسين في السوربون وأشهر ناقد أدبي فرنسي في مطلع القرن العشرين، لم يذكره إلا في هامش صغير في أسفل الصفحة؟ كان مارسيل بروست أحد الأوائل -والقلائل- الذين عرفوا أهمية جيرار دو نيرفال. كان أول من أدرك قيمته داخل الأدب الفرنسي وربما العالمي. وكان أول من أطلق عليه لقب: عبقري! كان ذلك في بدايات القرن العشرين. ولكن لم يستمع أحد لصوت مارسيل بروست صاحب الرواية الخالدة: بحثاً عن الزمن الضائع. لم يكن قد آن الأوان لكي يعرف الناس من هو جيرار دو نيرفال...

والحقيقة هي أن الفضل في اكتشافه وإعطائه المكانة التي يستحقها على قمة الأدب الفرنسي تعود إلى السرياليين. ولو لم يكن لهم إلا هذه الميزة لكفاهم ذلك فخراً. صحيح أن الشاعر أبولينير قال عنه عام 1911 هذه العبارة اللافتة: «إنسان رائع. لو تعرفت عليه لأحببته كأخ، كشقيق»... ولكنّ أندريه بريتون، زعيم السرياليين، هو الذي خطا الخطوة الحاسمة في اتجاه الاعتراف بأهمية جيرار دو نيرفال. يقول عنه عام 1924 في المانيفست الشهير للحركة السريالية:

«كان بإمكاننا أن نستعمل مصطلح ما فوق الطبيعية بدلاً من مصطلح ما فوق الواقعية: أي السريالية في اللغة الفرنسية. والمعنى واحد في نهاية المطاف. لقد سبقنا جيرار دو نيرفال إلى اختراع السريالية الواردة في كتابه: بنات النار.

ينبغي أن نعترف بذلك. إنه الرائد الأول بالنسبة لنا. فالواقع أن نيرفال كان يمتلك الروح التي تهمنا والتي ننسب أنفسنا إليها: عنيت الروح الهذيانية السريالية، أو روح ما فوق الواقع، ما فوق الطبيعة والطبيعية. هناك عالم آخر فوق هذا العالم التافه البليد الذي نعيشه: إنه العالم السريالي الرائع. إنه أجمل وأبهى بألف مرة من جحيم الواقع الأرضي». بهذا المعنى...

يقول الناقد ريمون جان إن موقف السرياليين من جيرار دو نيرفال كان معقداً. فهو يتراوح بين الإعجاب العقائدي به، والانبهار بالتجربة المعيشة للجنون. السرياليون كانوا مهووسين بالجنون، كانوا يحبونه، يقدسونه. كانوا يعدّونه مرادفاً للإبداع العبقري. لا إبداع بلا جنون خارق. نقول ذلك ونحن نعلم أن جيرار دو نيرفال قد عرف هذه التجربة الجنونية واكتوى بحرِّ نارها. والدليل على ذلك أنه دخل المصحَّ العقلي أكثر من مرة. وبين كل إقامتين في مستشفى المجانين كان يُنتج رائعة أدبية، عبقرية. وربما لم يكن انتحاره وهو في الثامنة والأربعين إلا تتويجاً لتجربة الجنون. فقد وصل به التأزم النفسي إلى درجة لا تُحتمل ولا تُطاق فقرر أن يضع حداً لحياته. وشنق نفسه على عمود كهرباء في ساحة الشاتليه وسط العاصمة الفرنسية. مهما يكن من أمر فإن السرياليين أعطوا نقطة الانطلاق للاعتراف بجيرار دو نيرفال بوصفه كاتباً كبيراً. وقد وصل الأمر ببول إيلوار إلى حد الانبهار بعبارته التي تقول: «الطقس رائع إلى درجة أننا لا نستطيع أن نلتقي أو يقبِّل بعضنا بعضاً في البيوت. لنخرج فوراً»!

ينبغي في هذا الصدد أن نطَّلع على ما كتبه عنه الناقد الكبير شارل مورون في كتابه المرجعي الأساسي: «من المجازات الهلوسية إلى الأسطورة الشخصية- مدخل إلى النقد التحليلي النفسي». فهذا الناقد المهمَل عندنا لأننا لا نعرف غير رولان بارت الذي بلور نظرية كاملة متكاملة عن الإبداع الأدبي العبقري. وإذا كنت قد فهمته جيداً فإنه يريد أن يقول ما يلي: كل شاعر كبير يكون مهووساً حتماً ببعض العُقد النفسية. وينعكس هوسه هذا على كتاباته الإبداعية بطبيعة الحال. ويتجلى هذا الهوس في نوعية المجازات الإبداعية الرائعة التي يبتكرها والتي تتكرر بأشكال مختلفة على مدار أعماله. وبالتالي فلكي نفهم هذا الشاعر، لكي ننْفذ إلى عالمه الحقيقي، ينبغي أن نستخلص هذه المجازات اللغوية الإبداعية الخارقة من كل مؤلفاته من أولها إلى آخرها. ينبغي أن نفرزها فرزاً وأن ندرسها عن كثب لكي نتوصل إلى معرفة الأسطورة الشخصية التي تكمن وراءها، أي لكي نتعرف على شخصيته الحقيقية العميقة. فبودلير مثلاً كان مهووساً بأشياء محددة، وقد انعكس هذا الهوس على موضوعاته الشِّعرية ومجازاته اللغوية وصياغاته التعبيرية التي تسحرنا حتى اللحظة. وشكَّل هذا الهوس عالماً بأسره هو عالم شارل بودلير. وهو يختلف عن عوالم كل الشعراء الآخرين. ورامبو أيضاً كان مهووساً بأشياء أخرى، وقِسْ على ذلك... الشاعر الكبير هو وحده القادر على اختراع مجازات وعلاقات لغوية خارقة لم يعرفها تاريخ الشِّعر من قبل. من هنا جاذبيته التي لا تقاوم.

لكنَّ هوس نيرفال كان من النوع الثقيل جداً من الناحية النفسية وكان يضغط عليه أحياناً إلى حد الشلل. وقد سخر بعض الأصدقاء منه ومن جنونه بشكل ودود ومحب فتأثر كثيراً وقال ما معناه: يصعب عليَّ أن تروني مجنوناً. لم أعد أستطيع تقديم نفسي إلى أي مجلس. لم أعد أستطيع أن أتزوج أو أن أجد امرأة تقبل بي. بل لم أعد أستطيع أن أُقنع الآخرين بأن يُصغوا إليَّ بشكل جدي عندما أتحدث. مَن يستمع إلى مجنون؟ لقد فقدت هيبتي واحترامي في أعين الناس. وربما تخليت عن هذه المهنة التعيسة: مهنة الكتابة. لم يعد لي أمل بأي شيء. لقد انتهيت أنا، انتهيت...».

هذا القلق المرعب الذي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً هو الذي زعزع شخصيته وأفقده هيبته وأدى به إلى الانتحار في نهاية المطاف. ولكن قبل أن ينتحر كتب هذه القصيدة:

شاهدة على قبر

لقد عاش أحياناً فرحاً مرحاً كزرزور

أحياناً عاشقاً خليَّ البال حنوناً

وأحياناً مكفهراً حالماً كطائر حزين

حتى سمع في يوم من الأيام دقاً على الباب

×××

إنه الموت! لقد جاء ملاك الموت. فترجاه أن ينتظر قليلاً

حتى يكون قد وضع اللمسة النهائية على قصيدته الأخيرة

ثم من دون أي تأثر أو انفعال راح يتمدد

في أعماق الصندوق البارد حيث يرتجف جسده

×××لقد كان كسولاً حسبما تقول الرواية

كان يترك الحبر ينشف كثيراً في المحبرة

كان يريد أن يعرف كل شيء

ولكنه جاء وراح ولم يعرف شيئاً

×××وعندما حانت اللحظة حيث متعباً من هذه الحياة

قُبضت روحه في أمسية شتائية

رحل وهو يقول: لماذا جئت إلى هذا العالم؟ الشاعر الكبير هو وحده القادر على اختراع مجازات وعلاقات لغوية خارقة لم يعرفها تاريخ الشِّعر من قبل