الخطيبي... تخلص مبكراً من الآيديولوجيا ورفض دور «المثقف المعارض»

15 عاماً على رحيل صاحب «المغرب أفقاً للفكر»

عبد الكبير الخطيبي
عبد الكبير الخطيبي
TT

الخطيبي... تخلص مبكراً من الآيديولوجيا ورفض دور «المثقف المعارض»

عبد الكبير الخطيبي
عبد الكبير الخطيبي

في أكثر من مرة، أشار عبد الكبير الخطيبي المولود في مدينة الجديدة، في الحادي عشر من شهر فبراير (شباط) 1938، المتوفَّى في الرباط، في السادس عشر من مارس (آذار) 2009، إلى أنه أقبل على القراءة مُبكراً؛ ففي مراكش، في مبيت المعهد حيث كان يَدْرُسُ، كان يَسْتعين بضوء مصباح كهربائي صغير ليغرق في قراءة أمّهات الكتب من مختلف الثقافات، الكلاسيكية والحديثة. ومرة عثر على مجموعة من قصائد «الهايكو» اليابانية، ففُتِن بها لتحرّضه على الإقبال على قراءة الأدب الياباني شعراً ونثراً. وفيما بعد، اهتمّ بالروائي الياباني الكبير تانيزاكي، مُخصصاً الجزء الأكبر من دراسته لكتابه «مديح الظل» الذي فيه يستعرض أهمّ خصائص الحضارة اليابانية قبل أن تُشوّهها الحضارة المادية والاستهلاكية الجديدة.

ذلك التكوين الصلب، والنّهل من مصادر ثقافية وفكرية وفلسفية وأدبية مختلفة ومتنوعة، حرّرا عبد الكبير الخطيبي من طغيان التأثيرات الفرنسية في كتاباته، وفي توجّهاته، وفي اختياراته، وجعلاه يُحلّق خارج سرب الكتّاب المغاربة الناطقين بالفرنسية، أولئك الذين يتوهّمون أن الثقافة الفرنسية هي «ثقافة العالم»، وأن اللغة الفرنسية «تسمو» على كل اللغات الأخرى، ليكونوا في النهاية «مُقلّدين» لا مبدعين وخلاّقين. لذلك تمكن عبد الكبير الخطيبي من فتْح آفاق مجهولة، ومن ابتكار طرق غير مسبوقة في الكتابة، وفي التفكير بالنسبة لأبناء جيله ليكون «مُفرداً»، و«نادراً».

كما تخلّص الخطيبي مُبكراً من أوهام الآيديولوجيات التي إليها انجذب جُلّ مثقفي جيله. لذا رفض منذ بداية مسيرته الأدبية والفكرية أن يلعب دور المثقف «المعارض»، أو «المنفي»، مُبتعداً عن كل التيارات التي تسعى لجره إلى العمل السياسي. وعندما كان المثقفون في بلاده يتبارون في استعراض معارفهم بخفايا «الصراع الطبقي»، وبمعاني «البنية الفوقيّة»، و«البنية التحتيّة»، مُعتقدين أن التحوّلات الجذريّة في مجتمعاتهم لا يمكن أن تحدث إلاّ عبر ثورة شبيهة بالثورة البلشفية، أو الثورة الصينية، أو الثورة الكوبية، كان هو «يحفر» في مجالات أخرى لفهم المجتمع المغربي... وهي مجالات تتصل بالأمثال، وبالوشم، وبالخط العربي، وبالخرافات والحكايات التي تعكس المخيال الشعبي في أروع وأبهى تجلياته... ومن خلال ذلك كان عبد الكبير الخطيبي يسعى إلى التعرف على طبيعة مجتمعه الرازح تحت أثقال من الجهل والتحجر والتزمت والانغلاق. وهو مجتمع لا يمكن أن يخرج من الظلام إلى النور إلاّ باكتساب المناعة ضدّ أمراضه وعُقَدِه، وبالكشف عن خاصياته، وعن هويته المطموسة، وعن تاريخه المُزوّر والمُغيّب.

غير أن كل هذا لا يعني أن عبد الكبير الخطيبي ينفر من الخوض في السياسة، وقضاياها الشائكة والمعقّدة، بل هو يعتبر نفسه «مُلتزما نظريّاً»، و«بشكل راديكالي»، بقضايا يعلم جيداً أنه يمكن أن يكون فاعلاً ومؤثراً فيها. لذلك هو لم ينقطع طوال مسيرته عن الدفاع عما سمّاه بـ«المغرب المتعدّد»، وهو يعني بذلك بلدان المغرب العربي الثلاثة، أي تونس، والجزائر، والمغرب. ومُدركاً أن الثقافة «توحّد»، و«تُجَمّعُ»، عكس السياسة التي «تفرّق»، و«تشتت». دأب على دعم ومساندة كل سعْي، وكل نشاط، وكل شيء آخر يُساهم في توثيق العلاقات الثقافية والفكرية والفنية بين البلدان الثلاثة، مُؤكداً في كل مرة على أن هذه البلدان يجمع بينها تاريخ واحد ومصير واحد. لذا فإنه لن يكون لها مستقبل إذا ما سلّمت أمرها لسياسيين بلا رؤى واضحة، وبلا مشاريع تاريخية...

أول لقاء لي بعبد الكبير الخطيبي كان في خريف عام 1983 بباريس، وبمقهى «كلوني» الواقع في زاوية التقاطع بين جادة «سان ميشال»، وجادة «سان - جارمان - دو بريه». كان آنذاك عائداً من استوكهولم حيث أمضى الصيف ليصدر فيما بعد رواية بعنوان «صيف في استوكهولم» فيها يروي قصة حب عاصفة قد يكون عاشها هو نفسه. وفي تلك الظهيرة المشرقة بأنوار خريف بديع، بدا بحيوية شاب شرع للتوّ في تذوّق ملذّات الحياة... في البداية، قال لي باسماً: «منذ سنوات انقطعت عن التدريس، ربما لأنني شعرتُ بأنه يتوجب عليَّ أن أتعلم من الحياة من جديد، حتى لا أصاب بالتحنّط والتكلس والجمود... والآن أنا أتمتع بحرية تسمح لي بأن أسافر، وبأن ألتقي بشعراء وفنانين ومفكرين يشيع في نفسي الحوار معهم حيوية ونشاطاً أحتاج إليهما للتجدد... التدريس يجبرني على أن أكرر نفسي، وأعيد الأفكار ذاتها التي كنتُ قد استعرضتها قبل سنة أو سنتين، أو أكثر من ذلك... لذا انسحبتُ من التدريس لأهتمّ فقط بقسم الدراسات والبحوث في جامعة الرباط»... صمت قليلاً، ثم أضاف: «قبل أيام قليلة عدتُ من استوكهولم... عشت هناك تجربة عاطفية وروحية ومعرفية مُهمّة للغاية... وأنا سعيد بذلك أيما سعادة».

قلت له: «أنت تحظى بشهرة كبيرة هنا في فرنسا... وبشهادة كبار مفكريها ونقادها، أنت مِن أفضل مَن يكتبون بلغتها... لذا يمكنك أن تكون أستاذاً في أي جامعة مرموقة هنا في باريس... فلماذا إذن تحب أن تعيش وتعمل في المغرب؟

أجابني قائلاً: «وهل سأكون مفيداً هنا؟ فرنسا عندها كتّابها ومفكروها وشعراؤها... وإذن أي دور سيكون لي فيها؟ وأنت تعلم أني كتبتُ أكثر من مرة عما أسمّيه بـ«التحرر الثقافي والفكري»؛ إذ لا يكفي أن يتخلص المغرب أو بلد آخر من الاستعمار، بل عليه أن يتخلص أيضاً من التبعية الثقافية والفكرية لتكون له هويته الخاصة به، ولكي يتمكن من الخروج من ظلمات الجهل والتخلف والانغلاق... وهذا التحرر الذي أطمح إليه، لا بد أن يتمّ على يد أبناء بلدي. لذا يتحتم عليَّ أن أكون مُشاركاً، وفاعلاً فيه... وأنا عدتُ إلى المغرب سنة 1963. ومنذ البداية ساهمت بقوة وبحماس في الحركة الثقافية هناك... وهنا أشدّد على كلمة «ثقافية» لكي أؤكد على أنني حرصت على أن تكون أعمالي ونشاطاتي بعيدة عن الصخب السياسي والآيديولوجي. غير أن ذلك لم يمنعني من أن أكون أحد المؤسسين لنقابة التعليم العالي. وفي تلك المرحلة كنت أبحث عن نفسي. لذا كانت كل جوانب الحياة في المغرب تستثير اهتمامي في البحث، وفي الكتابة».

سألته: كيف تحدّدُ إذن دور المثقف؟ فردّ عليَّ قائلاً: «المثقف هو المُتَلَقّي والمُبْرقُ لدلالات عصره، هذا إذا لم يكنْ هو نفسه مُبدعاً ومُبتكراً. سواء كان مُحافظاً، أم مُصلحاً، أو مُخْتَرعاً، فإن المثقف يؤدي وظائف مُتعددة بدرجات مختلفة من القوة والحماس والمثابرة... والحقيقة أني ملتزم جداً في كل ما أفعل، وفي كل ما أقدمه للقراء... غير أن الالتزام بالنسبة لي حتى وإن هو احتفظ بمعناه، كما حدده سارتر، يعني أساساً تحويل كل ما أشعر به، وما أفكر فيه، إلى شكل ما في الأدب، وفي الكتابة عموماً».

ومُلخِّصاً طريقته في التفكير، قال الخطيبي إنه يبدأ أولاً بـ«مراجعة» جملة من العلاقات، أوّلها العلاقة مع الجسد لكي لا يكون في النهاية مجرد مصدر للخطيئة وللشر، بل قوة خلاقة، ومنبعاً ومَصبّاً للرغبات. وأما العلاقة الثانية فهي مع المقدَّس حتى ننزع عنه كل ما يفصله عن الأرض لينعكس بذلك في المعمار، وفي الفنون، وفي التعابير الصوفية حيث اللامرئي يتوالد في المرئي. وفي النهاية، هناك العلاقة مع اللغة لكي تتخلص من انغلاقها على نفسها، ولكي تنفتح على اللغات الأخرى، ومعها تتحاور، وتتجاوب، لكي يكون الاختلاف هو المثْري والمغذي لها».

* كاتب تونسي


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.