الخطيبي... تخلص مبكراً من الآيديولوجيا ورفض دور «المثقف المعارض»

15 عاماً على رحيل صاحب «المغرب أفقاً للفكر»

عبد الكبير الخطيبي
عبد الكبير الخطيبي
TT

الخطيبي... تخلص مبكراً من الآيديولوجيا ورفض دور «المثقف المعارض»

عبد الكبير الخطيبي
عبد الكبير الخطيبي

في أكثر من مرة، أشار عبد الكبير الخطيبي المولود في مدينة الجديدة، في الحادي عشر من شهر فبراير (شباط) 1938، المتوفَّى في الرباط، في السادس عشر من مارس (آذار) 2009، إلى أنه أقبل على القراءة مُبكراً؛ ففي مراكش، في مبيت المعهد حيث كان يَدْرُسُ، كان يَسْتعين بضوء مصباح كهربائي صغير ليغرق في قراءة أمّهات الكتب من مختلف الثقافات، الكلاسيكية والحديثة. ومرة عثر على مجموعة من قصائد «الهايكو» اليابانية، ففُتِن بها لتحرّضه على الإقبال على قراءة الأدب الياباني شعراً ونثراً. وفيما بعد، اهتمّ بالروائي الياباني الكبير تانيزاكي، مُخصصاً الجزء الأكبر من دراسته لكتابه «مديح الظل» الذي فيه يستعرض أهمّ خصائص الحضارة اليابانية قبل أن تُشوّهها الحضارة المادية والاستهلاكية الجديدة.

ذلك التكوين الصلب، والنّهل من مصادر ثقافية وفكرية وفلسفية وأدبية مختلفة ومتنوعة، حرّرا عبد الكبير الخطيبي من طغيان التأثيرات الفرنسية في كتاباته، وفي توجّهاته، وفي اختياراته، وجعلاه يُحلّق خارج سرب الكتّاب المغاربة الناطقين بالفرنسية، أولئك الذين يتوهّمون أن الثقافة الفرنسية هي «ثقافة العالم»، وأن اللغة الفرنسية «تسمو» على كل اللغات الأخرى، ليكونوا في النهاية «مُقلّدين» لا مبدعين وخلاّقين. لذلك تمكن عبد الكبير الخطيبي من فتْح آفاق مجهولة، ومن ابتكار طرق غير مسبوقة في الكتابة، وفي التفكير بالنسبة لأبناء جيله ليكون «مُفرداً»، و«نادراً».

كما تخلّص الخطيبي مُبكراً من أوهام الآيديولوجيات التي إليها انجذب جُلّ مثقفي جيله. لذا رفض منذ بداية مسيرته الأدبية والفكرية أن يلعب دور المثقف «المعارض»، أو «المنفي»، مُبتعداً عن كل التيارات التي تسعى لجره إلى العمل السياسي. وعندما كان المثقفون في بلاده يتبارون في استعراض معارفهم بخفايا «الصراع الطبقي»، وبمعاني «البنية الفوقيّة»، و«البنية التحتيّة»، مُعتقدين أن التحوّلات الجذريّة في مجتمعاتهم لا يمكن أن تحدث إلاّ عبر ثورة شبيهة بالثورة البلشفية، أو الثورة الصينية، أو الثورة الكوبية، كان هو «يحفر» في مجالات أخرى لفهم المجتمع المغربي... وهي مجالات تتصل بالأمثال، وبالوشم، وبالخط العربي، وبالخرافات والحكايات التي تعكس المخيال الشعبي في أروع وأبهى تجلياته... ومن خلال ذلك كان عبد الكبير الخطيبي يسعى إلى التعرف على طبيعة مجتمعه الرازح تحت أثقال من الجهل والتحجر والتزمت والانغلاق. وهو مجتمع لا يمكن أن يخرج من الظلام إلى النور إلاّ باكتساب المناعة ضدّ أمراضه وعُقَدِه، وبالكشف عن خاصياته، وعن هويته المطموسة، وعن تاريخه المُزوّر والمُغيّب.

غير أن كل هذا لا يعني أن عبد الكبير الخطيبي ينفر من الخوض في السياسة، وقضاياها الشائكة والمعقّدة، بل هو يعتبر نفسه «مُلتزما نظريّاً»، و«بشكل راديكالي»، بقضايا يعلم جيداً أنه يمكن أن يكون فاعلاً ومؤثراً فيها. لذلك هو لم ينقطع طوال مسيرته عن الدفاع عما سمّاه بـ«المغرب المتعدّد»، وهو يعني بذلك بلدان المغرب العربي الثلاثة، أي تونس، والجزائر، والمغرب. ومُدركاً أن الثقافة «توحّد»، و«تُجَمّعُ»، عكس السياسة التي «تفرّق»، و«تشتت». دأب على دعم ومساندة كل سعْي، وكل نشاط، وكل شيء آخر يُساهم في توثيق العلاقات الثقافية والفكرية والفنية بين البلدان الثلاثة، مُؤكداً في كل مرة على أن هذه البلدان يجمع بينها تاريخ واحد ومصير واحد. لذا فإنه لن يكون لها مستقبل إذا ما سلّمت أمرها لسياسيين بلا رؤى واضحة، وبلا مشاريع تاريخية...

أول لقاء لي بعبد الكبير الخطيبي كان في خريف عام 1983 بباريس، وبمقهى «كلوني» الواقع في زاوية التقاطع بين جادة «سان ميشال»، وجادة «سان - جارمان - دو بريه». كان آنذاك عائداً من استوكهولم حيث أمضى الصيف ليصدر فيما بعد رواية بعنوان «صيف في استوكهولم» فيها يروي قصة حب عاصفة قد يكون عاشها هو نفسه. وفي تلك الظهيرة المشرقة بأنوار خريف بديع، بدا بحيوية شاب شرع للتوّ في تذوّق ملذّات الحياة... في البداية، قال لي باسماً: «منذ سنوات انقطعت عن التدريس، ربما لأنني شعرتُ بأنه يتوجب عليَّ أن أتعلم من الحياة من جديد، حتى لا أصاب بالتحنّط والتكلس والجمود... والآن أنا أتمتع بحرية تسمح لي بأن أسافر، وبأن ألتقي بشعراء وفنانين ومفكرين يشيع في نفسي الحوار معهم حيوية ونشاطاً أحتاج إليهما للتجدد... التدريس يجبرني على أن أكرر نفسي، وأعيد الأفكار ذاتها التي كنتُ قد استعرضتها قبل سنة أو سنتين، أو أكثر من ذلك... لذا انسحبتُ من التدريس لأهتمّ فقط بقسم الدراسات والبحوث في جامعة الرباط»... صمت قليلاً، ثم أضاف: «قبل أيام قليلة عدتُ من استوكهولم... عشت هناك تجربة عاطفية وروحية ومعرفية مُهمّة للغاية... وأنا سعيد بذلك أيما سعادة».

قلت له: «أنت تحظى بشهرة كبيرة هنا في فرنسا... وبشهادة كبار مفكريها ونقادها، أنت مِن أفضل مَن يكتبون بلغتها... لذا يمكنك أن تكون أستاذاً في أي جامعة مرموقة هنا في باريس... فلماذا إذن تحب أن تعيش وتعمل في المغرب؟

أجابني قائلاً: «وهل سأكون مفيداً هنا؟ فرنسا عندها كتّابها ومفكروها وشعراؤها... وإذن أي دور سيكون لي فيها؟ وأنت تعلم أني كتبتُ أكثر من مرة عما أسمّيه بـ«التحرر الثقافي والفكري»؛ إذ لا يكفي أن يتخلص المغرب أو بلد آخر من الاستعمار، بل عليه أن يتخلص أيضاً من التبعية الثقافية والفكرية لتكون له هويته الخاصة به، ولكي يتمكن من الخروج من ظلمات الجهل والتخلف والانغلاق... وهذا التحرر الذي أطمح إليه، لا بد أن يتمّ على يد أبناء بلدي. لذا يتحتم عليَّ أن أكون مُشاركاً، وفاعلاً فيه... وأنا عدتُ إلى المغرب سنة 1963. ومنذ البداية ساهمت بقوة وبحماس في الحركة الثقافية هناك... وهنا أشدّد على كلمة «ثقافية» لكي أؤكد على أنني حرصت على أن تكون أعمالي ونشاطاتي بعيدة عن الصخب السياسي والآيديولوجي. غير أن ذلك لم يمنعني من أن أكون أحد المؤسسين لنقابة التعليم العالي. وفي تلك المرحلة كنت أبحث عن نفسي. لذا كانت كل جوانب الحياة في المغرب تستثير اهتمامي في البحث، وفي الكتابة».

سألته: كيف تحدّدُ إذن دور المثقف؟ فردّ عليَّ قائلاً: «المثقف هو المُتَلَقّي والمُبْرقُ لدلالات عصره، هذا إذا لم يكنْ هو نفسه مُبدعاً ومُبتكراً. سواء كان مُحافظاً، أم مُصلحاً، أو مُخْتَرعاً، فإن المثقف يؤدي وظائف مُتعددة بدرجات مختلفة من القوة والحماس والمثابرة... والحقيقة أني ملتزم جداً في كل ما أفعل، وفي كل ما أقدمه للقراء... غير أن الالتزام بالنسبة لي حتى وإن هو احتفظ بمعناه، كما حدده سارتر، يعني أساساً تحويل كل ما أشعر به، وما أفكر فيه، إلى شكل ما في الأدب، وفي الكتابة عموماً».

ومُلخِّصاً طريقته في التفكير، قال الخطيبي إنه يبدأ أولاً بـ«مراجعة» جملة من العلاقات، أوّلها العلاقة مع الجسد لكي لا يكون في النهاية مجرد مصدر للخطيئة وللشر، بل قوة خلاقة، ومنبعاً ومَصبّاً للرغبات. وأما العلاقة الثانية فهي مع المقدَّس حتى ننزع عنه كل ما يفصله عن الأرض لينعكس بذلك في المعمار، وفي الفنون، وفي التعابير الصوفية حيث اللامرئي يتوالد في المرئي. وفي النهاية، هناك العلاقة مع اللغة لكي تتخلص من انغلاقها على نفسها، ولكي تنفتح على اللغات الأخرى، ومعها تتحاور، وتتجاوب، لكي يكون الاختلاف هو المثْري والمغذي لها».

* كاتب تونسي


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.