«ميتاليبسيس»... من البلاغة إلى النظرية وعلم السرد عبر الوسائطي

دوريت كوهن
دوريت كوهن
TT

«ميتاليبسيس»... من البلاغة إلى النظرية وعلم السرد عبر الوسائطي

دوريت كوهن
دوريت كوهن

في نهاية «حلقة كوغلاس، 1977» قصة المخرج وودي ألن، يظهر سيدني كوغلاس وهو يركض في كتاب مدرسي قديم «Remedial Spanish» هارباً من «فعل غير قياسي» (يمتلك/ tener) ضخم ومُشَعِّر. نهاية مضحكة لمحاولة هروب ثانية فاشلة.

البروفسور كوغلاس أستاذ الإنسانيات في «سيتي كولج» في نيويورك يعيش حياة زوجية ثانية غير سعيدة ومملة، كحياته الزوجية السابقة بسبب زوجته الثانية دافني، بطيئة الفهم والضخمة، وطفليه «التنبلين»، وتكاليف النفقة والإعالة.

تلك العوامل جعلته يبحث عن امرأة جديدة لحاجته إلى علاقة غرامية، كما قال للطبيب النفسي الذي اعتذر بأنه محلل وليس ساحراً. فبدأ كوغلاس يبحث عن ساحر، فالتقى بالساحر بيرسكي. استطاع بيرسكي أن يحقق له ما يتمناه، امرأة فرنسية، بإدخاله في خزانته السحرية وقذف الرواية «مدام بوفاري» في جوفها، لتنقل كوغلاس من عالمه إلى عالم رواية غوستاف فولبير، حيث يلتقي بـ«إيما بوفارى» ويغويها.

ويظل كوغلاس يتردد دخولاً في عالم «مدام بوفارى» وخروجاً منه إلى عالمه «نيويورك». لاحظ من قرأوا الرواية، أثناء لقاءات العاشقين، وجود (إيما) بصحبة رجل يدعى (كوغلاس) وله صفاته نفسها؛ يظهر في يونفيل بعد كل مرة تنقله الخزانة السحرية إليها، ويختفي عندما يعود إلى نيويورك.

بعد أشهر من اللقاءات، توافق (إيما) على الذهاب معه إلى نيويورك القرن العشرين. لم تدم إقامتها طويلاً في نيويورك، لاتفاق العاشقين على الافتراق وعودتها إلى يونفيل بسبب التكلفة المرتفعة لإقامتها في فندق، ولعدم حصولها على وظيفة، وصعوبة الحياة الحديثة، كما أن كوغلاس يخشى من أن يفضح أستاذ الأدب المقارن فيفيش كوبكِند علاقته بها عند زوجته دافني. فكوبكِند يغار منه دائماً، وقد ميّزهُ وعرف أنه الرجل الذي يظهر مع إيما بوفاري.

في تجربة الهروب الثانية من حياته الزوجية مع دافني، ينتهى كوغلاس عن طريق الخطأ في الكتاب المدرسي «Remedial Spanish»، ليطارده الفعل غير القياسي الضخم والمشعر.

ومثل قصة ألِن، يتألف المتن الحكائي في «استمرارية الحدائق، 1964» للروائي والقاص الأرجنتيني خوليو كورتزار من حكايتين: الحكاية الإطار/المُؤطِرَّة «frame narrative»، والحكاية المُؤَطَرَّة «framed narrative». في القصة الإطار، رجل يقرأ الفصول الأخيرة من رواية بدأ قراءتها قبل أيام قليلة، ويشهد لقاء العاشقين البطل والبطلة في كابينة في الجبل، وتآمرهما على قتل رجل. يفترق العاشقان بعدما يعقدان العزم على تنفيذ الجريمة، تسلك المرأة الطريق المؤدية إلى الشمال، ويتسلل عشيقها إلى بيت الرجل الذي يقرأ الرواية ويقتله.

يبدو أن تلخيص القصتين أطول مما ينبغي، ومع ذلك لا أميل إلى تقليصه لإيجاد مساحة لما سأكتبه تالياً. وبدلاً من الانشغال بطوله أو قصره، ينبغي المسارعة إلى الكتابة أن كلمة واحدة «ميتاليبسيس/ مِتالِبْسِس/metalepsis» هي الجواب عن السؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان عن العلاقة والمُشْترك الرئيس بين القصتين. أما غير المشترك فهو أن القصة الثانية «استمرارية الحدائق» أكثر شهرة من الأولى. لا أتصور أحداً يقرأ مقالةً أو كتاباً عن ميتاليبسيس دون أن يلتقي بذكر أو إشارة لتلك القصة، ومرد ذلك إلى أنها أحد النصوص التي أشار إليها جيرار جينيت في سياق تنظيره وتعريفه لميتاليبيس في كتابه «الخطاب السردي 1972، 1980». لقد نقل جينيت المصطلح من البلاغة إلى نظرية السرد، وصاحب النقل أوحدث نتيجة له انزياح في المعنى، وفي الوظيفة أو الوظائف أيضاً.

ميتاليبسيس: التعريف

يُعَرِّف ُجينيت «ميتاليبسيس» بأنها أي اقتحام/ تَدَخُلْ يقوم به السارد من الخارج أو المسرود له في عالم القصة «diegesis»؛ أو أن تنتهك شخصية من عالم الحكاية الإطار «frame narrative» الحدّ الفاصل بين عالمها وعالم الحكاية المُؤَطّرَّة، كما يفعل كوغلاس في دخوله عالم القصة في رواية فولبير، أو العكس بأن تقفز شخصية من عالم حكاية مُؤَطَرَّة إلى داخل عالم حكاية مُؤَطِرّة كما في قصة «استمرارية الحدائق»، عندما يتسلل العاشق الذي سيصبح قاتلاً إلى داخل منزل الرجل الذي يقرأ الرواية ليقتله. مثال آخر، تتخطى إيما بوفاري الحدود بين عالمها لتدخل في عالم الحكاية الإطار-حكاية كوغلاس.

ميتاليبسيس عملية موجودة في حقول مختلفة، يقول جون بيير؛ تنتج حسب جينيت أثر الغرابة الذي إما أن يكون هزلياً أو فنتازيا.

بعض التعريفات... بعض التصنيفات

جينيت لم ينقل المصطلح «ميتاليبسيس» من البلاغة إلى نظرية السرد فحسب، بل منحه حياة ووظائف جديدة، يتجلى أثر ذلك في إقبال منظري وعلماء السرد على صياغة تعريفات وتصنيفات متعددة لتقنياتها وآثارها، واستكشاف أنواع جديدة منها واتساع مجال دراسة تمظهراتها التي لم تعد تقتصر على الأدب السردي. متياليبسيس في كل مكان كما قال جينيت في موضع لا أتذكره. وتحظى باهتمام علماء السرد بمختلف حقول اشتغالاتهم، خصوصاً في مجالي علم السرد عبر الأجناسي «Transgeneric Narratology»، وعلم السرد عبر الوسائطي «Transmedial Narratology».

جِف ثوس

يُعَرّف جف ثوس «ميتاليبسيس» في كتابه «عندما تتصادم عوالم القصص، 2015» بأنها انتهاك لوضع عالم القصة المستقل؛ انتهاك متناقض للخط الذي يفصل داخل عالم القصة عن خارجه. ويحدد ثلاثة نماذج أولية من ميتاليبسيس تنضوي تحت تعريفه: انتهاكات بين عالم قصة وعالم خيالي آخر؛ انتهاكات بين عالم قصة والواقع، وانتهاكات بين عالم قصة والخطاب الذي يقدمه.

ويرى أن ميتاليبسيس تنطوي دائماً على عالم قصة وتؤثر عليه. ويُفهمُ عالم القصة ببساطة بأنه عالم مسرود. وأن الحدود بين هذا العالم وشيء ما آخر، الخط الفاصل بين ما في داخله وخارجه، هو ما تتجاوزه وتنتهكه ميتاليبسيس. ويتطلب حدوث هذا الانتهاك تصور أن عوالم القصص مستقلة وقائمة بذاتها في المقام الأول. هذه هي الطريقة التي يعمل بها السرد تقليدياً... وبغض النظر عن مدى التشابه بين عالم القصة والواقع، فإن الأول ينتمي دائماً إلى عالم الخيال، وبالتالي يمتلك وضعاً أُنطولوجياً مختلفاً. وحسب ثوس، توجد ثلاثة أنواع من ميتاليبسيس في الرواية الشعبية والفيلم وكتب القصص المصورة:1) ميتاليبسيس عالم القصة ـ عالم خيالي، 2) ميتاليبسيس عالم القصة ـ الواقع، 3) ميتاليبسيس عالم القصة ـ الخطاب.

دوريت كوهن

تنطلق دوريت كوهن من تعريف جينيت لميتاليبسيس، مركزةً في مقالتها «ميتاليبسيس وميزان أبيم» على التمييز بين ميتاليبسيس على مستوى الخطاب، وميتاليبسيس على مستوى القصة. يتمثل النوع الأول «ميتاليبسيس على مستوى الخطاب» في عادة بعض السُرّاد التوقف عن سرد الأحداث وأفعال الشخصيات، والاستطراد تحدثاً عن أشياء أخرى.

وينقسم النوع الثاني إلى: ميتاليبسيس خارجية وهي أكثر تكراراً من نقيضتها الميتاليبسيس الداخلية. يحدث النوع الأول بين المستوى خارج عالم القصة والمستوى الداخلي، أي بين عالم السارد وعالم قصته. أما ميتاليبسيس الداخلية فتحدث بين مستويين في القصة نفسها، أي بين قصة أولية/ رئيسة وأخرى ثانوية، أو قصة ذات مستويات ثلاثة. تحدث ميتاليبسيس الثانية في عزلة مدهشة ومفاجئة مثل قتل القارئ الخيالي في قصة كورتزار «استمرارية الحدائق».

أليس بل وجان ألبر

ويذهب أليس بل وجان ألبر في مقالتهما «ميتاليبسيس الأُنطولوجية وعلم السرد غير الطبيعي» إلى التنظير عن وجود ثلاثة أنماط من ميتاليبسيس: «ميتاليبسيس صاعدة» و«ميتاليبسيس هابطة»، «وميتاليبسيس أفقية». ويضعان النمطين الأول والثاني تحت الاسم «ميتاليبسيس عامودية». ويجتمع العامودي والأفقي تحت المصطلح «ميتاليبسيس الأُنطولوجية» التي تتضمن، حسب تعريفهما، تمثيلات لانتهاكات لحدود العالم كإحدى تجليات غير الطبيعي «the unnatural».

ويقدمان هذه الأنماط كنموذج إدراكي/ معرفي جديد، يُحْدِثُ تعديلاً في نموذج جينيت. ويضعان مقالتهما، حسب قولهما، على نقطة الاشتباك بين علم السرد غير الطبيعي وعلم السرد عبر الوسائطي.

وتوضح بل وألبر أن بعض حالات ميتاليبسيس الأُنطولوجية مستحيلة منطقياً لأنها تنتهك مبدأ عدم التناقض، ويوردان رأي ماري - لور رايان أن الانتهاك الأنطولوجي لا يحدث في عالم خيالي يدعي احترام القوانين المنطقية والفيزيولوجية للعالم الحقيقي.

في ميتاليبسيس الصاعدة، تقفز شخصية خيالية أو سارد من عالم حكاية مُؤَطَرًّة إلى عالم أعلى. بينما في الهابطة، يقفز السارد أو الشخصية من عالم أعلى «مُؤَطِر» إلى عالم أدنى، أو يقفز مؤلف من العالم الحقيقي إلى داخل عالم خيالي. أما الأفقية فتمثل ما أطلق عليه جون بيير «transfictionality» ظهور شخصية من عالم خيالي في نص معين في عالم نص آخر، وكذلك «transmigration» هجرة شخصية من نص إلى آخر. كلاهما يشكلان اختراقاً/ انتهاكاً أنطولوجيا.

*ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.