الأنصاري ظل في باريس متشبثاً بثقافته العربية والانجلوسكسونية

أمام سيل من الفلسفات والتنظيرات والآداب والفنون

جان بول سارتر
جان بول سارتر
TT

الأنصاري ظل في باريس متشبثاً بثقافته العربية والانجلوسكسونية

جان بول سارتر
جان بول سارتر

في الوقت الذي ينشر الأنصاري مقالاته هذه من باريس، حيث عاش فيها بين سنة 1979 وسنة 1983 كانت باريس تضج بحراكها الفلسفي والفكري والنقدي والشعري والفني، وقد استوعبت المذاهب والتيارات كافة من ماركسية ووجودية وحداثية وما بعد حداثية، من بنيوية وألسنية وتفكيكية وسيمولوجية، لم تكن حينها بعيدة عن متابعة القارئ العربي... فهذا هو جورج طرابيشي يترجم سنة 1979 كتاب «البنيوية» لروجيه غارودي الفيلسوف والناقد الأدبي المعروف لدى القراء العرب، وقد خلص إلى أنها تنتهي بموت الإنسان، في أعقاب صرخة نيتشه الغاضبة المتمردة على الإله الكنسي، فدي سوسير أو جاكوبسون أو ليفي ستراوس، لم يزعموا أن البنيوية كلية المعرفة، في حين أنها ترد كل واقع إلى البنية، دون أن ترجعها إلى النشاط الإنساني المولد لها، هذا رغم استقاء فلاسفة البنيوية أولئك تنظيراتهم من ماركس في نظريته عن الصراع الطبقي بين البنية التحتية والبنية الفوقية، بوصف الفرد ثمرة العلاقات الاجتماعية المتصارعة، وتفسيره المادي للتاريخ البشري، وجاء تيار ما بعد الحداثة والبنيوية ليلغي عقلانية الحداثة، بوصف تمركز عقلانيتها في أوروبا، وهذا ما عدّه جاك دريدا الفرنسي المولود في الجزائر، تمركزاً عرقياً أبيض، وقد قام بتفكيكيته إلغاء ثنائياتها المتضادة بين الجسد والعقل والمجتمع والفرد والسيطرة والخضوع والمذكر والمؤنث... كل هذه التنظيرات ذات الدعاوى «العلمية» وما أسفر عنها في معالجات الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس والأدب، جاء ثمرة لحروب أوروبا الأهلية المائة والحربين العالميتين فيما بعد، بين إقطاعييها ونبلائها، ونازييها وليبرالييها، لتطلق بعد ذلك أسئلة حارقة ومحترقة من التأزم النفسي لدى فرويد في تحليله، والقلق والاغتراب الوجودي الممزق بين الإيمان والإلحاد، لتنتهي عند ميشال فوكو في نهاية الإنسان، فهو بزعمه كما يلتفت غارودي ليست أقدم المشكلات الفلسفية التي انطرحت على المعرفة الإنسانية، ولا تتوقف هذه «النهاية» عند رولان بارت السيمولوجي (الإشاري) المتوفى أمام إشارة مرور! في حادث سير في أحد شوارع باريس سنة 1980... نعم، لا تتوقف لديه بأطروحته حول «موت المؤلف» ليتيح لـ«متلقي» النص الإبداعي إعادة إنتاج علاماته وإشاراته، وفق بنيته النفسية وتكوينه المعرفي، في علاقة جمالية تفاعلية بين النص والمتلقي، تحرر العمل الإبداعي من هيمنة التفسير الأحادي... هكذا انشغل أساتذة اللغة الأكاديميون ونقاد الأدب والأنثربولوجيا وعلم الاجتماع في مغرب العرب ومشرقه - مذاك - بالبنيوية والألسنية والسيمولوجية والتفكيكية، في دراسة النصوص وتحليل الظواهر الاجتماعية وصياغة المشروعات الفكرية.

جاك دريدا

فلماذا يا ترى لم نر أثراً أو بعض أثر من هذه الحمولة الفكرية والأدبية والفنية الباريسية المثقلة، في مقالات الدكتور الأنصاري الخمسين، التي كان يرسلها إلي كل أسبوع من باريس على مدى عامي 1982 و1983؟

هل لأن ثقافة الأنصاري ظلت عربية وأنجلوسكسونية متشبثة به، أو قل متشبثاً بها أمام سيل جارف من الفلسفات والتنظيرات والآداب والفنون.

جورج طرابيشي

ربما يكمن الجواب في مقاله «الموقف لا الالتزام» المنشور بتاريخ 30 سبتمبر (أيلول) 1938 معاوداً ما سبق وأن تطارحه والشاعر الدكتور غازي القصيبي من سجال أدبي حول الالتزام أواخر الستينات الميلادية، وهما في أوج شبابهما في البحرين، حيث ساد التأثر سياسياً بالفكر القومي وأدبياً بالواقعية الاشتراكية، بعد هزيمة 67 قبل هذا كان مصطلح الالتزام يروّج في كتابات بعض الأدباء العرب في مصر ولبنان والعراق، بعدما تحدث عنه الدكتور طه حسين في أحد مقالاته بمجلة «الكاتب المصري» منتصف الأربعينات، متحدثاً عن كتاب «ما الأدب» للفيلسوف والأديب الفرنسي الوجودي جان بول سارتر، وهو يربط الموقف الوجودي الحر بالالتزام الاجتماعي والسياسي المسؤول، مناصراً وقتذاك الثورة الجزائرية، وقد ترجمه إلى العربية جورج طرابيشي، بعد ذلك في منتصف الستينات الميلادية وكتابه الآخر «الأدب الملتزم» الصادرين عن «دار الآداب» البيروتية لصاحبها الدكتور سهيل إدريس الذي ترجم وزوجته عايدة مطرجي، عدداً من كتب سارتر وصديقته سيمون دو بوفوار الفلسفية وبعض رواياتهما الوجودية.

ارتبط مصطلح الالتزام بسارتر المتوفى وقت وجود الدكتور الأنصاري في باريس! بعد أن خلط منزعه الوجودي ببعض الأفكار الماركسية إثر مقاومة فرنسا للاحتلال النازي

د غازي القصيبي

لقد ارتبط مصطلح الالتزام بسارتر المتوفى وقت وجود د الأنصاري في باريس ! بعد أن خلط منزعه الوجودي ببعض الأفكار الماركسية، إثر مقاومة فرنسا للاحتلال النازي... وهذا ما لم أره في احد مقالات الدكتور الأنصاري، موضحاً في مقاله الباريسي، أن مصطلح الالتزام أصبح يشكو من اسمه! أي من مصطلحه الذي ارتبط بحمولة آيديولوجية، داعياً إلى إلغاء كلمة الالتزام، وذلك بعدما انفض السامر القومي والالتزام الآيديولوجي، في مجتمع معظم مثقفي العرب وأدبائه، خاصة بعد زيارة سارتر إلى إسرائيل، عقب زيارته الشهيرة إلى مصر سنة 1967، مستذكراً سجاله القديم مع صديقه الدكتور غازي، وقد اكتشف أثناء قراءة ديوانه «الحمى» الذي صدر بعد زيارة الرئيس أنور السادات القدس سنة 1977م، قصيدة غاضبة ضدها نشرتها للدكتور غازي القصيبي في جريدة «الرياض» بعنوان «لا تهيئ كفني»، واصفاً إياها بأنها في ذروة الالتزام قائلاً في مقاله ذاك:

«اكتشفت طوال الوقت أني كنت أحاول أن أبيع الالتزام لشاعر ملتزم حتى أخمص قدميه، محاولاً إقناع غازي بأن يقبل منه تغيير مصطلح الالتزام إلى الموقف».


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي
TT

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان. وعلى الرغم من أن بعض رواياته لا تتجاوز 60 صفحة، فهو يراهن «على التكثيف والشحنة الجمالية وجذب القارئ ليكون فاعلاً في النص»، كما يقول. من أعماله الروائية والقصصية «المموِّه» و«صرخة مونش» و«أرجوحة فوق زمنين» و«حديقة السهو»، ووصلت روايته «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» في دورتها الحالية، هنا حوار معه حول تجربته الأدبية:

* في «طبول الوادي»، تستعيد خصوصية مجتمعات ريفية في قرى عمانية تكاد تبتلعها الجبال، كيف جعلت من الأصوات وسيلةً لرسم ملامح البشر والمكان في النص؟

- بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» للرواية العربية المنشورة في دورتها الحالية، تعمدت اختيار «وادي السحتن»، المكون من قرى عدة وسط الجبال تمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان. و«المندوس» كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعدُّ في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي»، وعبر تفاصيل الأحداث نعرف لماذا اختار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه ومشيخة القبيلة حتى وإن جاع.

اهتممت بالتفاصيل كمقوم سردي، مثل الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة. أتذكر مثلاً أننا كنا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات. والأصوات هنا قد توحي بكمية الأغاني التي تشتمل عليها الرواية. هناك أيضاً أناشيد بعضها باللغة السواحلية الزنجبارية، ناهيك عن طبول الجوع التي تعرض لها بطل الرواية «سالم»، وقد اختار الحرية مضحياً بكل شيء وخرج من قريته حافي القدمين حاسر الرأس، وفي ذلك دلالة مقصودة.

* ألن يكون صادماً لبعض القراء التعرف على وجه آخر لـ«دول الخليج» من خلال قرى متقشفة يعاني أبناؤها من مستويات متباينة من الفقر والجوع والحرمان؟

- لا يخلو أي مجتمع من مفارقات، ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص. صحيح أن عمان بلد نفطي وعدد سكانه قليل لكنه في النهاية مجتمع متنوع، به طبقات ومستويات، به ثراء فاحش وبه فقر مدقع. ولست في سياق مناقشة الأسباب، إنما يمكن ذكر أمثلة، منذ فترة قريبة مثلاً سمعت عن قريب لي سُرّح من عمله، ولديه أبناء كُثر، التعويض لم يكن يكفيه لإعالة أبنائه، فاضطر إلى السير في الخلاء ليعود من هناك بأشجار يحرقها ليحولها فحماً يبيعه. تحول إلى حطّاب. وهذه الأمور لم نكن نسمع بها إلا في الحكايات.

* في مقابل القرية، تطل المناطق والمدن الأكثر تحضراً، وهى تحتوي، وفق تعبير الراوي، على «الضجيج الذي يُسمع الآن متداخلاً بين العربية والهندية والأفريقية والبلوشية... كيف ترى بعين الروائي هذا «الموزاييك» أو «الفسيفساء» الذي تحمله سلطنة عمان والمجتمع الخليجي عموماً بين طياته؟

- هذا الموزاييك يشكل ثراءً اجتماعياً تنتج عنه تفاعلات يمكن أن يستفيد منها القاص. لو فقط تأملنا تاريخ الأسواق العمانية، لحصلنا على ذخيرة مهمة، ناهيك عن الأغاني، سواء تلك المتعلقة بالأفراح أو حتى الأتراح. المهم هنا هو كيف تعبر عما هو موجود وليس تفصيل ما هو موجود. الكم يعدُّ انحرافاً عن طريق الأدب الذي من سماته البلاغة والاقتصاد. الكاتب الروسي نيقولاي غوغول اختصر في رواية «المعطف» تاريخ الخياطين في روسيا في عمل صغير، كان المعطف هو البطل وليس صاحب المعطف في الحقيقة. لكنه قدم عملاً هائلاً لا يمكن نسيانه. أتذكر حين قرأت «المعطف» أول مرة في التسعينات وكانت منشورةً كاملةً في مجلة «عيون المقالات» بكيتُ بحرقة. ولحظة التأثر الصادقة هذه لا يمكن أن يقدمها لك إلا كاتب عظيم بحجم غوغول.

* جاءت روايتك «المموِّه» قصيرةً إلى حد الصدمة حتى أنها تقع في أقل من 60 صفحة، كيف ترى مسألة «الحجم» وتأثيرها في استقبال وتصنيف الأعمال الأدبية؟

-الحجم عادة ليس مقياساً. رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي رواية قصيرة لكن لا تقل أهمية وذكراً عن رواياته الكبيرة. الأهم في هذا السياق هو التأثير. وسواء كُتب على الغلاف رواية أو «نوفيلا»، يظل هذا الأمر يدور في قلة الحجم. ثمة مواضيع من الأفضل تقديمها قصيرة خصوصاً تلك القصص التي تعتمد على اللعب. وحين أقول قصصاً فإنه حتى الرواية كانت تسمى قصة، فالقصة عنصر أساسي في السرد، سواء كان هذا المسرود قصة قصيرة أو رواية.

* هل أردت أن تحرر فكرة السرد الروائي من «المطولات» التي أثقلته مؤخراً أعمال تتجاوز 400 أو 500 صفحة دون دواعٍ فنية؟

- لم أكن أقصد حين كتبت سوى التعبير بأقل الكلمات وأحياناً ألجأ لمجرد الإشارات. حالياً أعكف على نوفيلا بطلها شاب لا يتكلم، انطلاقاً من مقولة لبريخت مفادها أن الذي لا يتكلم لديه كلام كثير ليقوله، وهذا الكثير يعبّر عنه بمختلف حواسه، لا سيما العين وليس فقط الإشارات. قبل أن أكتب رواية «أوراق الغريب» دخلت في دورة للصم مدتها أسبوعان، وذلك لأنه ضمن شخصيات هذه الرواية امرأة خرساء. ورغم أن دورها ثانوي في الرواية، لكن كان من المهم فهم شعورها وطريقة تعبيرها بدقة وإلا أصاب النص نقص مخجل، ليس في عدد الصفحات، وهذا ليس مهماً كثيراً، لكن في الفهم... كيف تكتب عن حالة أو شخصية قبل أن تفهمها؟ هذا أمر في غاية الأهمية حسب وجهة نظري.

* تذهب رواية «المموه» إلى «المسكوت عنه» من خلال تجارة المخدرات وترويجها عبر الحانات... هل تعمدت ذلك وكيف ترى محاذير تناول مناطق شائكة في الرواية الخليجية؟

- طريقة تناولي للمواضيع السردية حذرة جداً، لكنه ذلك النوع من الحذر الذي لا يفرط بصياغة المادة الحكائية بقدر ما يكون في التعالي على مطابقتها حرفياً بالواقع. أستفيد من معطيات الواقع الموجودة والمباشرة لكن في حدود مدى خدمتها للعمل أدبياً. لو كنت أرغب في كتابة موضوع اجتماعي لما التجأت إلى الرواية. كنت سأكتب بحثاً حسب منهج علمي به تفاصيل ومسميات صريحة، لكن كتابة الأدب تتقصد أولاً إمتاع القارئ عبر اللغة والتخييل، ولا يمنع الكاتب أن يستفيد من كل معطيات الواقع وتنوعه طالما أن ما يكتبه يدور في فلك التخيل. وطالما أنه لم يستخدم كتابته لأغراض أخرى مثل تصفية الحسابات مثلاً.

*هل خلفيتك كاتبَ قصة قصيرة جعلتك تنحو إلى التكثيف والإيجاز وقلة عدد الشخصيات في أعمالك الروائية؟

- البداية كانت مع القصة وربما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأت الكتابة القصصية في سن مبكرة، نحو 19 عاماً، لكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد الثلاثين ثم انتظرت 9 سنوات حتى أصدرت المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذاك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها مجموعة «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى، بالنسبة للرواية فقد اقتحمت ساحتها بشيء من الحذر، بدأت تدريجياً بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن «دار الجمل»، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن «دار الانتشار»، بعد ذلك كتبت «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبياً ومتعددة الأصوات، كتب عنها الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة «نزوى».

* بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى «اللون البني» 1998 لماذا انتظرت 10 سنوات كاملة حتى تصدر المجموعة الثانية؟

ربما كنتُ مسكوناً أكثر بالقراءة. ورغم أن «اللون البني» لقيت نجاحاً وكُتب عنها بصورة مفرحة فإنني كنت أكتب أيضاً. أتذكر أن مجموعتي الثانية «بركة النسيان» كتبت الجزء الأوفر منها في دكان والدي بمدينة مطرح. كان معي دفتر أنكب عليه للكتابة وقت الظهيرة غالباً على عتبة الدكان حين يقضي أبي قيلولته في مسجد قريب. أحدهم قال لي لاحقاً إنه كان حين يعود من عمله بالسيارة لا يراني إلا منكباً وكان يستغرب. بعد أن أنهيت دراستي ساعدت والدي في دكانه كما كنت أساعده أثناء الإجازات الدراسية إلى أن وجدت عملاً في وزارة التعليم العالي. لذلك يمكن ملاحظة الكثير من الدكاكين في تلك المجموعة القصصية.

لا يخلو أي مجتمع من مفارقات ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص

* حصلت على العديد من الجوائز فضلاً عن الوصول للقوائم القصيرة لجوائز أخرى... كيف تنظر لحضور الجوائز في المشهد الأدبي العربي، وهل تشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لك؟

- لم أكتب يوماً لنيل الجوائز، أنا مقتنع أن اللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط، وما عليك سوى العمل. كان أبي (رحمه الله) يقول لي «عليك أن تفتح الدكان صباح أول الناس وتنتظر». وفي هذا دعوة إلى الاستمرارية. بالنسبة للكاتب، عليه أن يقرأ كثيراً وربما أيضاً عليه أن يكتب، أما النشر فيأتي لاحقاً. كذلك الجوائز لا تستجيب بالضرورة لمن يخطط لها.

* أخيراً... ما سر حضور الرواية العمانية بقوة مؤخراً في المشهد الثقافي العربي؟

- ربما بسبب النزوح الجماعي نحو هذا اللون. مرة كتبت مقالاً في موقع «ضفة ثالثة» بعد رحيل عزيزنا القاص والروائي والطبيب عبد العزيز الفارسي، قلت فيه إنه حين كتب أول رواية وصعدت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» في دورتها الأولى حوّل المشهد من كتابة القصة إلى كتابة الرواية في سلطنة عمان، فاتجه معظم من كان يكتب قصة إلى هذا الفضاء الجديد والمغري. هناك من ظل يراوح مزاولاته بين القصة والرواية وعبد العزيز كان واحداً منهم. وبذلك استطاع الكاتب العماني عموماً أن يساهم وينافس في مسابقات ذات طابع تنافسي عربي، كما حدث مع جوخة الحارثي وبشرى خلفان ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وآخرين في مجالات إبداعية مختلفة.