مثاقفة محمد جابر الأنصاري الباريسية

مقالاته خلت من التفاعل الثقافي والأدبي مع ما كان يدور في عاصمة الأنوار

طيب تيزيني
طيب تيزيني
TT

مثاقفة محمد جابر الأنصاري الباريسية

طيب تيزيني
طيب تيزيني

ذكرت في محاضرتي «مع الأنصاري في توفيقيته صراع الأضداد» مساء يوم 6 ديسمبر (أيلول) الماضي، بمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة بالمحرق، أنني دعوت الدكتور محمد جابر الأنصاري إلى كتابة مقال أسبوعي في جريدة «الرياض» الأسبوعية كل جمعة بين سنة 1982- و1983. أحصيتها فوجدتها قرابة خمسين مقالاً، كان يرسلها إلي كل أسبوع من باريس، حين كان الأنصاري يعمل مستشاراً ثقافياً في سفارة خليجية بين سنة 1979 و1983م، وهي مقالات تراوحت بين المعالجة السياسية والثقافية والأدبية، تحت عنوان «مساحة للعقل العربي».

وقتذاك كان أفرغ وسعه وبذل جهده في أطروحته للدكتوراه، التي انتهى من مناقشتها سنة 1979م في جامعة بيروت الأميركية، محورها حول النزعة التوفيقية، مفصلاً التتبع التاريخي للتجارب السياسية والمداولات الفكرية في عصر العرب الحديث، ابتداءً من حملة نابليون على مصر سنة 1798 إلى هزيمة 1967، متوقفاً ودارساً نقائضها المتراوحة، بين الوطنية والاستعمار والتراث والنهضة والأصالة والمعاصرة، وذلك في ما أصدره بعد ذلك من كتاب ضخم بعنوان «الفكر العربي وصراع الأضداد».

محمد جابر الأنصاري

غير أن ما لفت نظري في مقالاته الباريسية، خلوها من التفاعل الثقافي والأدبي، مع ما كان يدور في عاصمة الأنوار، من سجالات فلسفية وحراكات أدبية وفنية، طاولت بثوراتها قضايا وصرعات، لم تستثن الأزياء والمطبخ والألعاب الرياضية. وكما نعلم، فإن باريس شكّلت مثاقفة مستمرة في العالم العربي، منذ قامت الظاهرة الاستعمارية في بعض بلدانه، فزارها رحالة وأدباء وشعراء، وابتُعث إلى جامعتها عدد من الطلاب العرب... وقد جسد علاقة الأنا العربي بالآخر الفرنسي عدد من أبرز الرحالة والروائيين، خاصة من خضعت بلدانهم للاستعمار الفرنسي - مشرقاً ومغرباً - بل إن هناك من يذهب إلى أن ترجمة أنطوان غالان «ألف ليلة وليلة» من العربية إلى الفرنسية في القرن الثامن عشر، ما كانت لتتم لولا مساعدة الرحالة الحلبي حنا دياب، الذي أضاف إلى الليالي قصة علاء الدين، كما اعترف غالان نفسه.

فكيف أغفل الدكتور الأنصاري ما كان يجري في باريس من أفكار وآداب وفنون في مقالاته الخمسين وغيرها؟ بل إنه لم يتطرق إلى ما كتبه قبله من مفكرين عرب جدد، حول موضوعه النهضوي الأثير الذي انشغل به.

فقد كتب الأنصاري في مقاله «جمود الفكر كيف نفسره» بتاريخ 18 أبريل (نيسان) 1982:

«أن تكون ثمة أزمة في المجتمع وفي الأمة... معنى هذا أن هناك مخاضاً يجري وتحولاً من طور إلى آخر... ومن سنة إلى أخرى... وأن شيئاً جديداً يتبلور... أو لا بد أن يتبلور في نهاية المطاف مهما طال الزمن. ولكن أن تصل أزمة الثقافة والفكر إلى حد العقم والإفلاس مع كل هذه المعاناة التي نعانيها الأمة وأجيالها في مختلف المجالات».

علي الشوك

ويتساءل الأنصاري في نهاية مقاله «فما بال فكرنا العربي في هذه الأيام لا يستجيب لهذا القانون... وما باله يشذ عن هذه القاعدة الحضارية الحياتية، رغم كل هذه الأزمات والمعاناة والنكبات القومية؟».

قبل تاريخ سؤال الأنصاري بسنوات، كان المفكر المغربي عبد الله العروي بدأ ينشر مقالاته أواخر الستينات في مجلة «دراسات عربية» ومجلة «مواقف» اللبنانيتين حول تاريخ الأفكار والنقد الآيديولوجي، وفي سنة 1970 فاجأ الساحة العربية بأطروحته العميقة المنشورة في بيروت سنة 1970 حول «الآيديولوجيا العربية المعاصرة» بمقدمة المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون الضليع في دراسة المجتمعات وتحليل الأفكار في العالم العربي والإسلامي، وقد ترجم الكتاب الباحث اللبناني محمد عيتاني، الذي بدأ - وقتذاك - ينشر دراساته عن الفكر الإسلامي والقرآني بمنظور ماركسي.

وقد ذهب العروي في كتابه أن الآيديولوجيا ليست شقشقة لسان فارغة لا معنى لها، بل حاول أن يظهر في كتابه اللافت أنها ذات دلالة وفكر منظم متماسك، هدفت إلى إرشاد المصلحين إلى مسالك العمل والإنجاز، لكنه في الوقت نفسه كشف عن أنها تستعيد منطق تطور الغرب في سياق تطور التاريخ الحديث، واصفاً هذه الآيديولوجيا العربية بالتعالي المستقل عن حركة المجتمع العربي، مدللاً على وجود تماثل عاضوي وبنيوي بينه وبين سيرورة العقل الحديث.

عبد الله العروي

أما كتابه الآخر «العرب والفكر التاريخي» الصادر سنة 1974، فأول ما سمعت به على لسان القاص المصري يوسف إدريس، وأنا أزوره في منتجعه الصيفي على شاطئ الإسكندرية، واقتنيته إثر ذلك من مكتبة «مدبولي» بالقاهرة، فوجدت العروي يتطرق في مؤلفه إلى استلاب الفكر العربي المعاصر بشقيه التقليدي والعصري، باحثاً عن كيفية استيعاب الفكر العربي للفكر الليبرالي طريقاً نحو فكر تقدمي، معالجاً أوضاع التأخر العربي عن ركب العالم الحديث، وداعياً المثقف العربي إلى أن ينفلت نهائياً عنها بالنفاذ إلى الجذور، محذراً أن يكون العرب آخر شعب يقوم من سباته، رغم أنه عرف أول نهضة فكرية في العالم الثالث، داعياً إلى اجتثاث الفكر التقليدي... وحينما يرد عليه بأن ثقافتنا المعاصرة هذه ستكون تابعة لثقافة الغير، يجيب العروي وهو يرفع لواء القطيعة مع التراث... فليكن ذلك!

هذا هو ما كان بدأ يتطارحه - وقتذاك – الدكتور زكي نجيب محمود، وقد عاد من مغتربه البريطاني إلى كرسي أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، ليعود متأخراً إلى دراسة التراث العربي والإسلامي برؤية عصرية، تجلت في كتابه «تجديد الفكر العربي» وكتابه «المعقول واللامعقول في تراثنا العربي». داعياً المفكرين العرب من وحي الفلسفة الوضعية، إلى صياغة مشروع فكري عربي جديد.

ولم يكن العروي المهمَل وحده في اهتمام الأنصاري الفكري، كما يتجلى لا في مقالاته الباريسية وحدها وإنما كذلك في أطروحته «الفكر العربي وصراع الأضداد»، فهو مثلاً لم يتطرق قط إلى ما تطارحه المفكر السوري الدكتور طيب تيزيني، أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق؛ إذ أصدر كتابه «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط» سنة 1971م في دمشق وكان الكتاب متداولاً في أوساط اليسار في المشرق العربي، وهو ينبّههم إلى ما في التراث الفكري العربي من ظواهر اجتماعية وفكرية ثورية، سبقه إلى استثارتها كتاب «تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام» لبندلي جوزي (1878 – 1942) الباحث الفلسطيني الذي استوطن روسيا قبل الثورة البلشفية على القياصرة وعاش فيها بعدها، وقد حصل على الدكتوراه حول المعتزلة في جامعة قازان، وأصبح أستاذاً للفلسفة الإسلامية في جامعة باكو لسنوات، وله الكثير من الدراسات الفكرية والأدبية واللغوية.

أما على الصعيدين الأدبي والفني، فقد تناول الأنصاري في 22 يوليو 1983 مقالاً بعنوان «جديد باريس... فن بدائي يمد لسانه لبيكاسو» انتقد فيه بشدة الفن التشكيلي الحديث، مقارناً ما شاهده في باريس من لوحات فنية غمض عليه فهمها، وقد أصبحت مدرسة وحركة فنية، ولوحات مؤثرة عالمية، لا يحصيها العد لفنانين من مختلف دول أوروبا الغربية والشرقية، وقد احتلوا لأنفسهم مكانة في ساحة الفن بباريس... مقارناً هذه اللوحات بما كان يشاهده صبياً وشاباً على جدران دكاكين الهنود وعلى واجهات محالهم في أحياء المحرق! وهي تصور الريف البسيط وموكب المهراجا بزخارفه المترفة، ومسيرة الأفيال بسروجها البراقة، وأعراس الفلاحين ومواسم الحصاد ولهو الأطفال، ومهرجان المياه الملونة التي يتراشق بها الهنود في الأعياد.

لم يكن العروي المهمَل وحده في اهتمام الأنصاري الفكري فهو مثلاً لم يتطرق قط إلى ما تطارحه المفكر السوري طيب تيزيني

نعم، إنه بحساسيته الفنية الرومانسية وحنينه النوستالجي، يقارنها بما شاهده في ساحة الفن بباريس الثمانينات، واصفاً إياها بأنها مسورة بأكثر من سياج مادي ومعنوي وفني؛ إذ لا تستطيع اقتحامها، ما لم تكن سوريالياً أو تكعيبياً، إذ يرى أنها ذهبت ببساطة الفن الأصيل الجميل، ونفرت الناس منه، فكلما كانت اللوحات مغرقة في الغموض والسوداوية والتشاؤم مثقلة بالرموز حافلة بالنقائض والمعاني العكسية - وهذا ما ينطبق على تجربة بيكاسو المتعاقبة بين الواقعية والسوريالية والتكعيبية كما تجلت في لوحته الشهيرة «الغرنيكا» - زاد حظك من القبول لدى كهان الفن الباريسي، الذين لم يمد لهم بيكاسو لسانه!

ولا يقتصر نقد الأنصاري الساخر اللاذع على ظاهرة الفن الحديث، وإنما يصبّ جام غضبه كذلك على نقاده، الذين يزيدون غموض هذه اللوحات غموضاً بقراءاتهم النقدية... في حين يعترف بأن هذه الظاهرة لم تنبت من فراغ ولم تظهر دون مبررات، فهي تعبر عن التأزمات النفسية للحضارة الغربية، مشوبة بفكرة اللاوعي الفرويدي، والتشاؤم والعبث الوجودي.

ويواصل الدكتور الأنصاري تذمره من ظواهر باريس الأدبية والشعرية في مقال آخر عنونه بـ«أدب اللامعقول... هل يتفق وإيقاظ العرب»، داعياً فيه الشباب العربي إلى ألا يقعوا في الإشكالية التي وقع فيها التيار السوريالي العربي المعاصر في لبنان، بتأثره الميكانيكي بما كان يحدث في فرنسا من رد فعل على طغيان الموجة العقلانية الواقعية، قادت بعض شعرائه (بريتون) خاصة إلى كتابة شعر خرج على المألوف الفني، معبراً عن التقلبات النفسية التي عاشتها فرنسا، بعد الحربين العالميتين، وقد عجز العقل الاجتماعي والثقافي من استيعاب آثارها على النفسية الاجتماعية.

العجيب هنا، أن الأنصاري الذي نشر مقاله في 22 أبريل 1983 كان الناقد العراقي علي الشوك قد تناوله بإحاطة شاملة في كتابه «الدادائية» المنشور في بيروت سنة 1970، كما أنه كتب عن السوريالية وتبدياتها العربية في قصيدة النثر والفن التشكيلي، الكثير من الدراسات النقدية والمقالات الصحفية، منذ بداية بروزها على يدي اللبناني بشر فارس، بعد عودته من الدراسة الأكاديمية في ألمانيا، وبدأ ينشر منذ الثلاثينات الميلادية قصائده النثرية ومقالاته النقدية التجديدية، فوق صفحات مجلة رسالة الزيات التقليدية.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.