ثلاث قامات برونزية من قرية الفاو تربط بين الحضارات

الخاشع راكعاً والمتعبّد واقفاً والثالث منتصباً في يده العصا

ثلاث قامات برونزية من قرية الفاو
ثلاث قامات برونزية من قرية الفاو
TT

ثلاث قامات برونزية من قرية الفاو تربط بين الحضارات

ثلاث قامات برونزية من قرية الفاو
ثلاث قامات برونزية من قرية الفاو

يحتفظ متحف قسم الآثار الخاص بجامعة الملك سعود في الرياض بمجموعة من التماثيل البرونزية الصغيرة مصدرها قرية الفاو، منها ثلاثة تماثيل لقامات تتميز كل منها بظهورها في وضعيّة خاصة، تبدو أشبه بوضعية الخشوع والابتهال. يظهر التمثال الأول راكعاً وهو يضع يديه على طرف ركبتيه، ويظهر الثاني واقفاً وهو يرفع يديه نحو الأمام، أما الثالث فيظهر منتصباً في وضعية مشابهة، حاملاً بيده اليمنى عصاً قصيرة.

عُثر على التمثال الأول بين أطلال معبد كُشف عنه خلال حملات التنقيب الأولى التي قام بها فريق من جامعة الملك سعود في سبعينات القرن الماضي، كما أشار الباحث الراحل عبد الرحمن الطيب الأنصاري في كتابه " قرية الفاو، صورة للحضارة العربية قبل الإسلام في المملكة العربية السعودية" الذي صدر في 1982. رأى الأنصاري يومذاك ان هذا المعبد يُعتبر "أول معبد يُكشف عنه داخل حدود المملكة"، ومنه خرجت "مجموعة من التماثيل البرونزية التي أعطتنا بُعداً حضارياً جديداً لم تمدّنا به معابد أخرى، كمعابد اليمن مثلاً"، ذلك أنها "تربط بين حضارة وسط الجزيرة العربية وبلاد الشام وحوض البحر المتوسط ووادي النيل".

يجسد هذا التمثال رجلاً حليق الرأس، يجلس جاثيا على ركبتيه، محدّقا نحو الأمام. ملامح الوجه ممحوة، وأبرزها أذناه المستديرتان الكبيرتان. الصدر عار، ثابت ومستقيم، ويخلو من أي حركة. الذراعان ملتصقتان بالصدر، والجزء السفلي منهما منسدل على الفخذين. كفّا اليدين مفرودتان عند أعلى الركبتين، وأصابعهما غير محدّدة المعالم. يقتصر اللباس على مئزر طويل تعلوه شبكة من الخطوط المتوازية تشير إلى ثناياه. يرتفع هذا التمثال الصغير فوق قاعدة مستطيلة تشكّل جزءا لا يتجزّأ منه، ويتبع بشكل عام النسق المصري، وشواهد هذا النسق معروفة، منها على سبيل المثل تمثال محفوظ في متحف والترز للفنون في مدينة بالتيمور، يمثّل "هور ويدجا"، ابن "ساسوبك"، أحد كبار رجال الدولة في عهد الفرعون بسماتيك الأول، من الأسرة السادسة والعشرين، وتمثال من الحجم الصغير محفوظ في المتحف المصري في القاهرة، يمثل كاهنا يُدعى "حتب دي إف"، ويعود إلى الأسرة الثالثة.

يمثّل هذا النسق المصري رجلاً عاري الصدر، راكعا مع وضع اليدين على الركبتين، في قالب يتوافق مع الأعراف الفنية المصرية القديمة. في الذاكرة الجماعية، تبدو هذه الوضعية كأنها تمثّل المتعبد في حالة الصلاة. في هذا السياق، وصف الرحمن الطيب الأنصاري تمثال قرية الفاو بـ"التمثال الخاشع"، وهو "تمثال لشخص جالس على ساقيه وهما مثنيتان إلى الخلف، ويداه ممدودتان فوق فخذيه، ويبدو في وضع خشوع وتعبّد". في الواقع، تظهر حالة التعبد لدى المصريين الأقدمين في رفع الذراعين، لا في وضعهما على الفخذين، ويبدو أن وضعية السجود تشير هنا إلى حالة من الهدوء والثبات واليقظة والهيبة والخشوع، لا الصلاة والتعبّد.

التمثال الثاني عُثر عليه كذلك خلال حملات التنقيب الأولى في قرية الفاو كما يبدو، وصورته منشورة إلى جانب صورة "تمثال الخاشع" في الكتاب الذي أصدره الأنصاري، وشكّل فاتحة للتعريف بميراث هذا الموقع الأثري. بحسب المؤلّف، يعود هذا التمثال "لسيدة ذات قدم صغيرة، لم يُنقش وجهها بوضوح، ولها يدان قصيرتان". يتكوّن هذا المجسّم من كتلة واحدة مستطيلة تخرج منها ذراعان متقدّمتان الى الأمام في خطوط شبه مستقيمة، حيث تمثّل كل ذراع في ثنيتها زاوية قائمة. الجسد خالٍ من النسب التشريحية، ونسبته صغيرة قياساً الى رأسه الكبير. الوجه دائري، والرقبة غليظة وقصيرة. العينان لوزيتان، الأنف مستقيم، والثغر منمنم، ويتألف من شفتين مضمومتين.

تحتجب مفاصل الجسد بشكل كامل خلف رداء طويل ينسدل حتى حدود القدمين الصغيرتين، ويخلو هذا الثوب المجرّد من أي تفاصيل. يتبع التمثال نسقاً تقليدياً شاع في جنوب الجزيرة العربية، كما يستدل من شواهده الأثرية العديدة، وهو على الأرجح مجسّم نذري يمثّل نموذجاً فنياً يُعرف بـ"تمثال المتعبّد"، وفيه تبرز حالة التعبّد في حركة اليدين المتقدّمتين إلى الأمام، في وضعيّة ثابتة تشكّل أساساً لهذا النسق الذي شاع على مدى قرون في جنوب الجزيرة العربية، كما في أنحاء أخرى منها.

نصل إلى التمثال الثالث، وقد عُثر عليه في مرحلة لاحقة، وعُرف بشكل واسع بعدما عُرض ضمن معرض "طرق الجزيرة العربية" الذي انطلق من باريس في صيف 2010 وجال العواصم العالمية على مدى سنوات. يتبنى هذا التمثال بشكل عام نموذج "تمثال المتعبّد"، غير أنه يتميّز بقامته الطويلة التي تراعي النسب التشريحية الواقعية، وهو هنا شاب أمرد يعلو رأسه شعر كثيف تحيط خصلاته بالوجه على شكل قلنسوة. الكتفان في وضع مستقيم، والرأس منتصب في وضعية المواجهة. ملامح الوجه مجسّمة بدقة، وتعكس تأثّراً خفيّاً بالطابع اليوناني الكلاسيكي. يتميز الرداء الطويل بوزرة يعلوها حزام معقود عند الخصر، ينسدل منه شريطان مستقيمان متوازيان. تحافظ الذراع اليسرى على وضعيّتها التقليدية المألوفة. في المقابل، ترتفع الذراع اليمنى نحو الأعلى، وتظهر في قبضة يدها عصاً صغيرة ذات رأس دائرية يصعب تحديد هويّتها.

يعيد هذا التمثال المتقن إلى الذاكرة تمثالا شهيرا محفوظا في متحف صنعاء يُعرف بتمثال "معدي كرب"، وهو اسم صاحبه الذي كرّسه للمعبود "ألمقة"، سيد السلامة والحماية في مملكة سبأ، كما تقول الكتابة المنقوشة على ثوبه. على صدر تمثال الفاو، تظهر كتابة منقوشة تتألف من أربعة أسطر، غير أن قراءة هذا النص تبدو صعبة بسبب ضياع العديد من أحرفها، والأكيد أن تحوي عبارة تعني "أهدى"، مما يوحي بأن هذه القطعة هي في الأصل تمثال نذري أهداه متعبّد إلى معبود لم يصلنا اسمه.


مقالات ذات صلة

مصر تحتفي باللغة القبطية وتوثيق الحضارة الفرعونية 

يوميات الشرق الاحتفال بمرور 70 عاماً على تأسيس معهد الدراسات القبطية (وزارة السياحة والآثار)

مصر تحتفي باللغة القبطية وتوثيق الحضارة الفرعونية 

احتفت مصر باللغة القبطية التي يجري تدريسها في المعهد العالي للدراسات القبطية التابع للكنيسة الأرثوذكسية المصري، وذلك بمناسبة مرور 70 عاماً على إنشاء المعهد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

في إطار التشغيل التجريبي للمتحف المصري الكبير بالجيزة (غرب القاهرة) أقيمت فعالية «تأثير الإبداع» التي تضمنت احتفاءً بالفنون التراثية والحِرف اليدوية.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج بجنوب مصر.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)

«نشيد الحب» تجهيز شرقي ضخم يجمع 200 سنة من التاريخ

لا شيء يمنع الفنان الموهوب ألفريد طرزي، وهو يركّب «النشيد» المُهدى إلى عائلته، من أن يستخدم ما يراه مناسباً، من تركة الأهل، ليشيّد لذكراهم هذا العمل الفني.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق مشهد من جامع بيبرس الخياط الأثري في القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

بعد 5 قرون على إنشائه... تسجيل جامع بيبرس الخياط القاهري بقوائم الآثار الإسلامية

بعد مرور نحو 5 قرون على إنشائه، تحوَّل جامع بيبرس الخياط في القاهرة أثراً إسلامياً بموجب قرار وزاري أصدره وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي.

فتحية الدخاخني (القاهرة )

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.