نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي

مرور 17 عاماً على رحيله

نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي
TT

نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي

نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي

هل كانت رؤية نجيب محفوظ للوضع الإنساني متفائلة أم متشائمة؟ فلنتأمل هذه العبارة من «ثرثرة فوق النيل» (1966) على لسان إحدى الشخصيات: «إرادة الحياة هي التي تجعلنا نتشبث بالحياة بالفعل، ولو انتحرنا بعقولنا». (الفصل 7). في هذه العبارة يبدو تأثر نجيب محفوظ بالفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور الذي خلُص إلى أن الحياة «مشروع لا يغطي نفقاته»، وأن الأمر لو ترك للعقل وحده، لما كانت هناك حجة منطقية واحدة تدفع للتمسك بالحياة. إنما هي «إرادة الحياة» أو الغريزة العمياء المركبة فينا التي «تجعلنا نتشبث بالحياة» بأي ثمن.

لكن هذه اللحظة التشاؤمية لا تدل على موقف فلسفي عام عند محفوظ. العبارة الأصدق في الدلالة على موقفه الفلسفي هي التالية، أيضاً من «ثرثرة فوق النيل»: «تأملوا (...) المسافة التي قطعها الإنسان من الكهف إلى الفضاء!» (الفصل 7). هذه العبارة تكشف عن إيمان محفوظ بالخط البياني الصاعد لتقدم الجنس البشري، وهو الإيمان الذي يستمد منه تفاؤله التاريخي المستقبلي كترياق ضد قتامة الحاضر. فهو القائل: إنك إن نظرت إلى الحاضر في أي لحظة فستجد شتى أنواع المآسي تحيط بك، أما إذا نظرت إلى الحاضر من منظور تاريخي فستجد أن البشرية قد قطعت شوطاً كبيراً في طريق التقدم.

مصداق تفاؤلية نجيب محفوظ لفتني بشدة عندما استغرقت قبل فترة في قراءة عدد هائل من مقالات عموده الأسبوعي في جريدة «الأهرام»، في الفترة من 1982 إلى 1988، وهي الفترة التي تعاصر السنوات المبكرة من حكم حسني مبارك. مقالات تواصلت على مدى 6 سنوات في الفترة الحرجة من تاريخ مصر المعاصر التي أعقبت اغتيال السادات، وتصاعد فيها الإرهاب، واشتدت الأزمة الاقتصادية ضمن تداعيات سياسة الانفتاح الاستهلاكي. كانت الصورة قاتمة تماماً، إلا أنك تجد التفاؤل يقطر من مقالات محفوظ، والروح الإيجابية تنبض بها كلماته أسبوعاً بعد أسبوع. كانت مقالاته على وعي تام بالعيوب، والسلبيات، وإرث الديكتاتورية، والهزائم، والديون، والفقر، وأزمات الحياة اليومية، وضياع الشباب، وتفتت الوحدة الوطنية، وانتشار التعصب، والتفرق العربي، وحروب المنطقة، وتعثر التحول الديمقراطي، إلى آخر القائمة الطويلة، إلا أن روح القنوط لم تتسلل أبداً إلى مقالاته. كان يتجاوز هذا كله مقترحاً الحلول، طالباً العبرة من الماضي، متطلعاً إلى مستقبل أفضل، باثّاً العزيمة والأمل دائماً فيمن يقرأه.

أدهشتني هذه الروح الشابة المتفائلة بغير هوادة، في كاتب شيخ عاصر تراجع النهضة المصرية من أوائل القرن إلى أواخره. إلا أني كنت على وعي بالمفارقة الكبيرة بين كتاباته الصحافية وتلك القصصية. إذا ما تركنا هذه المقالات وعدنا إلى رواياته وقصصه القصيرة من الفترة نفسها، لما وجدنا فيها بارقة أمل. هناك يصدمنا الواقع والإحباط القومي والفردي بكل شراسته.

أي الصورتين نصدق؟ شخصياً أميل إلى تصديق الصورة الفنية. ولكني أكبرت في محفوظ القدرة على التفرقة بين التناول الفني؛ حيث لا مناص من تصوير الوضع البشري في أحلك صوره، وبين التناول اليومي المباشر أمام الجمهور الذي يحتاج حلولاً وأفكاراً تعينه على مواجهة الحياة، ولا تدفع به نحو اليأس الكامل.

صيرورة الزمان وديمومة المكان

فكرة أخرى محورية عند محفوظ، هي الزمن وتحولاته المؤثرة في حياة الفرد والجماعة. في مفتتح «زقاق المدق» (1947) ترد هذه العبارة على لسان المجذوب الشيخ درويش: «ذهب الشاعر وجاء المذياع. هذه سنة الله في خلقه. وقديماً ذُكرت في التاريخ، وهو ما يُسمّى بالإنجليزية history، وتهجيتها h.i.s.t.o.r.y». العبارة تشير لشاعر الربابة الذي كان يُسلّي رواد المقهى حتى جاء اختراع الراديو فأزاحه عن مكانه، وأنهى دوره كشخص وكظاهرة اجتماعية في آنٍ. التاريخ الذي يتهجى لفظته الشيخ درويش هو نفسه الذي يحيل عازف الربابة إلى ظاهرة من الماضي، لا محل لها في عصر المذياع.

هذا الفهم للتاريخ أو الزمن بمعنى أعمّ الذي تقرره الرواية لنا في مبتداها تؤكده في خاتمتها مرة أخرى بهذه العبارة: «وانداحت هذه الفقاعة أيضاً كسوابقها، واستوصى الزقاق بفضيلته الخالدة في النسيان وعدم الاكتراث، وظل كدأبه يبكي صباحاً -إذا عرض له البكاء- ويقهقه ضاحكاً عند المساء. وفيما بين هذا وذاك تصرّ الأبواب والنوافذ وهي تُفتح، ثم تصرّ كرة أخرى وهي تُغلق». (الفصل 35). تصور العبارة عودة الزقاق لحياته الاعتيادية عقب مصرع عباس الحلو، مؤكدة عبوريّة الفرد وديمومة المكان، واستمرار الحياة غير مكترثة بمن يبقى ومن يغادر.

المصادفة والمفارقة

من الأفكار الصميمة عند نجيب محفوظ، فكرة هشاشة المصير الإنساني، واعتماده على المصادفة، على اللحظة العابرة، على تضارب الزمان والمكان. ففرص السعادة قائمة، ولكنه قيام نظري، يخضع للمصادفة التي هي اسم مستعار للقدر. فلنتأمل «الحلم 428» من «الأحلام الأخيرة» الذي يمضي على هذا النحو: «رأيتني أجد المرحومة (ب) تحت شجرة جميز، فقلت لها إني كثيراً ما أراها في أحلام اليقظة والنوم، فماذا فرّق بيننا؟ فقالت لي: تذكر ما حدث في شارع الكورنيش، فقد تبعتني خطوة بخطوة حتى تمنيت أن توجّه لي كلمة فأستجيب لك فوراً. فلما طال انتظاري قررت أن أتغلب على خجلي وأنظر خلفي نحوك، ولكنك أرخيت جفنيك فتولاني اليأس من ناحيتك. فقلت: يا للخسارة، فإن السعادة قد سعت إليّ حتى قد كانت منّي على بعد قيراط، فماذا أعماني عنها؟» (الشروق 2015).

في هذا الحلم، كان إرخاء الجفون في اللحظة الخطأ سبباً لضياع حب العمر. خضوع المصير البشري للمصادفة القادرة على العصف بالجهد البشري في لحظة، هو فكرة محورية عند الكاتب، تتكرر في رواياته وقصصه القصيرة، وتلخصها هذه الخاطرة.

وليس بعيداً من المصادفة في فن نجيب محفوظ، الدور الذي تلعبه أداة أخرى، هي المفارقة، أو الموقف الذي ينطوي على تضاد يبعث على التأمل. ولننظر في هذا التفصيل من رواية «الطريق» (1964). في هذه الرواية تقع جريمة قتل على يد الشخصية الرئيسية، صابر سيد الرحيمي. يقتل صابر صاحب الفندق العجوز الذي يقطن به، والذي يقف حائلاً بينه وبين امتلاك زوجته الشابة التي أقام معها علاقة سرية. يهمني هنا فقط أداة الجريمة التي يحددها محفوظ بدقة متناهية. هي قضيب من الحديد كان في الأصل «رِجل كرسي ولادة أثري»، تشتريه كريمة، الزوجة المشتركة في الجريمة، من إحدى أسواق البضائع المستعملة. لماذا يحرص محفوظ على تحديد مصدر القضيب الحديدي؟ لأنه كان مغرماً بالمفارقات. أداة الموت تأتي من كرسي ولادة قديم. هذا الكرسي الذي كان أداة حياة شهدت ولادة الآلاف، صار الآن مكلّفاً بمهمة عكسية. صار مكلّفاً بسفك الدماء. بالقتل والإماتة. مفارقة تعب محفوظ في العثور عليها. كان من الممكن أن تكون أداة القتل سكيناً، أو ساطوراً، أو شاكوشاً، أو هراوة غليظة، أو، أو... إلا أن محفوظ ترك هذا كله وسعى إلى قضيب حديدي، ثم سعى إلى مصدره، فجعله رجل كرسي ولادة. مجرد تفصيل صغير، إلا أنه يظهر كيف أن الكتابة فعل عمدي. إنه عند الكاتب العظيم لا تفصيل من دون قصد. كل كلمة في محلها، وكل صورة لها وظيفة تسهم بها في الصرح الكبير الذي هو الرواية. قد يعبر القارئ المتعجل مثل هذا التفصيل، فلا يرى ما وراءه، أما القارئ المتمهل، فستصدمه المفارقة وتدعوه للتأمل في مفارقات الحياة، في سخرية الأقدار، في تداخل الحياة والموت، في حيادية الأشياء أمام قصد الإنسان: الكرسي يؤدي ما يريده منه الإنسان وإن تضادت المهام الموكلة إليه: تريدني أن أُعِين امرأة على الولادة، أو تريدني أن أهشم رأس رجل حتى الموت، سمعاً وطاعة، ما أنا إلا جماد في يد إنسان.

خضوع المصير البشري للمصادفة القادرة على العصف بالجهد البشري في لحظة هو فكرة محورية عند محفوظ

الموت

في الستينات من القرن الماضي انشغل محفوظ بالقضايا الوجودية الكبرى: الله والإنسان، الحياة والموت، المعنى والعبث، الفرد والسُّلطة... إلخ. من تلك الفترة تأتي قصة «ضد مجهول» في مجموعة «دنيا الله» (1963). في تلك القصة يبدو واضحاً انشغال محفوظ بهاجس الموت. هو بالطبع هاجس متواتر في أعماله كلها، إلا أن عدداً لافتاً للنظر من قصص هذه المجموعة منشغل بمسألة الموت انشغالاً فلسفياً متأملاً محتاراً متسائلاً. قصة «ضد مجهول» تتتبع تحقيقاً جنائياً في سلسلة جرائم تُرتكب بالأسلوب نفسه في كل مرة، ومن دون دافع للجريمة، ومن دون أن يترك المجرم أي أثر يمكن أن يؤدي إليه. كما أن القاتل يُنوّع في قتلاه، فلا ينجو منه رجل أو امرأة، طفل أو بالغ، شاب أو شيخ، صحيح أو مريض، غني أو فقير، متسول شريد أو ساكن قصور، حاكم أو محكوم. ينقلب البلد رأساً على عقب، ولا يصبح لأجهزة الدولة ولا لأجهزة الإعلام من شاغل إلا هذا المجرم الطليق الذي يواصل جرائمه بلا رادع ولا هدف إلا القتل في ذاته، وبلا أمل في القبض عليه أو إيقافه. يعيش الناس في رعب مقيم ليل نهار، لا حديث لهم إلا القاتل الخفي وجرائمه، لا يدرون من يكون الضحية التالية لذلك المجرم الطاغية الذي تُسجّل كل جرائمه «ضد مجهول».

القصة رمزية، وتعمل على مستويين -كما الحال في كثير من أعمال محفوظ- أحدهما واقعي سطحي، والآخر رمزي دفين. على المستوى الرمزي في هذه القصة الرائعة ليس القاتل المجهول العصي على الاكتشاف إلا الموت نفسه.

* أستاذ فخري في جامعة «إكستر» بالمملكة المتحدة.


مقالات ذات صلة

هدر المال الثقافي في العراق

ثقافة وفنون شعار مهرجان المربد

هدر المال الثقافي في العراق

يتصور بورديو أن «رأس المال الثقافي يشتغل كعلاقة اجتماعية داخل نظام تداولي، يتضمن معرفة ثقافية متراكمة تمنح سلطة ومكانة»

أحمد الزبيدي
ثقافة وفنون ملف الطالب طه حسين... حقبة غير معروفة

ملف الطالب طه حسين... حقبة غير معروفة

عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، صدر كتاب «وثائق ملف الطالب طه حسين» للباحثة د. جيهان أحمد عمران.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون أوهام العالم الرقمي

أوهام العالم الرقمي

تتأمّل رواية «الحياة السريّة لمها توفيق» (منشورات المتوسط - ميلانو) مراوحات التأرجح الإنساني بين قطبي الحياة بواقعيتها من جهة وافتراضيتها «الرقمية» من جهة أخرى

منى أبو النصر
كتب توماس ديكسون

الانفعال بين علم النفس والأدب

كتاب صغير عن موضوع كبير. ففي نحو 150 صفحة من القطع الصغير، تحت عنوان «تاريخ الانفعالات: مدخل بالغ الإيجاز»

د. ماهر شفيق فريد
كتب غلاف موت صغير

لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

كان لترجمة الدكتورة، مارلين بوث، رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر» دور في تقوية اهتمام صغير لديّ؛ الاهتمام بتغيّر، أو ضياع العناوين الأصلية لبعض الروايات العربية

د. مبارك الخالدي

جامعات النخبة تفتح أبوابها أمام الثورة الرقمية

جامعات النخبة تفتح أبوابها أمام الثورة الرقمية
TT

جامعات النخبة تفتح أبوابها أمام الثورة الرقمية

جامعات النخبة تفتح أبوابها أمام الثورة الرقمية

جويس كارول أوتس، واحدة من أحبّ كُتّاب الرواية إليّ، ومعرفتي بها بعيدة، تمتد لعقود طويلة، قرأتُ لها كثيراً من رواياتها المترجمة وغير المترجمة. هي ليست كاتبة رواية فحسب؛ بل شخص متعدّد الانشغالات: أستاذة جامعية مرموقة، تشغل موقعاً مميزاً في جامعة برينستون النخبوية الأميركية، منذ ما يقارب أربعين سنة، فضلاً عن كونها مترجمة، وكاتبة مقالات وقصة قصيرة، وشاهدة على تحوّلات العصر الأميركي والعالمي.

أعرف من خبرتي الطويلة مع أوتس أنها تدرّسُ مادة «الكتابة الإبداعية» (Creative Writing) في جامعة برينستون؛ لكني اندهشتُ إذ وجدتها تروّجُ لمقرَّر دراسي رقمي عنوانه «MasterClass»، لا يكلِّفُ المرء سوى 15 دولاراً في الشهر، وتلك كلفة لا تُعدُّ شيئاً مذكوراً بالمقارنة مع آلاف الدولارات التي يتطلّبها القبول في برنامجها الدراسي بجامعة برينستون. الأمر لا يحصل بمحض صدفة، أو توجّهات رغبوية منفلتة، لا تجري الأمور على هذا النحو في المجتمعات المتقدمة تقنياً وعلمياً.

ثمة أمور دافعة لمثل هذه التحوّلات الدرامية في نمط التعليم الجامعي، وسرعة انفتاحه على التقنيات الرقمية، أظنُّ أنّ جواباً وافياً وجدته في كتاب منشور أواخر عام 2023، كتبه البروفسور مايكل دي. سميث (Michael D. Smith)، عنوانه: «الجامعة المتاحة للجميع... إعادة تشكيل التعليم العالي ليتناغم مع عالم رقمي» (The Abundant University: Remaking Higher Education for a Digital World).

يعمل مؤلف الكتاب أستاذاً للتقنية المعلوماتية والتسويق بجامعة كارنيغي- ميلون الأميركية، وهو مُولَع بدراسة الكيفيات التي يمكن عبرها للتقنيات الجديدة، (وبخاصة تقنيات صناعة الترفيه)، لعبُ الأدوار العظيمة في قدرة التأثير على الأفراد والشركات معاً.

الكتاب من منشورات معهد ماساتشوستس التقني، وتلك إشارة إضافية إلى جدّية التغيير الرقمي الذي سيطول التعليم العالي في الولايات المتحدة الأميركية والعالم بأسره، معهد «MIT» هو أقرب إلى الأب الأكبر، أو المطبخ التقني الأعظم إذا شئت، للتقنيات الحديثة، وسيكون لأي كتاب منشور عنه يبشرُ بالثورة الرقمية القادمة وقعٌ عظيم، لا يمكن التغافل عنه.

المدهش في مقدّمة الكتاب أنها تقدّمُ جواباً لتساؤلي السابق؛ حيث يؤكدُ المؤلف أنّ التعلّم من خبرة أوتس بطريقة مباشرة، وبالكيفية الجامعية التقليدية، يُعدُّ امتيازاً عظيماً، تحظى به قلّة مخصوصة فحسب، ولكي يوضّح المؤلف الأسباب التي تقف وراء هذا، يُورِد إحصائيات مثيرة؛ حيث تقدَّم عام 2021 بطلبات الدراسة في مقرّر أوتس للدراسة الإبداعية 37601 متقدم، قُبِل منهم 1498، أي ما نسبته المئوية 3.98 في المائة، وهي نسبة ضئيلة للغاية، هذه النسبة الشحيحة ستعمل -مثلما عملت في عقود سابقة- على ترسيخ سياسات «الشحّة» (Scarcity Policies) في التعليم الجامعي، ومن بعض مفاعيل هذه السياسات أنّ المرء يضطرُّ إلى التضحية بمال كثير، مشفوعاً بتوصيات عديدة، تؤكّدُ قدرته وتفوقه على الآخرين، واستكماله لشروط البرنامج الدراسي الذي يريد الالتحاق به.

تطلّب الالتحاق ببرنامج أوتس في الكتابة الإبداعية لعام 2021 (وهو جزء من المتطلبات المالية للالتحاق بجامعة برينستون) 80 ألف دولار في السنة! إلى جانب متطلبات أخرى مُجهِدة.

تغيَّر الأمر عندما أعلنت أوتس عن برنامجها الدراسي «MasterClass» لتعليم فن القصة القصيرة، لقاء 15 دولاراً في الشهر، وفرة في المادة التعليمية ووسائط اكتسابها، مقابل شحة في الدولارات التي يدفعها المرء.

يبدو أنّ السياسة التعليمية الجامعية انعكست؛ إذ بهذه الدولارات الشحيحة يمكن للراغب ولوجُ تجربة تعليمية عالمية مرموقة المواصفات، متاحة كل حين وفي كلّ مكان، باستخدام هاتف ذكي، أو حاسوب محمول، أو أي مشغّل وسائط رقمية أخرى، ربما لن يحصل المنخرطون في هذه التجربة التعليمية الرقمية على الخبرة ذاتها التي سيحصلون عليها لو حضروا الصفوف الدراسية التي تُحاضِر فيها أوتس شخصياً.

هذا صحيح، وصحيحٌ أيضاً أنّ أوتس لن تخصّص لهم من وقتها مثلما تفعل مع طلبتها في برينستون؛ لكن تبقى التجربة الرقمية مثيرة وواعدة بكثير من النتائج الطيبة. هذا ما يؤكّده كثير ممن حضروا الصفوف الرقمية.

أحدُ مؤشرات نجاح التجربة أنّ كثيراً من كُتّاب الرواية العالميين جعلوا من أوتس نموذجاً صالحاً للتمثل والمحاكاة، ومن هؤلاء: مارغريت آتوود، ومالكولم كالدول، وآمي تان.

ولم يقتصر الأمر على كُتّاب الرواية؛ فهناك مثال عالم الاقتصاد المميز بول كروغمان، وأستاذة التاريخ الأميركي دوريس كيرنس غودوين، وأستاذ الصحافة الشهير بوب وودوورد، المعروف بحنكته الاستقصائية اللامعة.

ينتابُ كثيراً منا كثيرٌ من الشكوك والريبة بشأن قدرة التعليم الجامعي الرقمي، ولنا معاذيرنا المسوِّغة لشكوكنا. لو وضعنا جانباً أننا نميل لمعاكسة كلّ انعطافة تقنية بفعل ضواغط التقاليد الراسخة، فإنّ الأمر يتطلبُ بعض المراجعة التاريخية.

ظلّت الجامعات والكليات عبر القرون الخمسة الماضية (دعونا نتذكر أنّ جامعتَي أكسفورد وكمبردج تأسَّستا بدايات القرن الثالث عشر!) مؤسسات تتمتع باستقرارية راسخة؛ كونها جزءاً من الحكاية الوطنية (National Story) لكلّ بلد تأسست فيه، وفي هذا الشأن يُورِد كلارك كير، وهو رئيس سابق لإحدى جامعات كاليفورنيا، أنّ الجامعات والكليات كانت بين القلة القليلة من المؤسسات الخمس والثمانين التي بقيت محافِظة على هيكليتها الأساسية منذ عام 1520؛ لذا كانت لها كلّ السطوة الثقافية والهيمنة الفكرية التي عُرِفَت بها.

ومن الواجب والبديهي أن نتساءل: كيف حافظت الكليات والجامعات على سطوتها الثقافية والفكرية كل هذه القرون؟ الجواب يكمن في إدارتها لسياسة «الشحة»، واعتمادها نموذجاً يقوم على «الشحة»، ويتأسس نموذج «الشحة» الجامعية على معالم ثلاثة:

المَعْلَم الأول: شحة المدخلات الجامعية (محدودية أعداد الطلبة المقبولين، بالمقارنة مع أعداد المتقدمين للدراسة، ومحدودية أعداد الدارسين في الصف الدراسي).

المَعْلَم الثاني: شحة الوسائل التعليمية (محدودية أعداد خبراء التعليم والأساتذة الجامعيين المؤهَّلين تأهيلاً عالياً).

المَعْلَم الثالث: شحة المُخرَجات الجامعية (محدودية أعداد حملة الشهادات الجامعية بالمقارنة مع غير الحاصلين عليها، ومحدودية أعداد الجامعات والكليات ذات الشهرة العالمية).

عنوان التعليم الجامعي الكلاسيكي هو الشحة، وهذه الشحة يراها راسِمو سياسات التعليم العالي وسيلة تنافسية، تُبقي على جذوة الرغبة في التعلّم متّقِدة في الأرواح، بعيداً عن الابتذال والاستسهال اللذَين يُوهِنان الأرواح الفتية.

من الطبيعي أن قانون حصر التعليم العالي بين قلّة منتخَبة سيكون هو السياسة المتبَعة؛ لعدم قدرة التعليم الجامعي المتّسم بالشحة على الإيفاء بكلّ الاحتياجات التعليمية للجميع. هل نتخيل المشهد الجامعي في ظلّ سياسات الشحة؟ أعداد هائلة من الراغبين في التعليم الجامعي الأوّلي والعالي ستتقاتلُ على مقاعد محدودة.

وسيدفع هذا الأمر لزيادة الأقساط الجامعية سنوياً، حتى بلغت مستويات فلكية، إنها سياسة العرض والطلب التي تعمل بكلّ قوتها طبقاً للاقتصاد الكلاسيكي. يكفي أن نعلم أنّ الخريجين الأميركيين عام 2020 حملوا على أكتافهم عبء قروض جامعية بلغت 1.7 تريليون من الدولارات، وهنا لن يكون غريباً أن نفهم السبب في كون هذه القروض عُرضة للألاعيب الانتخابية الأميركية، تماماً مثل برامج الرعاية الصحية.

صار من الواضح لصانعي السياسات التعليمية الجامعية في أميركا، أنّ النظام الجامعي الحالي يفشل، ومعالم هذا الفشل تكمنُ في ابتعاده عن تمثّل الحدّ الأدنى من العدالة والمساواة بين المتقدمين؛ لأنّه يحابي المقتدرين مالياً دون سواهم، وخصوصاً في نطاق جامعات النخبة (Ivy League)، ثمّ هناك الاستطلاعات الحديثة التي أبانت أنّ 11 في المائة فحسب من قادة الأعمال يرون أنّ خريجي الجامعات الأميركية يفُون بمتطلّبات دفع عجلة التقدم التقني والمالي في مشاريعهم الكبرى.

الجامعات والكليات الأميركية بتكاليفها الفلكية صارت على المحكّ القاسي، ولا بدّ على الأقل من مراجعة السياسات الجامعية. هنا من المفيد أن نتذكّر أنّ أقطاب التقنيات الأميركية الرقمية لم يكملوا دراساتهم الجامعية بصورة نظامية؛ الأمر الذي جعل منهم نماذج أيقونية كبرى يسعى الشباب الأميركي لمحاكاة تجاربها.

ما البديل المناسب والأكثر معقولية ومقبولية، والأقل كُلفة، والأنسب للاحتياجات الشخصية من التعليم الجامعي التقليدي؟ إنه التعليم الرقمي بلا شك، هذه هي كل الحكاية ببساطة.

*****

يمكن تلخيص فكرة الكتاب في المؤشرات الأربعة التالية:

- نظام التعليم العالي الحالي لم يَعُد من الممكن إدامته مالياً وأخلاقياً.

- معضلة التعليم العالي الحالي هيكلية، بمعنى ليس بالمستطاع علاج أمراضه باللجوء إلى نموذج الشحة. لا بدّ من نموذج وفرة (Abundance) بديلاً عن الشحة.

- التقنيات الرقمية تمثّل انعطافة ثورية تُتيح لنا اعتماد نظام تعليم جامعي بديل يقوم على الوفرة.

- للمساهمة في الثورة التعليمية الجديدة، يجب على العاملين في التعليم الجامعي إعادة تشكيل رؤاهم للتعليم الجامعي، بُغية تعظيم مشاركتهم فيه، بدلاً من أن يكونوا عصاً تُعيق مساره. التغيير قادم لا محالة، ومن المفيد للجميع تسهيل أمر التحوّل بأقلّ التكاليف الممكنة.

قد يبدو الكتاب غارقاً في المحلية الأميركية؛ لكنه يحكي حكاية سنواجهها جميعاً أينما كنا، وسيكون من المفيد التحسّبُ لها ومواجهتها، والاستفادة العظمى من تجارب من سبقونا في التعامل معها.

عاجل تحالف اليسار الفرنسي يتقدم في المرتبة الأولى أمام معسكر ماكرون واليمين المتطرف (تقديرات)