ولّادة وابن زيدون: المرأة المعشوقة في أندلس الفقدان

علاقتهما الوثيقة أفسدتها الخيانة والنزوع النرجسي وغريزة الانتقام

لوحة «فاصل رومانسي» المستوحاة من الأندلس للتشكيلي النمساوي - الفرنسي رودلف إرنست (دار سوذبيز)
لوحة «فاصل رومانسي» المستوحاة من الأندلس للتشكيلي النمساوي - الفرنسي رودلف إرنست (دار سوذبيز)
TT

ولّادة وابن زيدون: المرأة المعشوقة في أندلس الفقدان

لوحة «فاصل رومانسي» المستوحاة من الأندلس للتشكيلي النمساوي - الفرنسي رودلف إرنست (دار سوذبيز)
لوحة «فاصل رومانسي» المستوحاة من الأندلس للتشكيلي النمساوي - الفرنسي رودلف إرنست (دار سوذبيز)

لم يكن بالأمر المفاجئ أن تؤول العلاقة بين ولادة وابن زيدون إلى فشل محقق لأن نرجسية كل منهما وطبعه المزاجي كانا يضعانهما في حالة من التصادم

قلّ أن حملت علاقة عاطفية بين عاشقين من الدلالات الاجتماعية والسياسية والنفسية، مقدار ما حملته علاقة الحب التي ربطت بين ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، على المفترق الزمني الفاصل بين نهاية الحكم الأموي للأندلس وبداية عصر الدويلات وملوك الطوائف. لذلك فإن أي قراءة معمقة لهذه العلاقة لا يمكن أن تتم إلا في ضوء معطيين اثنين، يتعلق أولهما بالموقع الشخصي والثقافي والاجتماعي المتميز لكل من العاشقين اللذين ينتميان إلى بعض أعرق الأسر العربية وثانيهما بالظروف السياسية التي شهدها مسرح العلاقة بين الطرفين، وأثر هذه التحولات السلبي على تطور العلاقة ومآلاتها اللاحقة.

وإذا كان المفكر التونسي الطاهر لبيب، قد درس ظاهرة الحب العذري من الزاوية السوسيولوجية التي تربط بين تراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي لبني عذرة في صدر الإسلام وبين حالة الانكفاء المازوشي على الذات التي جسدتها رؤيتهم المثالية للمرأة والحب، فإننا في ضوء المقاربة نفسها نستطيع أن نقارن بين التقهقر الدراماتيكي لعلاقة ابن زيدون بولادة، وبين حالة التشرذم والتصدع التي أصابت الأندلس زمن ملوك الطوائف في القرن الحادي عشر، الأمر الذي عبر عنه ابن العسال بقوله:

يا أهل أندلسٍ حثّوا مطيّكمُ

فما المقام بها إلا من الغلطِ

الثوب ينسُل من أطرافه وأرى

ثوب الجزيرة منسولاً من الوسطِ

ومع ذلك فإن الصراعات السياسية والعسكرية التي حكمت العلاقة بين الممالك المتنابذة، والتي أدت إلى سقوط طليطلة بيد الإسبان، لم تنعكس بشكل سلبي على الأدب والفن، بل تحولت رعاية الإبداع والمبدعين إلى محل للمنافسة والمباهاة بين أمراء الدويلات، الأمر الذي يذكر بدويلات المشرق وتنافس بلاطاتها على الاحتفاء بالشعراء والعلماء والمفكرين، كما حدث في بلاط سيف الدولة على سبيل المثال لا الحصر. وفي ظل مناخ الانفتاح ذاك، وما واكبه من تعزيز دور المرأة وحقها في العلم والحرية، توفرت لولادة بنت المستكفي كل الشروط الملائمة لتصدّر المشهد الثقافي في قرطبة، عبر عقد مجلس أدبي دوري يلتقي فيه كبار الشعراء والكتاب، بمن فيهم ابن زيدون، الذي كان له من اتقاد موهبته وقوة حضوره، ما لفت إليه نظر ولادة وجعلها تبادله الإعجاب بالإعجاب والعشق بمثله، إلى أن باتت قصة حبهما في صعودها وهبوطها إحدى اكثر قصص الحب شيوعاً في التاريخ العربي.

على أن أي مقاربة موضوعية لشخصية ولادة وسلوكها العاطفي، يجب ألا تكتفي بالتركيز على ترف النشأة وسلوك الأب العبثي فحسب، بل على المصير المأساوي لهذا الأخير، الذي ولد لدى الابنة افتقاراً لاحقاً الى الحنان والحدب والحماية الأبوية، ومعطوفاً على نرجسية فاقعة وانعدام القدرة على المسامحة والغفران، ونزوع سادي سببته الرغبة في الانتقام للأب المقتول. كما حملها على التصدي الجريء للتقاليد الذكورية المزمنة التي حظرت على الشاعرات الحرائر نظم الغزل الصريح، حاصرة إياه بالقيان والجواري، المنوطات في الأصل بتوفير المتع الحسية لأسيادهن. أما أكثر نصوص ولادة تعبيراً عن جرأتها وتحررها من التقاليد فقد تمثلت ببيتيها الشهيرين:

أنا والله أصلح للمعالي

وأمشي مشيتي وأتيه تيها

أمكّن عاشقي من صحن خدي

وأعطي قبلتي من يشتهيها

وإذا كانت سكينة بنت الحسين قد سبقت ولادة إلى تأسيس المجالس الأدبية، فإن بين المرأتين وجوهاً عديدة للشبه تتصل بفقدان الأب على نحو مأساوي، رغم التباينات الشاسعة بين شخصيتي الحسين والمستكفي. وهما إذ تتشابهان أيضاً في الجمال وسحر الحضور والتشبث بالحرية، فإن الفوارق بين السلوك المحافظ للأولى والمتجرئ للثانية، لا تتصل بنشأة كل منهما وتربيتها المختلفة فحسب، بل بالفوارق الأوسع بين عصرين متباعدين وبيئتين شديدتي التباين.

ومع أن ما تقدم يؤشر بوضوح إلى أن ظروف ولادة وتكوينها النفسي قد أورثاها عطشاً للحب عصياً على الارتواء، لكن الحب بالنسبة لها بدا أقرب إلى التلقي منه إلى الإرسال، وإلى الأخذ منه إلى العطاء. وهي حين وقعت في حب ابن زيدون، فلأن فيه من المواصفات ما يجعله نداً لها في النسب والرفعة، ومتجاوزاً إياها على مستوى الموهبة الشعرية، ولذلك لم يكن غريباً أن تبادله الشغف بالشغف والافتتان بمثله، وتدعوه إلى انتظار زيارتها بالقول:

ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي

فإني رأيتُ الليل أكتم للسرِّ

وبي منكَ ما لو كان في الشمس لم تلح

وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسْرِ

لكن ذلك الحب المحفوف بالعقد كان ينتظر الفرصة السانحة للانتقام من الذات ومن الآخر، التي وفرها ابن زيدون عبر إقدامه على خيانة ولادة، ومع جاريتها «السوداء» بالذات، حيث اقترنت الطعنة الناجمة عن الخيانة بطعنة مماثلة أصابت كرامة الشاعرة «البيضاء» في الصميم. وهو ما يعكسه قولها لابن زيدون إثر معرفتها بخيانته:

لو كنتَ تنصفُ في الهوى ما بيننا

لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّرِ

وتركتَ غصناً مثمراً بجماله

وجنحت للغصن الذي لم يثمرِ

ومع أنني لا أستبعد الأثر السلبي الذي تركه في نفس ولادة انتقاد ابن زيدون لها على أبيات نظمتها، وهي المفرطة في الكبرياء والاعتداد بالنفس، إلا أن ذلك الأمر بدا بمثابة القشة التي قصمت ظهر العلاقة المترنحة في الأصل. لكن ما آلمها في الصميم هو عدم اكتفاء ابن زيدون بخيانتها، بل هجاؤه لها بشكل لاذع إثر معرفته بالعلاقة التي بدأت بنسجها مع ابن عبدوس، الأمر الذي جعلها تحرق من خلفها سفن العلاقة دون أي تفكير بالرجوع.

أما من الزاوية المتعلقة بابن زيدون، فيكفي أن نستعرض ديوانه الشعري لكي نتيقن من الدور المحوري الذي لعبته هذه المرأة الفاتنة في حياته، على المستويين الشخصي والإبداعي. وإذ يقر الشاعر في إحدى مقطوعاته بخيانته لولادة مع جاريتها عبر قوله «إن أجنِ ذنباً في الهوى/ خطأ فقد يكبو الجواد»، لا يتوانى في مقطوعة ثانية عن التغزل بجارية أخرى متعمداً إثارة غيرة حبيبته الصدود بقوله:

عاودتُ ذكرى الهوى من بعد نسيان

واستحدث القلب شوقاً بعد نسيان

من حب جارية يبدو بها صنم

من اللجين عليه تاج عقيان

كما يتبين لنا من خلال الديوان أن ابن زيدون، وقد آلمه أشد الألم ارتماء ولادة الانتقامي في أحضان ألد خصومه إلى الإقدام على تعنيف ولادة وضربها، كما يظهر في قوله نادماً ومعتذراً :

إن تكن نالتكِ بالضرب يدي

وأصابتكِ بما لم أُردِ

فلقد كنت لعمري فادياً

لكِ بالمال وبعض الولدِ

غير أن ولادة قررت أن تصم سمعها بشكل نهائي عن نداءات ابن زيدون ومناشداته لها بالعودة. وحيث لا تأتي المصائب فرادى في حياة البعض، فقد اقترنت مأساة الشاعر العاطفية بمأساة أخرى موازية حين زج به ابن جهور حاكم قرطبة في السجن بتهمة التآمر ضده، وبناء على دسيسة حاقدة يقال إن ابن عبدوس كان مهندسها الرئيسي. اللافت أن ابن زيدون ظل على حبه لولادة بعد فراره من السجن والتحاقه ببلاط المعتضد بن عباد في إشبيلية وتعيينه وزيراً هناك، وصولاً إلى لحظة وفاته عام 1072م، أي قبل عشرين عاماً من رحيل المرأة التي خلخلت ركائز حياته واقترن اسمها به، وعمرت طويلاً من بعده.

ولم يكن بالأمر المفاجئ أن تؤول العلاقة بين ولادة وابن زيدون إلى فشل محقق، شأنهما في ذلك شأن شعراء ومبدعين كثيرين، لأن نرجسية كل منهما وطبعه المزاجي كانا يضعانهما في حالة من التصادم يصعب وضع حد لها إلا بالفراق، وإذا كان ابن زيدون قد دفع القسط الأوفر من أكلاف هذه العلاقة التي حولته بالتدريج إلى بطل تراجيدي، فإن ما خسره على مستوى الحياة ربحه بالمقابل على مستوى الشعر. وهو ما لم تجسده قصيدته المعروفة «أضحى التنائي» بمفردها، بل نصوص كثيرة أخرى تعكس انكسار قلبه، وتحول الآخر المنشود في شعره إلى منادى بعيد في أندلس الفقدان:

أغائبةٌ عني وحاضرةٌ معي

أناديكِ لما عيل صبريَ فاسمعي

أفي الحق أن أشقى بحبكِ أو أُرى

حريقأً بأنفاسي غريقاً بأدمعي

ألا عطفةٌ تحيا بها نفس عاشقٍ

جعلتِ الردى منه بمنأىً ومسمعِ

صلينيَ بعض الوصل حتى تَبيّني

حقيقة حالي ثم ما شئتِ فاصنعي

وإذ يلح ابن زيدون على مخاطبة ولادة بصيغة المذكر في الكثير من مقطوعاته، فليس لأن العرب قد درجوا في شعرهم على تحويل المعشوق إلى كائن محلق خارج الأجناس فحسب، بل لأنها وقد أصبحت الطرف الأقوى في العلاقة، انتقلت على المستوى الرمزي إلى خانة الذكورة، تاركة لشاعرها المهيض دور الأنوثة الرمزية. لا بل إن تمادي الشاعر في التذلل يدفعه إلى التصريح المتكرر بأنه بات أسير المعشوق وعبده وتابعه.

اللافت أن انسحاق ابن زيدون التام أمام ولادة، لم يرقق قلبها إزاءه، كما كان يتوهم، بل زادها قسوة عليه ونأياً عنه، ربما لأنه لم يعد يذكّرها بالرجل السابق ذي الشخصية القوية الذي كانه من قبل، ولأن ضعفه المستجد أثار نفورها وسخطها في الآن ذاته، وهي التي لم تعد تحتاج بعد مقتل أبيها المأساوي إلى من يذرف الدموع نيابة عنها، بل إلى ظهير صلب يشاطرها مصاعب الحياة، حتى ولو كان مخاتلاً وفاسد السريرة كابن عبدوس.


مقالات ذات صلة

رحيل الشاعر والصحافي العراقي مخلص خليل في غربته

ثقافة وفنون رحيل الشاعر والصحافي العراقي مخلص خليل في غربته

رحيل الشاعر والصحافي العراقي مخلص خليل في غربته

أصدر مخلص خليل عدداً من المجموعات الشعرية، وكان من الأصوات البارزة في فترة السبعينات.

يوميات الشرق صوتٌ يتيح التحليق والإبحار والتدفُّق (الشرق الأوسط)

كاظم الساهر في بيروت: تكامُل التألُّق

يتحوّل كاظم إلى «كظّومة» في صرخات الأحبّة، وتنفلش على الملامح محبّة الجمهور اللبناني لفنان من الصنف المُقدَّر. وهي محبّةٌ كبرى تُكثّفها المهابة والاحترام.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق مَنْح هبة القواس درع مئوية الجامعة تقديراً لعطاءاتها (الجهة المنظّمة)

مئوية «اللبنانية – الأميركية» تُحييها الموسيقى والشعر

قرنٌ على ولادة إحدى أعرق المؤسّسات الأكاديمية في لبنان، والتي حملت شعار تعليم المرأة اللبنانية والعربية والارتقاء بها اجتماعياً واقتصادياً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق قضى الأمير بدر بن عبد المحسن خمسة عقود في إغناء الوسط الثقافي وكتابة الشعر وتدبيج القصائد وتزيين خرائط الوجدان (حساب الأمير على «إكس»)

«المختبر السعودي للنقد» يبدأ باكورة أعماله بقراءة جديدة لأعمال الأمير بدر بن عبد المحسن

يبدأ «المختبر السعودي للنقد» باكورة أعماله بتقديم قراءة نقدية جديدة لأعمال وإنتاج الأمير الراحل بدر بن عبد المحسن.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد المحسن خلال مشاركته أمسية شعرية في باريس (الشرق الأوسط)

فنانون وشعراء يودعون أيقونة الشعر بعد خمسة عقود من العطاء

نعى شعراء وفنانون الأمير البدر، وتجربته التي امتدت لـ5عقود، غنى له خلالها نخبة من فناني العالم العربي، وتعاقبت الأجيال على الاستماع والاستمتاع ببراعته الشعرية.

عمر البدوي (الرياض)

مجسّمان جنائزيان من مقبرة «سار» الأثرية

مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة
مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة
TT

مجسّمان جنائزيان من مقبرة «سار» الأثرية

مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة
مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة

خرجت من مقبرة «سار» الأثرية في البحرين مجموعة كبيرة من القطع الفنية النحتية تعود إلى الحقبة التي عُرفت فيها الجزيرة باسم تايلوس، بين القرن الأول قبل الميلاد، والقرن الثاني للميلاد تحديداً. تشهد هذه المجموعة لثراء هذا الموقع الاستثنائي في ميدان الفنون الجنائزية، وتتميّز بتعددية الطُّرُز الفنية المتّبَعَة في النقش والنحت، كما يتّضح عند دراسة نماذجها المختلفة. وفيما يتبنّى جزء كبير من هذه القطع قوالب جامعة، يتفرّد بعض القطع في المقابل بأساليب تبدو غير شائعة، ومنها قطعة عُرضت في باريس ضمن معرض مخصّص للبحرين، أُقيم في معهد العالم العربي في صيف 1999.

عُثر على هذه القطعة خلال أعمال التنقيب التي أجرتها بعثة محلية بين عامي 1995 و1996 في مساحة محدّدة من مقبرة «سار» التي تقع في المحافظة الشمالية، وتبعد نحو 10 كيلومترات غرب العاصمة المنامة. وكُشف عن هذا الأثر الفني للمرة الأولى في المعرض الذي أُقيم في العاصمة الفرنسية على مدى 4 أشهر، وهو على شكل مجسّم آدمي صُنع من الحجر الجيري، يبلغ طوله 27 سنتيمتراً، وعرضه 10 سنتيمترات، وسُمْكه 7 سنتيمترات. نُحت هذا النصب الصغير في كتلة واحدة تتكون من مساحة مستطيلة تعلوها مساحة دائرية. تمثّل المساحة المستطيلة بدن هذا المجسّم الآدمي، وتمثّل المساحة الدائرية رأس هذا البدن.

تحاكي بنية هذا التكوين بشكل عام طرازاً معروفاً باسم «نفيش»، وهو تعبير آرامي مرادف لتعبير «نفس» في العربية. وهذا الطراز معروف في البحرين، كما تشهد مجموعة من القطع خرجت من مقابر أثرية تقع في المحافظة الشمالية، منها مقبرة الشاخورة، ومقبرة الحجر، ومقبرة أبو صيبع. كما أنه معروف خارج البحرين، كما تشهد قطع مماثلة عُثر عليها في جزيرة تاروت، في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية. يتميّز هذا الطراز بأسلوبه التجريدي الصرف، إذ تخلو مساحته المسطّحة من أي ملامح آدمية، وتمثّل القطع التي تتبنى هذا الطراز شواهد قبور تُغرز في الأرض، وذلك لتحديد موقع الدفن، وتخليد ذكرى من دُفن فيه.

يحاكي المجسّم الذي خرج من مقبرة «سار» هذا الطراز في الظاهر، غير أنه لا يتبنّاه كما يبدو. تتكوّن مساحة هذا المجسّم من كتلة عمودية أسطوانية، وتتميّز بحضور الملامح الآدمية بشكل جليٍّ. الوجه بيضاوي يغلب عليه الشكل الدائري، وملامحه مختزلة غير أنها واضحة، وتتمثل بعينين لوزيّتين صغيرتين نُقشتا بشكل غائر، يتوسّطهما أنف مستطيل طويل نُقش بشكل ناتئ. يحضر الثغر بشكل بسيط، ويتمثّل في كتلة بيضاوية ناتئة بشكل طفيف، يخرقها في الوسط شق غائر يفصل بين الشفتين المجرّدتين. وتحضر الأذنان بشكل مشابه، وتتمثّل كل منهما بكتلة نصف دائرية تستقرّ عند حدود العين.

تحمل مساحة البدن شبكة من النقوش المتوازية تشير إلى ثنايا رداء يتلفع به صاحب المجسّم، ومن طرف هذا الرداء المنسدل، تخرج راحة كف اليد اليمنى المنبسطة، مع خمسة خطوط متوازية غائرة ترسم حدود أصابعها الخمس. كذلك، تظهر اليد اليسرى في الطرف المقابل، وتأخذ شكل كتلة بيضاوية مجرّدة تحتجب تحت ثنية الرداء التي تُمسك بها كما يبدو. يصعب تحديد وظيفة هذا المجسّم، والأرجح أنه صُنع ليرافق المتوفى الراقد في القبر كما يرى أهل الاختصاص. يشابه هذا المجسّم شواهد القبور التي تصنّف تحت خانة «نفيش»، ويختلف عنها بكتلته الأسطوانية وبملامحه الواضحة. في المقابل، تشير كف اليد اليمنى المنبسطة عند أعلى الصدر إلى نسق فني شائع، يحضر بشكل واسع في شواهد القبور التي تتبنى نسقاً تصويرياً يخرج بشكل كامل عن هذا النسق التجريدي. ويشير هذا العنصر تحديداً إلى وضعية المبتهل التي تكوّنت في العالم الإيراني القديم، في ظل الإمبراطورية الفرثية، وبلغت نواحي عديدة من الشرق القديم، واتّخذت في هذه البقاع أشكالاً متفرّعة جديدة.

تتميّز هذه القطعة بهذا الأسلوب المبتكر، غير أنها لا تتفرّد به، إذ نقع على قطعة مماثلة خرجت كذلك من مقبرة «سار»، وحضرت ضمن معرض آخر خاص بالبحرين أُقيم في المتحف الوطني للفن الشرقي في موسكو في خريف 2012 وحمل عنوان «تايلوس... رحلة ما بعد الحياة»، وضمّ مجموعة مختارة من القطع الأثرية الجنائزية، تختزل «شعائر وطقوس الدفن في البحرين» بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثالث للميلاد. تماثل هذه القطعة في تكوينها كما في حجمها القطعة التي عُرضت في معهد العالم العربي، مع اختلاف بسيط في بعض التفاصيل. ملامح الوجه واحدة، غير أنها تبدو أقل رهافة، كما يظهر بشكل خاص في نقش العينين اللوزيتين. الأنف الناتئ مهشّم للأسف، والأذنان المنمنمتان تحدان مساحة الوجه عند حدود العينين، والثغر شبه ذائب في الكتلة الحجرية.

تغيب ثنايا الرداء عن هذه الكتلة كلياً، وتحضر اليد اليسرى في المقابل، وتظهر أصابعها الخمس بشكل كامل. يتكرّر حضور راحة اليد اليمنى المنبسطة في وضعية الابتهال التقليدية، وتشير إلى ظهور نسق اختمر واكتمل في مرحلة لاحقة، كما تشهد عشرات شواهد القبور التي خرجت من عدة مقابر أثرية في العقود الأخيرة.

في الخلاصة، تمثّل هاتان القطعتان الفريدتان اللتان خرجتا من مقبرة «سار» طرازاً وسيطاً يحمل السمات الأولى لأسلوبٍ محليٍّ يجمع بين أساليب متعدّدة خرجت من العالمين اليوناني والإيراني، وذلك فقاً لمسار حضاري طبع مواقع متعدّدة في الشرق القديم، أشهرها عربياً تدمر في سوريا، والبتراء في الأردن، والحضر في العراق.