الانقسام الآيديولوجي والفلسفي في حياته وبعد رحيله في عمر ناهز الـ94 في باريس، سمة ميّزت الكاتب التشيكي الأصل والفرنسي الجنسية ميلان كونديرا. فقد شاب شخصيته الغموض والالتباس بين الآيديولوجية والحرية وأفق التعبير الحر، لذلك لم يفضّل لقاء الصحافيين، بل كان يكتفي بإثارة الجدل السياسي في روايته بطريقته الساخرة.
لم يلجأ إلى باريس مثل غيره من الكتّاب، بل كان يهدف إلى تغيير لغة التعبير في رواياته. لكن بعض الفرنسيين أحسوا بأن لغته الفرنسية خالية من هيجان الحياة في لغته الأم التشيكية؛ لأن مغامرة اللغة تكمن بين حدود الحنين والمنفى، فيما اعتبره البعض الآخر أنه يسيطر على لغة موليير وأعطى الفرنسية نكهة مغايرة لكن لم يصنف ضمن الكتّاب الفرنكفونيين. لقد ترجمت أعماله إلى نحو أربعين لغة، ومنها العربية لكن هذه الترجمات أي العربية، تم تحقيقها عن لغات وسيطة منها الفرنسية والإنجليزية، لذلك فقدت نكهتها الساخرة عند القراء العرب؛ لأن أعماله تخللتها اللهجة التشيكية الدارجة والتي لم يتمكن المترجمون من التقاطها للأسف الشديد؛ لذلك فقدت سحرها تماماً مثل أعمال الكاتب الفرنسي فيرديناند سيلين الذي جمع بين الفصحى والدارجة، والتي أخفقت الترجمات العربية في نقلها.
من المعروف أن الكاتب التشيكي انتقل إلى باريس في عام 1975. فقد ولد في 1 أبريل (نيسان) 1929 في برنو، تشيكوسلوفاكيا، لأب موسيقي وعازف بيانو، وكان الروائي شاعراً في البداية لكن انتقاله إلى عام الرواية الرحب جعله يخلط بين حياته ككاتب وبين الأدب، ولم يكتف بذلك بل اشتبك مع تاريخ القرن الذي شهد انهيار الشيوعية بعد أن سيطرت على ضمائر جزء كبير من المثقفين الأوروبيين. دراما ستكون أساس كتابات ميلان كونديرا الروائية، حيث نشر روايته الأولى «المزحة» في عام 1967. أشاد بها الشاعر الفرنسي المعروف لويس أراغون، الذي كتب مقدمة عنها في عام 1968 واعتبرها عملاً رئيسياً، ينتمي إلى الطراز الباروكي من خلال عرض مصير الشخصيات الذكورية والأنثوية في أعماله، حيث المواجهة الدرامية والكوميدية بين الحياة الحميمة للفرد، وشخصية الكاتب المراوغة.
كان شيوعياً متحمساً منذ سن الـ18 عاماً عندما انضم إلى الحزب الشيوعي بعد أن تولى السلطة في تشيكوسلوفاكيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكنه سرعان ما أدرك ما فيها من التباسات وغموض؛ إذ كانت مثل السيف الآيديولوجي المسلّط على ضمائر الكتّاب والمثقفين من خلال إجبارهم على الكتابة بلغة ميتة في ظل نظام استبدادي حسب آراء عدد كبير من الكتّاب والمؤلفين، سواء من المنتمين إلى الحزب أو غير المنتمين. وهو يروي خيبة الأمل هذه في روايته الأولى «النكتة» التي سيتم استبعاد إحدى الشخصيات الرئيسية فيها، وهو الشاب لودفيك من الحفلة بسبب كتابته على بطاقة بريدية مرسلة إلى صديق: «التفاؤل أفيون الجنس البشري. والعقل السليم تفوح منه رائحة الهراء. عاش تروتسكي».
يمكن القول إن هذه الفقرة أصبحت الثيمة التي تتكرر في جميع أعماله، بل جعل منها الدراما التي تعيشها أبطال رواياته المسحوقة. وسيتناول الكاتب هذه الفكرة المهيمنة من أجل تحرير خيبة الأمل في جميع رواياته، حيث يسعى إلى تجميل الحالة الإنسانية فيها وإنكار بعدها المأساوي، كما يقول في روايته الشهيرة «كتاب الضحك والنسيان» التي كتبها حين انتقل في الكتابة من لغته التشيكية الأصلية إلى لغة المنفى الفرنسية: «كنت أنا أيضاً في تلك الجولة. كان ذلك في عام 1948، وكان الشيوعيون قد انتصروا للتو في بلدي، وكنت أمسكت بأيدي طلاب شيوعيين آخرين. ثم ذات يوم، قلت شيئاً يجب علي عدم فعله، لذلك تم استبعادي من الحفلة واضطررت للخروج منها». كان ذلك في عام 1979.
تم استبعاده من الحزب لأول مرة في عام 1956، وأعيد إلى منصبه قبل استبعاده نهائياً في عام 1970 بعد مشاركته في ربيع براغ الشهير في عام 1968. كان عضواً في اتحاد الكتّاب - يشارك في معارضة نظام سيتم تطبيعه بالتدخل السوفياتي. وعلى عكس غنائية باريس الثورية في حركتها المماثلة التي دعت في تظاهرتها إلى تنظيف الماضي، دافعت «حركة براغ» عن الثقافة الأوروبية وتقاليدها المهددة بالمادية كما جسّدها في عدد من رواياته، وخاصة في رواية «الحياة في مكان آخر» 1973 التي أكسبته جائزة «الآداب الأجنبية» في فرنسا، وكذلك جائزة «الإندبندنت» لأدب الخيال الأجنبي في عام 1991.
في عام 1995، قرّر كونديرا أن يكتب بالفرنسية من خلال روايته «البطء». مهما يكن من أمر، فقد أعجب الفرنسيون بأسلوبه القائم على المزج بين الابتكار الإبداعي والعمارة الأدبية. وكتاباه «تأملات في فن الرواية» و«ثلاثية حول الرواية: فن الرواية، الوصايا المغدورة، والستار» ينظر فيها لأسلوبه، مستعرضاً فيها فلسفة هوسرل وديكارت في الفلسفة، وسرفانتس ورتيشاردسون، وتولستوي وجويس في الرواية وغيرها من تقنيات الرواية الحديثة. ويذهب كونديرا إلى أبعد من ذلك طارحاً السؤال الأنطولوجي الوجودي الذي يتعلّق بهوية الفرد قائلاً: «ما الفرد؟ وأين تتركز هويته؟». وعن نفسه يقول: «أضع نفسي فيما وراء الرواية السيكولوجية، فلا يعني هذا أنني أريد حرمان شخصياتي من الحياة الداخلية، وإنما يعني أن ثمّة ألغازاً ومسائل أخرى تلاحقها رواياتي في المقام الأول».
وكان يؤكد دائماً أن الرواية يجب أن تدمر كل الأساطير، ولذلك استخدم بعض العناصر المقدسة لتعزيز حياة الشخصيات بهالة الأسطورة أو التقاليد كما في رواية «خفة الكائن التي لا تُحتمل».
يقول: «أنا لست ضد الثورة، ولا ضد الأمومة، ولا ضد الشباب، ولا ضد الشعر، لكن لدي رغبة لا تقاوم في فضح بعض الأساطير». إنها المحاكاة الساخرة في العصور الوسطى التي لا تشبه المحاكاة الساخرة الأدبية في العصر الحديث. ويصب كونديرا كل جهوده الإبداعية في هذه المحاكاة الساخرة، لذلك يعود إلى دون كيشوت على الدوام، باعتباره الساخر الأكبر في الأدب.
لذلك نرى التوتر الأسطوري لشخصيته الرئيسية توماس في رواية «الكائن الذي لا تُحتمل خفته» الذي يترقب عند نافذة شقته، غير متأكد مما إذا كان يجب عليه اختيار تيريزا أو «صداقاته المثيرة» الأخرى ويصل إلى الاستنتاج التالي: «الإنسان لا يستطيع أبداً أن يعرف ماذا يريد لأن لديه حياة واحدة فقط ولا يمكنه مقارنتها بالحياة السابقة، ولا تصحيحها في الحياة اللاحقة. بالكاد يمكنه الهروب والاختيار على وجه اليقين. لذلك ينظر إلى الفناء، وعيناه مثبتتان على الحائط المقابل، ويبحث عن إجابة. يعود، مراراً وتكراراً، إلى صورة هذه المرأة مستلقية على أريكتها، لم تذكره بأي شخص من حياته في الماضي. لم تكن عشيقة ولا زوجة».