العائدون إلى الوحشة... نصوص حول الإياب

قليلون هم الذين وجدوا في العودة ما يؤنس، ناهيك عما يثري

غازي القصيبي
غازي القصيبي
TT

العائدون إلى الوحشة... نصوص حول الإياب

غازي القصيبي
غازي القصيبي

استوحيت عنوان هذه المقالة من كتاب للناقد والشاعر السعودي عبد الله السفر، يضم مقالات كتبها على مدى سنوات حول الشعر استرعت انتباهي، من بينها مقالتان إحداهما حول مجموعة للشاعر العماني سيف الرحبي والأخرى حول قصيدة للشاعر السعودي محمد الحرز. مجموعة الرحبي تثير مسائل «الإياب إلى ما لا يستعاد، وذبل، وطحنته رحى الزمن القاسية»، في حين تتلفت قصيدة الحرز إلى ما يصفه السفر بـ«الوجود المعلق البرزخي، التوتر الدرامي بين الوراء والأمام، حيث الفجوة التي تثغر الشعور بانتظار تثقل وطأته وتتفاقم». هذا الشعور بالانتظار، يقول السفر، «يبقى الكاتب يشاغله بوجود آخر هو الوجود الشعري العصي على التبدد». في كتاب «دليل العائدين إلى الوحشة» (2012) لعبد الله السفر دليل للرؤية الشعرية أيضاً تنبهت إليه وأنا أتأمل حالات وقصائد تشاغلني بقضايا الإياب والالتفات نتيجة لما يثقلها من توقعات تنتهي مرة إلى البهجة ومرات إلى الخيبة.

عبد الله السفر

أما الحالات فعشت بعضها شخصياً حين وجدت نفسي غير مرة في مواطن تنامت فيها الطفولة أو الصبا ولم يتنام أمامي حين عدت إليها سوى الخيبة والانكسار. ولم تكن تلك أطلالاً لأحبة بقدر ما كانت أطلالاً للنفس، للذات التي تظن أن في العودة إلى الأماكن القديمة، بتعبير غازي القصيبي، عودة إلى ما اختزنته الأماكن ويتجدد به العمر. صدر ديوان القصيبي «العودة إلى الأماكن القديمة» عام 1985 وضمنه مجموعته الكاملة التي صدرت عام 1987. نسختي تعود إلى العام التالي فوجدت أن في عودتي إلى النسخة عودة أخرى إلى مكان قديم، ديوان شعر هذه المرة أكتشف فيه ما يؤكد ما ذهب إليه عبد الله السفر في قراءته للحرز، أي أن الإياب إلى ما لا يستعاد لا ينسحب على الشعر نفسه: يستطيع الشاعر أن يشاغل الغياب بوجود الشعر، وهو ما يفعله القارئ/ الناقد أيضاً.

سيف الرحبي

عدت إلى كتاب السفر وقصيدة القصيبي وفي ذهني نصوص من بيئات بعيدة تماماً عن الأحساء، حيث السفر والحرز والبحرين حيث كان القصيبي في صباه. كانت العودة ذاتها حافزي لاستعادة تلك النصوص وتأمل ما يجمعها. من تلك النصوص قصيدة للإنجليزي وليم وردزورث ومذكرات للفرنسي ألبير كامو وقصيدة للكندية/الترينيدادية دايون براند. نصوص شعرية ونثرية موجوعة أو منتشية بالعودة إلى الأماكن القديمة. لكن الوجع والانتشاء ليسا أهم المحصول هنا، وإنما هي الرؤى التي تتحول إلى قصائد تتجاوز الآني إلى المتصل والراحل إلى المقيم. ليس سوى الكلمة المبدعة وسيلة لمناهضة الوحشة ومجالدة الزمن.

«تنترن آبي» اسم مكان وعنوان قصيدة لوردزورث نشرها في أواخر القرن الثامن عشر ليتأمل فيما تركته في نفسه زيارة سابقة للمكان ذاته. هي واحدة من عيون الشعر الإنجليزي وليس شعر الرومانسي وردزورث فحسب. وهي أيضاً من القصائد القليلة بل الاستثنائية لكونها ليست موجوعة بالغياب عن المكان أو مصدومة بتغيره. هي عودة من يرى ما تحقق له رغم الغياب. الوحشة هنا ليست ما يعود إليه ولا ما ينتظره، بل هي غائبة تماماً. المكان كنيسة «تنترن آبي» التي تعود إلى العصور الوسطى والواقعة على الحدود بين إنجلترا ومقاطعة ويلز، حيث الطبيعة الباذخة في الصيف بصفة خاصة، الطبيعة التي تمركز حولها الشعر الرومانسي واستمد منها رؤاه ولغته. يقول وردزورث يقيس أثر المكان عليه بعد أن عاد إليه:

كل هذه الأشكال الجميلة،

طيلة ذلك الغياب الطويل، لم تغب عن بصيرتي

كما يغيب مرأى الطبيعة عن عين الكفيف:

وحيثما كنت وحيداً في حجرتي، أو وسط ضوضاء المدن الصاخبة،

وفي ساعات الملل والقنوط،

كانت تمنحني أحاسيس عذبة،

تسري في دمائي وفي قلبي،

بل وتصل إلى عقلي الصافي ذاته،

لتعيد لي الهدوء والسكينة... (ترجمة عبد الوهاب المسيري ومحمد علي زايد)

قليلون هم الذين وجدوا في العودة ما يؤنس، ناهيك عما يثري. من أولئك الفرنسي ألبير كامو الذي يوصف أحياناً بأنه جزائري أيضاً، وذلك في نص بديع بعنوان «العودة إلى تيبازا»، حيث المدينة الجزائرية مراتع للصبى وبواعث للحنين والذاكرة، لكني أؤثر أن أؤجل الكلام عن ذلك النص الثري والمركب إلى وقفة أخرى. هنا أود المضي إلى النصوص المقابلة تماماً لنص وردزورث، تلك التي لا ترى في العودة أكثر من الألم، إما ألم التغير والمحو وهو الغالب، أو ألم الاستمرار وهو الاستثناء في ظني.

قصيدة الكندية ديون براند تنهض على المفارقة المتمثلة في أن العودة لم تعن التغيير وإنما الثبات. هذه القصيدة سبق لي أن تناولتها في مقالة قديمة نسبياً ونشرت قراءتي في كتاب بعنوان «لغات الشعر» (2011). هنا أريد فقط أن أذكر باختصار ما تتمحور حوله القصيدة. فمن عنوانها يتضح أنها «عودة» إلى مكان قديم، والمكان هو البلاد التي تركتها حين هاجرت إلى كندا، أي ترينيداد، الجزيرة الكاريبية التي تعود إليها لتكتشف أنها لم تتغير وليتبين أن عدم التغير لا يبعث على البهجة وإنما على المفارقة المأسوية. يتضح ذلك لأن التغير المقصود، كما يتضح ضمناً، هو التحسن أو الرقي، أي الحداثة والتحضر، لكن ترينيداد لا تزال على فقرها وبؤس سكانها وكآبة منظرها:

إذاَ ما يزال الشارع هناك، ما يزال يذوب تحت الشمس

ما تزال أمواج الحرارة المشعة عند الواحدة

الرموش المحترقة، تنظر ...

ما تزال دماء الجزار تلطخ جدران السوق...

إلى آخر ما هنالك من مشاهد الثبات البائس. إنها العودة الخائبة، إلى وضع يجعل العودة غير مغرية البتة، بل مدعاة للأسى. وهذه العودة الداعية إلى الأسى هي ما يكتشفه غازي القصيبي حين يعود إلى مرابع صباه في البحرين، القصيبي الذي ولد وعاش كل حياته في السعودية ما عدا فترة طفولة وصبا قضاها في البحرين. تلك الفترة المبكرة تظل حاسمة وثمينة في حياة الإنسان، وهي ما يتأمله الشاعر في زيارة للبحرين أواسط الثمانينات من القرن الماضي وما دونه في قصيدة هي أيضاً عنوان مجموعة شعرية ضمت تلك القصيدة: «العودة إلى الأماكن القديمة».

ما يسترعي الانتباه في قصيدة القصيبي هو الانتقال من طللية رومانسية تتمثل في استدعاء الذاكرة الحميم للأماكن، إلى واقعية اقتضتها صدمة التغيير وتواري الأماكن مما يهدد بانمحاء الذاكرة نفسها. الصدمة، بتعبير آخر، ليست ناجمة، كما عند الشاعرة الكندية، عن الثبات وإنما عن التغير، وبالطبع ليس في هذا جديد على القصيدة العربية التي طالما عرفت البكاء على الأطلال. لكن بداية القصيدة تأتي مثقلة بنذر تلك الصدمة، أي بمشاعر الشيخوخة المتنامية، فالشاعر الآن كهل «تجره الأربعون» ويعلو ثوبه «غبار الصحارى»، في إشارة واضحة إلى انتقاله إلى وسط الجزيرة العربية. يأتي الشاعر باحثاً عن أطلال الطفولة:

كان يغفو في أذرع البحر بيتي

حوله الماء رقصة ولحون

ليصطدم بالتغيير:

ذهب البحر! من ترى اغتال بحري

فهو صخر صلد .. وقار مهين

عندما تقتل الحضارة بحراً

يعول الصمت.. والفراغ الحزين

هذا النعي لما فعلته الحضارة والتنمية سيبدو غريباً وهو يصدر عن شاعر صار وزيراً وارتبط اسمه بمتغيرات الحضارة والتنمية، رجل آمن بالتطوير ودعا إليه ونفذ ما أمكنه تنفيذه منه، لا سيما حين صار وزيراً للصناعة والكهرباء. لكنه الانقسام المألوف بين ذات الشاعر وذات المسؤول. في قصيدته يبدو القصيبي وكأنه يتمنى الثبات الذي اصطدمت به دايون عندما عادت هي أيضاً إلى جزيرة طفولتها. لكن حقيقة الأمر هي أن ما يتمناه القصيبي هو ثباته هو، أي استعادة طفولته لأن الأماكن ليست سوى مرايا تعلن التغيير. حين يتحول الشاعر إلى قيادي ومسؤول وتنفيذي سيكون أحد عوامل ذلك التغيير، ربما لوعيه باستحالة العودة إلى الأماكن القديمة لأنها ببساطة لم تعد هناك ولم يتبق سوى الحاضر والمستقبل. الإنجليزي وردزورث شغل بالحاضر والمستقبل أيضاً لكنه رآهما امتداداً غنياً للماضي وبالماضي. لقد عاش الشاعر الإنجليزي بدايات الثورة الصناعية وعبر عن رفضه لها مثلما فعل غير من الرومانسيين لكنه تمسك بالطبيعة ملاذاً، الطبيعة التي لم تكن بعد قد بدأت تدفع ثمن التنمية أو الحضارة التي شهد القصيبي تعمق أثرها في بلاده، سواء كانت البحرين أو السعودية.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.