رحيل جوزيف ناي مبتكر نظرية «القوة الناعمة»

أحد أبرز المفكرين الأميركيين في العلاقات الدولية

رحيل جوزيف ناي مبتكر نظرية «القوة الناعمة»
TT

رحيل جوزيف ناي مبتكر نظرية «القوة الناعمة»

رحيل جوزيف ناي مبتكر نظرية «القوة الناعمة»

لمع اسم جوزيف صموئيل ناي جونيور، أحد أبرز المفكرين والممارسين الأميركيين في مجال العلاقات الدولية الذي غادر عالمنا هذا الأسبوع عن عمر يناهز 88 عاماً، بعدما صاغ نظريّة «القوّة الناعمة» التي شكّلت أفكار أجيال من صانعي القرار وعلماء السياسة في الولايات المتحدة والعالم، ومنحته مكانة متميزة لا تكاد تدانى في منطقة التقاطع بين النظريّة والممارسة في الدبلوماسية وإدارة العلاقات الدّولية.

لكنّ الأقدار لم تكن رؤوفة بالعميد السابق لكلية كيندي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد، الذي خدم في إدارتين رئاسيتين أميركيتين ديمقراطيتين (كارتر وكلينتون)، إذ فقد خلال أيامه الأخيرة شريكة حياته ماري هاردينغ في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وشهد بأم عينه انقلاباً سافراً على أفكاره ونظرياته التي هيمنت طويلاً على فلسفة عمل الدبلوماسية الأميركية، وذلك فور انتقال مفاتيح البيت الأبيض إلى الرئيس دونالد ترمب الذي يقود تياراً سياسيّاً في النخبة الأميركيّة يتبنى أفكاراً مناهضة لكل نظريات ناي، ويوظّف بدلاً منها منهجيّة «القوة العارية». وقد علت المرارة صوته وهو يصرّ في مقابلاته الأخيرة على أن الرئيس ترمب لا يدرك مفهوم «القوّة الناعمة»، وأنّه خلال أشهر قليلة من توليه السلطة بدد معظم مصادرها وفكك أدواتها، وكتب عنه في مقال نشر مؤخراً في صحيفة «فاينانشيال تايمز» اللندنيّة: «أعطته خلفيته في العقارات بنيويورك وجهة نظر مبتورة عن السلطة التي تقتصر على الإكراه والصفقات، وستواجه القوة الناعمة الأميركية لذلك وقتاً عصيباً خلال السنوات الأربع المقبلة».

صاغ ناي مفهوم «القوة الناعمة» في كتابه الشهير «ملزمون بالقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية - 1990» ليصف قدرة الأمة في الحصول على ما تريد من خلال وسائل غير قسرية، عبر الجاذبيّة والإغواء بدلاً من الإكراه السافر القوة. وبحسبه - دائماً - فإن هذه القوّة ليست بالضرورة أهم مصادر التأثير في السياسة الخارجية، ولكن إهمالها خطأ استراتيجي وتحليلي، ويقول: «فكر مثلاً في الحرب الباردة: كان الردع النووي الأميركي والقوات الأميركية في أوروبا أمراً بالغ الأهمية. ولكن عندما سقط جدار برلين (1989)، فإنه لم يهوِ تحت وابل من قذائف المدفعية. لقد سقط تحت المطارق والجرافات التي استخدمها أشخاص غيّرت عقولهم (صوت أميركا) و(هيئة الإذاعة البريطانية)».

وفي مذكراته «حياة في القرن الأميركي - 2024»، قال إن الولايات المتحدة فقدت قوّتها النّاعمة خلال حرب فيتنام، لكنّها وخلال عقد واحد استعادت جاذبيتها بجهود سلسلة من الزعماء الأميركيين، بدءاً من إصلاحات جيرالد فورد، وانتهاءً بتفاؤل رونالد ريغان، مروراً بسياسات تعزيز التنمية الدّولية وحقوق الإنسان في عهد جيمي كارتر. وتتأتى هذه «القوة الناعمة» لبلد ما في المقام الأول من ثلاثة مصادر: ثقافة جذابة، وقيم سياسيّة ذات صدى مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى سياساتها التعاونية الطابع في العلاقات الدّوليّة، لكن العديد من موارد القوة الناعمة تنشأ أيضاً في أجواء المجتمع المدني، حيث أمكن لأفلام هوليوود التي تعرض تنوعاً ثرياً في حياة الأميركيّين وحريات شخصيّة وافرة أن تلمّع صورة الولايات المتحدة، وكذلك المشاريع الخيريّة للمؤسسات الأميركية في الخارج، وحرية البحث في الجامعات الثريّة المرموقة، وسمعة الشركات الكبرى، والكنائس، وحتى الحركات الاحتجاجية - التي قد تعزز أو تتعارض مع أهداف السياسة الخارجية الرسمية لكنّها تضيف قوة ناعمة للبلد عموماً.

لاحقاً روج ناي لمصطلح «القوة الذكية»، وهو نهج متوازن يجمع بين القوة العسكرية الصارمة وجاذبية التأثير الناعم، استخدمته هيلاري كلينتون 13 مرّة في عام 2009، خلال جلسات الاستماع لتعيينها مرشحةً لمنصب وزير الخارجية وذلك أثناء وصفها للمنهجية التي ستتبعها لمواجهة الإرهاب الإسلامي المتطرف في العالم. كما أن كثيرين يعدونه أوّل من نظّر للنيوليبراليّة في كتابه «مع روبرت كوهان»: «القوة والاعتماد المتبادل: السياسة العالمية في مرحلة انتقالية - 1977»، حيث اعتبر أن الدول قد تغدو متشابكة اقتصادياً بحيث لا تعد القوة العسكرية العامل الأكثر أهمية في العلاقات بينها.

ويمكن المجادلة اليوم بأنّ هذه المفاهيم الثلاثة شكلت إلى وقت قريب كيفية إدارة الحكومات الأميركيّة لسياستها الخارجية في عصر أصبحت فيه وسائل الإعلام، والصيت الدّولي، والتحالفات العالمية، أكثر أهمية من أي وقت مضى.

ولد ناي عام 1937، ونشأ في بلدة زراعية صغيرة بنيوجيرسي وحصل على شهادته الجامعية الأولى من جامعة برينستون المرموقة، ثم كان باحثاً في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة قبل أن يتخرّج بدرجة الدكتوراه من جامعة هارفارد في عام 1964، وانضم حينها إلى هيئة التدريس فيها، وكان أحد المؤسسين لكلية كيندي للإدارة الحكومية - وهي أشبه بمصنع للقادة وصانعي السياسات في النظام الأميركيّ. وقد عينه الرئيس جيمي كارتر مسؤولاً في إدارته عن جهود الحد من الانتشار النووي، وهو موضوع استمر في العمل عليه كرئيس لمركز «بيلفر للأبحاث» بجامعة هارفارد من عام 1989 إلى عام 1993، وعاد تالياً إلى الحكومة في عهد الرئيس بيل كلينتون، الذي عينه رئيساً لمجلس الاستخبارات الوطني ومساعداً لوزير الدفاع، مكلفاً بتطوير استراتيجية للعلاقات الأمنية الأميركية مع العالم بأسره وبخاصة آسيا، حيث كان من أبرز المدافعين عن تحالف أميركي ياباني في مواجهة نمو القوة الصينية في المنطقة. كما اعتبر مرشحاً محتملاً لمنصب مستشار الأمن القومي حال فاز جون كيري بالبيت الأبيض في انتخابات عام 2004، وفكّر الرئيس السابق باراك أوباما في تعيينه سفيراً. ولا شك أن انتقاله المتكرر بين العمل الأكاديمي والممارسة العملية أفاد عمله في المكانين، فاتسمت أبحاثه بواقعية قلّما تتوفر للباحثين الأكاديميين، فيما سمح له العمل الحكومي بوضع أفكاره النظريّة موضع التطبيق.

تشمل مساهماته الأكاديمية 14 كتاباً، من أشهرها: «القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة العالمية - 2004»، و«مستقبل السلطة - 2011»، و«هل انتهى القرن الأميركي؟ - 2015»، ومئات المقالات التي أصبحت قراءة الكثير منها مطلوبة في الجامعات والدوائر الدبلوماسية على حد سواء، وقد سعى زعماء ورؤساء الوزراء والمنظمات الدولية إلى الحصول على رؤيته السياسية ومشورته في كيفيّة بناء «القوة الناعمة» لدولهم، وقال عنه أنتوني بلينكن وزير الخارجية في عهد الرئيس جو بايدن: «قلة قليلة ساهمت بنفس القدر في رأس مالنا الفكري، وفهمنا للعالم، ومكانة أميركا فيه كما فعل البروفيسور ناي». واعتبرت وفاته ووفاة زميله ريتشارد أرميتاج الشهر الماضي ضربة قاصمة للنخبة الأميركيّة على خلفية التوترات المتزايدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ مع النقص المتفاقم في الخبراء الأميركيين بالثقافة الآسيوية، ما قد يكون له تداعيات سلبية على المدى الطويل.


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

ثقافة وفنون الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل،

ندى حطيط
ثقافة وفنون من التصوف إلى عقلنة التصوف

من التصوف إلى عقلنة التصوف

في مقالة سابقة، نقلتُ رأي غلين ماغي، الذي وصف فلسفة هيغل بأنها مفعمة بالرموز الهرمسية والتأويلات الباطنية، حتى إنه تساءل إن كان هيغل فيلسوفاً حقاً،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

«حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «حافة رطبة» للكاتبة المصرية عزة سلطان. وهي تتناول في عمومها المعاناة بصورها المختلفة التي تتكبدها المرأة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  محمد عيسى المؤدب

محمد عيسى المؤدب: «سؤال الهوية» هاجس مركزي في رواياتي

لا تبرح الرواية الأحدث للكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب «الجندي المجهول» ولعه بالغوص في مناطق مجهولة من التاريخ بحثاً عن معان تتعلق الوطن والتسامح الإنساني.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «بوتكس» اللغة!

«بوتكس» اللغة!

تعرفت عليه للتوّ، وأنا أجتاز باب مكتبة فرانز فانون بوسط الجزائر العاصمة.

د. ربيعة جلطي

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

غريغوري راباسا
غريغوري راباسا
TT

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

غريغوري راباسا
غريغوري راباسا

قد لا يعرف كثيرون اسمه ولم يسمعوا به من قبلُ؛ لكنّهم - على الأرجح - يمتلكون بعض أعماله في مكتباتهم. إنّه غريغوري راباسا Gregory Rabassa، المثابة الشاخصة في الترجمة الأدبية. ترجم لأكثر من 30 كاتباً ناطقاً بالإسبانية والبرتغالية من أميركا اللاتينية إلى الإنجليزية. فَتَحَتْ ترجمات راباسا أعين القراء الناطقين باللغة الإنجليزية على الموجة الغنية من الأدب الحديث لأميركا اللاتينية المستوحى من التراث الشعبي (Folktale)، التي أُنتِجَتْ خلال فترة «الازدهار The Boom» لمؤلفين مثل خوليو كورتاثار، وماريو فارغاس يوسا، وبالطبع غابرييل غارسيا ماركيز.

«إذا كانت هذه خيانة If This Be Treason» هي مذكرات راباسا القصيرة؛ لكنها برغم قصرها مثيرة للتفكير. فضلاً عن كونها غنية بالمتع اللغوية والحقائق التاريخية والإشارات الأدبية فإنّ المذكّرات تظهر بجلاء وكأنّها عملُ شاعر بارع، تبقيك متيقظاً كمن يلعب الشطرنج ويتوقّع كل حين نقلة غير متوقّعة تقلب مسار اللعبة. تحفل المذكّرات بالعديد من الحكايات الشخصية؛ إلا أن راباسا يحافظ على مسافة بين السطور طوال الوقت كما لو أنّه لا يريد التصريح بعائديتها له. ربما يعود ذلك إلى أنه - كمترجم - اعتاد على المكوث في منطقة الظلّ، مقتفياً أثر المؤلفين الذين يترجم لهم. هذه بالطبع بعضُ مكابدات المترجم أينما كان في العالم. مع ذلك فإن اتباع كلمات المؤلف والعمل في ظلال نصوصه لا يعني التنصل من عبء المسؤولية. الأمرُ على العكس تماماً. إن العبء الأكبر الذي يقع على عاتق المترجم هو التفكير في خيانته الضرورية لأداء عمله، وهذا تماماً ما يفعله راباسا في القسم الأول من مذكراته. هنا يقدّم راباسا مراجعة لفعل المثاقفة المنطوية على خيانة كما وصف المثل الإيطالي القديم الذي صار واحداً من أشهر الأمثلة الكلاسيكية. يتساءل راباسا في مدخل أطروحته الجميلة حول الخيانة الترجمية: هل يخون هو (أي راباسا)، أو أي مترجم سواه، اللغة، أو الثقافة، أو المؤلف، أو - وهذا هو الأشدّ إيلاماً - نفسه عند الترجمة؟ كما يعلم كل من مارس فعل الترجمة الحقيقية، فإن نوعاً من الخيانة (أو الخسارة الثقافية) أمرٌ يكاد يكون حتمياً؛ بل إن راباسا يذهب إلى حد القول إن الترجمة فعلُ تقليد نجتهدُ أن يكون بأفضل ما يمكن لأننا لا نستطيع أن نكرر تماماً في لغة ما نقوله في أخرى. ومع ذلك علينا أن نحاول ولا نكفّ عن المحاولة وتحسين الفعل. يقول راباسا في هذا الشأن: «قد تكون الترجمة مستحيلة؛ ولكن على الأقل يمكن تجربتها».

يستخدم راباسا القسم الأول أيضاً للإطلالة السريعة على وقائع موجزة من خلفيته العائلية والثقافية والمهنية. يبدو الأمر وكأنّ راباسا كان مهيّئاً على نحو جيد منذ البدء ليكرّس حياته للترجمة. كان ابناً لأبوين عاشقين للكلمات، وجَدّين من أربعة بلدان مختلفة، حظي بتعليم لغوي مكثف ومتنوّع وممتاز، وشرع في مسيرة عسكرية قصيرة أوصلته إلى أوروبا وأفريقيا البعيدتين كخبير تشفير (Cryptographer) للمراسلات العسكرية. ثم يُواصل راباسا عرضَ موقفه في قضايا شائكة مثل نظرية الترجمة (وهو ليس من مُعجبيها ولا معجبي منظّريها الأكاديميين الذين يراهم ديناصورات متغطرسة!)، ودور النشر الكبيرة التي يمقتها أيضاً، ووظيفة المترجم التي يراها ببساطة أن يتبع المترجم كلمات المؤلّف مع كلّ حمولتها الثقافية والسياقية. من جانب آخر يُبدي راباسا استخفافاً بتدريس الترجمة، ويكتب في هذا الشأن: «لقد حاولتُ تعليم ما لا يُمكن تعليمه. كما ذكرتُ سابقاً، يُمكنك شرح كيفية الترجمة؛ ولكن كيف يُمكنك أن تُملي على الطالب ما يقوله دون أن تُعبّر عنه أنت بنفسك؟ يُمكنك أن تُملي عليه أي كتاب يقرأه؛ ولكنك لا تستطيع قراءته نيابةً عنه». من المثير معرفةُ أنّ راباسا - وهو ما صرّح به في الكتاب - نادراً ما يقرأ الكتب التي يترجمها قبل البدء بالعمل عليها، مسوّغاً ذلك بالقول: «عندما أترجم كتاباً فأنا - ببساطة - لا أفعل شيئاً سوى قراءته باللغة الإنجليزية. الترجمة قراءة لو شئنا الدقّة». إلى جانب هذا يرى راباسا الترجمة فناً لا حرفة: «يمكنك تعليم بيكاسو كيفية خلط ألوانه؛ لكن لا يمكنك تعليمه كيفية رسم لوحاته».

القسم الثاني هو الجزء الأكثر ثراءً في مذكّرات راباسا. يناقش راباسا فيه ما يربو على ثلاثين مؤلفاً سبق له أن ترجم لهم. يتناولهم بترتيب زمني (كرونولوجي) مقصود لأن كل عمل ترك بصمته على الذي يليه بطريقة ما. يؤكّدُ راباسا في بداية هذا القسم أنّ تجربته الشخصية مع الترجمة أبعدُ ما تكون عن التعقيد أو الإزعاج. هو يتبع النص، يتركه ليقوده إلى حيث يتبيّنُ موطن التميّز والاختلاف فيه وربما حتى الابتكار الذي يميّز كل مؤلف عن سواه. يضيف راباسا في هذا الشأن: «يدعم هذا نظريتي بأنّ الترجمة الجيدة هي في الأساس قراءة جيّدة: إنْ عرفنا كيف نقرأ وفق ما ينبغي للنص فسنتمكّنُ من صياغة ما نقرأه في لغة أخرى بطريقتنا الخاصة. قد أتمادى وأقول نصوغه بكلماتنا الخاصة...».

يتذكّرُ راباسا بعض المؤلفين بمودّة كبيرة بعد أن التقى بالعديد منهم، وأصبح صديقاً حميماً لهم، أو حتى دَرَسَ أعمالهم عندما كان طالباً بعدُ. يُغدق راباسا بالثناء والتشبيهات على بعض هؤلاء الكتّاب: خوان بينيت مثلاً هو بروست إسبانيا، وغابرييل غارسيا ماركيز هو الوريث المباشر لثيربانتس، وكلاريس ليسبكتور كانت تُشبه مارلين ديتريش وتكتب كفيرجينيا وولف؛ لكنّ الحياة لم تحسن معاملتها كما تستحق. يميل راباسا إلى التقشّف والاختصار والمباشرة في كل شيء، وربما هذه بعض خصال المترجم الحاذق.

لن يكون أمراً غريباً أن يُكرّس راباسا صفحاتٍ أكثر لغابرييل غارسيا ماركيز من أي كاتبٍ آخر؛ فقد ترجم له ستاً من رواياته. يُقالُ إنّ غارسيا ماركيز كان يُفضّل ترجمة راباسا الإنجليزية على روايته الأصلية. وكما هو مُعتاد، يُقدّم راباسا هذا الإطراء بأسلوبٍ متواضعٍ مُميّز: «شعوري الغامض هو أن غابو (غابريل غارسيا ماركيز) كانت لديه بالفعل كلماتٌ إنجليزيةٌ مُختبئةٌ خلف الإسبانية، وكل ما كان عليّ فعله هو استخلاصها». برغم هذه الجودة الترجمية والمبيعات الهائلة لماركيز يصرّحُ راباسا في ملاحظة صغيرة أنّه لم يحصل على أيّ عائد مالي من ترجمة رواية «مائة عام من العزلة» التي كانت أوّل عمل ترجمه لماركيز.

تظهر المذكّرات وكأنّها عملُ شاعر بارع. إنها تبقيك متيقظاً كمن يلعب الشطرنج ويتوقّع كل حين نقلة غير متوقّعة

السياسة موضوع لا مفر منه مع أن راباسا لا يُكثِرُ من التطرق إليه. الواقعية السحرية (Magical Realism) ذلك المصطلح الذي يُثير جدلاً واسعاً كانت في ذهن راباسا دعوةً شعبيةً للحرية والعدالة. في موضع آخر، يذكر بإيجاز أن الواقعية السحرية كانت المقاربة الروائية التي دفعت كُتّاب أميركا اللاتينية إلى استكشاف الجوانب المظلمة في تاريخ القارة المنكوبة بالاستغلال والقهر الاجتماعي.

في القسم الثالث «القصير جداً. لا يتجاوز نصف الصفحة إلا بقليل»، يُدين راباسا خيانته المفترضة! هو يُعاني من المعاناة ذاتها التي يُعاني منها العديد من المترجمين: إنّه ببساطة لا يرضى أبداً عن عمله عندما يُراجعه. لا يُمكن للمرء أن يكون واثقاً من عمله أبداً.

انتقد البعض هذا الكتاب لكونه مغالياً في الاختصار؛ لكنني أظن أنً راباسا تقصّد هذا الاختصار. أما نجوم المذكّرات الحقيقية فهي الأعمال نفسها، سواء نصوص المؤلفين الأصلية الإسبانية أو البرتغالية أو ترجمات راباسا الإنجليزية لها. ومع أخذ ذلك في الاعتبار أشعر أنّ هذا الكتاب، على الرغم من روعته، يجب أن يأتي مع تحذير. لا يخدعنّك الاختصار أو التقشّف. إذا كنتَ ممّن يرى في الترجمة فعل مثاقفة رفيعة لا يحسنُها سوى العقل المسكون بالشغف والفضول المعرفي فقد لا يكون هذا الكتاب الصغير سهل القراءة أبداً.

«إذا كانت الترجمة خيانة»: مذكّرات غريغوري راباسّا (دار المدى 192 صفحة 2025)