برنار بيفو الصحافي الذي حوّل الأدب إلى مطلب شعبي

رحل عن 89 عاماً ولا تزال برامجه تُشاهد وتُستعاد

برنارد  بيفو
برنارد بيفو
TT

برنار بيفو الصحافي الذي حوّل الأدب إلى مطلب شعبي

برنارد  بيفو
برنارد بيفو

«برنار بيفو أسطورة حقيقية في الحياة الثقافية الفرنسية»، هكذا وصفه صديقه الصحافي فيليب لابرو، إثر الإعلان عن خبر وفاته يوم الاثنين الماضي عن عمر 89 عاماً قضاها لا شاغل له إلا الكتب ونصوصها، رغم هواياته المتعددة التي جعلها جزءاً من كتاباته واهتماماته النقدية. بوجهه الطفولي المحبب، وحاجبيه الكثيفين، وضحكته اللماّعة، وحسّه النقدي، ونظارتيه اللتين يعلقهما بين الحين والآخر على أرنبة أنفه، أطل بيفو على المتفرجين الفرنسيين، طوال أكثر من ربع قرن، في موعد أسبوعي شيق، تسمرت من أجله الملايين أمام الشاشات، لتكتشف مع كل حلقة تبث، أفضل الإصدارات الجديدة، وأنجح الكتب، وتتعرف على المؤلفين الناشئين، وتتابع ما يقوله كبار الأسماء من المفكرين والأدباء.

بعد برنامجه «افتح مزدوجين» الذي لم يدم طويلاً، ولد برنامجه التلفزيوني الشهير «أبوستروف» عام 1975 وفق تصوره الخاص. هذا البرنامج الذي سيتحول بفضل براعة مقدمه وخفة ظله إلى واحد من أجمل وأرقى البرامج الثقافية التي عرفها البث التلفزيوني، وسيصبح مطلوباً حتى في دول لا تتحدث الفرنسية وتلجأ لعرضه مترجماً. نهاية الأسبوع، تحديداً مساء كل جمعة، عند التاسعة والنصف مساء، لحظة ذروة المشاهدة، التي غالباً ما تعطى لبرامج المنوعات الترفيهية، كان برنار بيفو يطل من القناة الثانية ليتحدث عن الكتب والأدب ويستضيف كتّابها، ويحاورهم حولها. أمر ربما لم يكتب لبرنامج ثقافي في تاريخ التلفزيون. الإقبال الشديد على البرنامج وجماهيريته العريضة، جعلته يستمر 15 عاماً محلقاً، ويصل عدد حلقاته إلى 724 حلقة. كان المؤلفون يعلمون أن الحظ يبتسم بقوة لمن يستضيفه برنار بيفو. لذلك حتى من لا يتحدث الفرنسية بطلاقة، كان يقبل التحدي، ولا يخلف موعداً مع المقدم وبرنامجه الشهيرين. فضيوف حلقة مساء جمعة من «أبوستروف»، هم الذين تتصدر كتبهم واجهات المكتبات في اليوم التالي. وبمرور الوقت، صار لـ«أبوستروف» ركن خاص في المكتبات، للباحثين عن المؤلفات التي ناقشها بيفو في إحدى حلقاته. البعض اتهمه بالتسلط، بسبب قدرته الفائقة على الترويج لكتاب أو كتب بعينها. فالمكانة المعنوية العالية التي حظي بها لدى جمهوره، تسمح له بالتأثير على القراء. لكن الحقيقة أن الرجل لم يبحث عن السلطة، وإنما جاءته بسبب جاذبيته ومهارته في التقديم، وبراعته في طرح الأسئلة وإدارة الحوار مع عدد من الكتّاب في جلسة واحدة، وأحياناً مع ضيف واحد يستحق حلقة من أجله. امتلك بيفو مرونة في التعاطي مع نصوص الكتب التي يقدمها، لم تعط لغيره، وقدرة على التبسيط، واستخدام لغة سهلة، تصل إلى عامة الناس مهما كان الكتاب صعباً. لم يكن برنامج بيفو هو الوحيد عن الكتب، ولا المتفرد على الشاشات الفرنسية الثلاث حينها، لكنه بقي بلا منافس حقيقي، لما تمتع به صاحبه من حيوية وطرافة مع قدرة على استثارة حوارات نابضة ومثيرة، مع ضيوف يجلسون متحلقين، تحيط بهم المكتبات.

قيل إن بيفو، بأسلوبه في «أبوستروف»، وطريقة تعاطيه مع الكتب والضيوف، ابتكر شكلاً جديداً لم يكن معهوداً في البرامج الثقافية. قبله كانت الحوارات بليدة، باردة، وجدية إلى حد مضجر، ومعه اكتسبت صلتها بالحياة والناس، مما جعل متابعي بعض الحلقات يتجاوزون الستة ملايين متفرج.

بعد توقف «أبوستروف» مباشرة، عام 1992، ابتكر بيفو، الذي لا تهدأ مبادراته، برنامجاً آخر هو «بويون دو كلتور» الذي سيكون بمثابة استمرار لما سبقه، وسيبقى بيفو متربعاً على عرش البرامج الثقافية الفرنسية، في مرحلة كان فيها للكتاب سطوة، وللمؤلف قيمة، وللقراءة جمهور عريض. وبذلك كان بيفو مؤثراً من خلال شاشة التلفزيون، قبل أن يولد المؤثرون على وسائل التواصل، لأنه امتلك القدرة على إلهام جمهوره، كما كان له كبير التأثير على متفرجيه باختياراتهم للكتب، لا بل وفي دفعهم للقراءة وتحفيزهم على الشراء، وصناعة الرأي العام، وتشكيل الذوق الأدبي.

وقد حرص بيفو على أن يقدم برنامجه مباشرة على الهواء، رغم التحذيرات من المخاطر. وقد حدثت له بالفعل العديد من المواقف المحرجة والمزعجة، منها عندما افتخر الكاتب غابرييل ماتزنيف بحياته الجنسية التي مارسها مع قاصرين. وهو ما أثار المتاعب لبيفو.

السؤال ليس عن أسماء الضيوف الكبار الذين استضافهم بيفو، بل عن هؤلاء الندرة الذين أفلتوا من برنامجه. فقد استضاف رولان بارت، أمبرتو إيكو، كلود ليفي شتراوس، بيار بورديو، مارغريت دوراس، فلاديمير نابكوف، لو كليزيو، مارغريت دوراس، باتريك موديانو، فرانسواز ساغان، وسياسيين ورؤساء جمهوريات، أبرزهم فرانسوا ميتران، وكذلك سينمائيين ومغنين ورياضيين.

لكن طريقة بيفو في جعل الأدباء في متناول كل الناس، لم ترق للبعض ومنهم ريجيس دوبريه عندما كان مستشاراً لفرانسوا ميتران، رئيس فرنسا حينها، واتهم بيفو عام 1982 بالسيطرة على الحياة الفكرية الفرنسية. لكن بيفو رغم انزعاجه، لم يقصّر في الرد وقرر مواصلة مهمته غير عابئ بما يقوله مستشار الرئيس. أما الفيلسوف جيل دولوز فعبّر عن رأي أكثر قساوة، حين عدّ أن برنامج برنارد بيفو، يشكل «الحالة الصفرية في النقد الأدبي»، وهو بطريقته التبسيطية المتلفزة «حوّل الأدب إلى عرض للممنوعات». وهو اتهام جائر، وثبت بعده عن الواقع، ليس فقط للفراغ الكبير الذي تركه بيفو في ما يتعلق ببرامج الكتب والثقافة، بعد اعتزاله الشاشة، ولكن أيضاً لأن حوارات بيفو مع ضيوفه اتسمت بالعمق الشديد، وبقدرته اللافتة على جعل الضيف يتكلم ويبوح، كما لا يفعل مع أي محاور آخر. وهنا يكمن سرّ بيفو الذي لا يزال يحيّر ويثير الأسئلة.

حرص بيفو رغم مشاغله التلفزيونية ومسؤولياته الجمة على ألا يقطع صلته بالصحافة المكتوبة. فقد كان له عمود باستمرار في إحدى المطبوعات. في السبعينات، كان كاتباً في مجلة «لو بوان»، ومنذ مطلع التسعينات بدأ يكتب في «جورنال دو ديمانش». كما أنه لم ينقطع عن تقديم البرامج الإذاعية، أو الإطلالة في تعليقات أسبوعية على الأثير.

عَدَّ دائماً أن الكلمة هي المحرك ولها خصص العديد من كتبه التي طالت ميادين مختلفة

لا غرابة أن يصفه صديقة فيليب لابرو بأنه «أحد أهم الشخصيات في الحياة الثقافية الفرنسية طوال أربعين عاماً» وبأنه «أعظم مدرّس للأدب عندنا، على الإطلاق». فقد تعددت مجالات عمل بيفو، في المكتوب والمسموع والمرئي، ومع دور النشر والجوائز، وكل ما له صلة بالكلمة. فقد عدّ دائماً أن الكلمة هي المحرك، ولها خصص العديد من كتبه، التي طالت ميادين مختلفة، منها «قاموس عشاق النبيذ»، وكان من الولعين بهذا المشروب، و«كرة القدم باللون الأخضر» هذه الرياضة التي شكلت عشقه أيضاً إلى جانب الطبخ الذي كتب حوله، واستضاف نجومه. أصدر في بداياته رواية بعنوان «الحب الرائج»، كما جمع مقالات، ونصوص الإملاء التي عمل عليها، وكتب مذكراته، ورواية من وحي شيخوخته حملت عنوان «لكن... تستمر الحياة». ما يزيد على 20 كتاباً تضاف إلى إنجازاته الثقافية.

لم يخب وهج برنار بيفو رغم اعتزاله تقديم البرامج التلفزيونية، فقد بقي ضيفاً محبباً، يحلّ على الشاشة عند كل إصدار جديد له، أو مناسبة، وبقي هذا النجم الأدبي بهي الطلى، مرح الروح، حاضر النكتة، متواضعاً، طريفاً، قريباً من القلب، إلى أن أعياه المرض، وتوارى عن أنظار جمهوره، عام 2022، وقد علم أن المرض هذه المرة لن يهادنه طويلاً.

بيفو فأرة الورق، وقاضم الكتب، دخل عالم الإنترنت برحابة. كان نشيطاً على «تويتر»، وشارك متابعيه أفكاره ومتعه الأدبية، وكانت الردود المعجبة تأتيه سخية ومحبة، تليق بمساره المكلل بالشغف والحب وعناق المعنى. وبوفاة بيفو هذا الوحش القارئ تطوى صفحة في عالم الأدب قد تصعب استعادة ما يشبهها. فالكتب لم تعد ورقاً كالذي كان يقلبه بشهية مقدم «أبوستروف» وهو يبحث عن المعلومة، والقراء تغير مزاجهم، وربما أن الأدب أيضاً تغيرت وظيفته.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».