الفرنسي بيار لوتي عاشق إسطنبول

مرور 100 عام على رحيله

بيار لوتي
بيار لوتي
TT

الفرنسي بيار لوتي عاشق إسطنبول

بيار لوتي
بيار لوتي

 

بعد جولة في «البازار»، توجهت إلى مقهى «بيار لوتي». ويقع هذا المقهى البديع في معماره، وفي شكله، وفي ديكوره، في حيّ «أيّوب»، قرب مسجد «أيوب» الذي بناه المسلمون الأتراك سنة 1458م، أي بعد مرور خمس سنوات على تسلمهم مفاتيح القسطنطينية؛ ليجعلوا منها عاصمة لإمبراطوريتهم المترامية الأطراف. يطل المقهى على مرتفع يُسمى «القرن الذهبي»، وعلى أجمل المشاهد التي تتميز بها إسطنبول. وكان بيار لوتي يسميه «مرتفع أيوب المقدس». وقد أُطلق عليه اسمه بعد وفاته؛ لأنه كان يفضّل ذلك المكان على كل الأماكن الأخرى في إسطنبول. ففيه كان يستعذب الجلوس والتأمّل والكتابة واستحْضار ذكريات رحلاته الكثيرة عبر العالم.

منذ سنوات الشباب الأولى، فُتن بيار لوتي (1850-1823) بالسفر ليظل في ترحال دائم حتى نهاية حياته. فكان في اليابان، وفي جزر هايتي، وفي أميركا الجنوبية، وفي السنغال، وفي مصر، وفي بلدان كثيرة أخرى. ومن رحلاته تلك استوحى موضوعات جلّ رواياته. وفي عام 1877، زار إسطنبول ليشعر منذ أيامه الأولى فيها بأنها «مدينته الروحية» التي كان يتطلع للعيش فيها منذ سنوات طفولته عندما كان يجنح به الخيال بعيداً ليرى نفسه سائحاً في بلدان الشرق العجيبة التي تفوح منها عطور مُدوّخة. وفيها تشبه أصوات النساء زقزقات الطيور السعيدة بحلول الربيع. عنها سيكتب: «آه إسطنبول... من كلّ الأسماء يكون اسمها الأكثر سحراً دائماً وأبداً. ولا عاصمة يكثر فيها التنوع والاختلاف مثلها، خصوصاً تلك التغيرات التي تحدث من ساعة إلى أخرى، مظهر السماء، والرياح، والسحب، وهذا الطقس الذي يتميّز بأصياف حارقة، وأيضاً بفصول شتاء حالكة، وبأمطار وثلوج تسقط على آلاف السطوح السوداء. وتلك الشوارع، وتلك الساحات، وتلك الضواحي حول إسطنبول، أظن أنها لي، وأنا لها أيضاً»...

وقد ازداد بيار لوتي الذي كان ضابطاً كبيراً في البحرية الفرنسية انجذاباً وعشقاً لإسطنبول بعد أن وقع في غرام فتاة شركسية بعينين خضراوين كانت في حريم أحد الأعيان. معها سيعيش قصة حب عاصفة. لكن عند عودته إلى إسطنبول في زيارته الثانية لها، بلغه أن حبيبته توفيت جراء ما لاقته من عذابات نفسية بعد سفره، خصوصاً وأن سيدها سلّط عليها عقوبات مؤلمة مُتّهماً إياها بخيانته. ومن وحي قصة الحب تلك، كتب بيار لوتي رواية «أزياديه» التي يعدّها البعض من النقاد من أفضل رواياته.

 

غلاف اكتاب

وفي بداية القرن العشرين، أي في الفترة التي توضّحت فيها علامات انهيار الإمبراطورية العثمانية، أصيب بيار لوتي بحزن شديد فكما لو أنه سيفقد عزيزاً عليه. وبينما كان جُلّ الكتاب الأوروبيين ينتظرون بشغف وابتهاج انهيار إمبراطورية «الرجل المريض» بوصفها رمزاً للتخلف وللاستبداد الشرقي، كان هو يبذل كل ما في وسعه لإقناعهم بأن سقوطها سيكون «كارثة تاريخية» للعالم برمته. وفي سنة 1913، نشر مجموعة من الرسائل صدرت تحت عنوان: «تركيا المُحْتضرة». وفي المقدمة التي خصصها لتلك الرسائل، التي شنّ فيها هجوماً عنيفاً على الأفكار المُسبقة «الأكثر ترسّخاً في عقول الأوروبيين»، و«الأكثر تدميراً وتحريفاً للحقائق»، التمس بيار لوتي من القراء أن يكونوا «مُتسامحين معها، ورحيمين بها»؛ إذ إنها كُتبت في «حمّى الاستنكار والغضب والألم»؛ لـ«تفضح الخزي والنفاق»، ولكي «تصدع إلى حدّ ما بالحقيقة»، ولكي «تطالب بقليل من العدالة». ويضيف ببار قائلاً: إن الحقيقة سوف تنكشف ذات يوم على المستوى الكوني لتُعرّي «المجازر والحرائق وعمليات النهب والاغتصاب والتمثيل الوحشي بأجساد المساجين، والتي ارتكبتها الجيوش المسيحية» ليكون الأتراك من ضحاياها.

ولم يكن دفاع بيار لوتي عن الإمبراطورية العثمانية عاطفياً، بل كان قائماً على أفكار ترسّخت في ذهنه، وأصبح مُتعلقاً بها شديد التعلق بعد أن جاب العالم بحراً وبرّاً. وتقوم هذه الأفكار على رفضٍ لمقوّمات الحضارة الغربية التي تستند في جوهرها إلى عقلانية باردة، وإلى مادّية جافة وعنيفة تسخر من روحانيات الحضارات القديمة، وتنفر من الثقافات التي نمت ونشأت خارج فضائها، وبعيداً عن تأثيراتها. ومعتقدة أنها على حقّ في كل ما تفعل؛ لأنها مُتفوقة على كل الحضارات الأخرى السابقة لها.

رفض بيار لوتي ما سمّاه «البربرية الفكرية» مُديناً بقوة العقلانية المُفرطة التي تؤدي إلى الفراغ الأخلاقي والروحي


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟