أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

هل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير وكيف ستكون في الأزمنة المقبلة؟

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT
20

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟


مقالات ذات صلة

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

كتب ليور زميغرود

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

طرحٌ جريء في علم الأعصاب الاجتماعي تقدّمه الباحثة الملحقة بجامعة كامبردج (بريطانيا) ليور زميغرود في كتابها الجديد «الدماغ المؤدلج»

ندى حطيط
كتب فدوى طوقان

صمود فلسطيني على الجبهة الثقافية

صدر كتاب باللغة الإنجليزية يحمل عنواناً عربياً: «صمود: مختارات من كتابات فلسطينية جديدة» (Sumud: A New Palestinian Reader)، أشرف على التحرير جوردان الجرابلي…

د. ماهر شفيق فريد
يوميات الشرق حسين فهمي أكد حبه للقراءة وارتباطه بها (مهرجان القاهرة السينمائي الدولي)

حسين فهمي لـ«الشرق الأوسط»: الكتاب رفيق دربي

أبدى الفنان المصري حسين فهمي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، فخره وسعادته بالمشاركة بصفته متحدثاً رئيسياً في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
ثقافة وفنون يحفل معرض مسقط الدولي للكتاب بنحو 211 فعالية ثقافية وفنية وترفيهية (العمانية)

الفعاليات الثقافية تفتح مساحة للحوار في «معرض مسقط للكتاب»

استقطبت 211 فعالية في «معرض مسقط الدولي للكتاب 2025» حضوراً لافتاً من الجمهور المهتم الذي يتوافد إليه، توزعت بين ندوات حوارية وأمسيات ثقافية وعروض مسرحية.

«الشرق الأوسط» (مسقط)
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

ليور زميغرود
ليور زميغرود
TT
20

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

ليور زميغرود
ليور زميغرود

طرحٌ جريء في علم الأعصاب الاجتماعي تقدّمه الباحثة الملحقة بجامعة كامبردج (بريطانيا) ليور زميغرود في كتابها الجديد «الدماغ المؤدلج*»، حيث تسعى لتفسير ميل بعض البشر إلى الآيديولوجيات المتطرفة انطلاقاً من بنية الدماغ وبيولوجيته، وليس فقط من خلال السياقات الاجتماعية أو الثقافية. ويأتي هذا العمل الذي يندرج ضمن مشروع أوسع في الجامعات الغربيّة للربط بين العلوم السلوكيّة والسياسة في وقت تصاعدت فيه الاستقطابات الحادة، سواء داخل المجتمعات أو عبر الحدود، وبينما يعيد كثيرون طرح السؤال القديم مجدداً: لماذا يصبح بعض الناس أكثر تطرفاً من غيرهم؟

بدأت زميغرود دراستها من مشهد سياسي معاصر، تحديداً من لحظة الانقسام في بريطانيا حول مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي ونتائج الاستفتاء الشعبي الذي جرى عام 2016 واعتمدت عليه حكومة حزب المحافظين لتشرع في إجراءات الطلاق من أوروبا (بريكست)، إذ لفتتها المواقف المتصلبة لطرفي الطيف السياسيّ، وتساءلت عمّا إذا كانت نتاج انتهازية سياسية أم عرضاً لجذر أعمق مرتبط بتكوين الأشخاص النفسي والدماغي، لتصل في النهاية إلى استنتاج وحيد – في قلب كثير من التساؤلات أيضاً –: ثمّة جانب بيولوجي ملموس لتموضعات الأفراد السياسيّة.

تعتمد زميغرود في مقاربتها على تعريف صارم للآيديولوجية باعتبارها نمط تفكير متصلب يعطل المرونة الإدراكية لصالح نسق مغلق من المعتقدات. وهي في ذلك تعود إلى إرث علم النفس السياسي، وتحديداً أعمال إلسي فرينكل برونسويك وثيودور أدورنو، اللذين سعيا بعد تجربة الحرب العالمية الثانية لفهم السّمات التي تمتلكها «الشخصية الفاشية». لكنها في هذا السياق تذكر مفارقة تاريخيّة بشأن أصل مصطلح «آيديولوجيا»، الذي تقول إن الكونت الفرنسي ديستوت دو تريسي صاغه في إطار بحثه عن كيفية تكوّن المعتقدات. غير أن المصطلح انقلب على رأسه مع الزمن، ليعني الآن عكس ما أراده مبتدعه: الالتزام غير النقدي بالاعتقاد - بدلاً من تحليله -.

وبحسب زميغرود، فقد وجدت برونسويك في خمسينيات القرن الماضي، أن الأطفال المتحيزين ليسوا متصلبين في مواقف معرفيّة فحسب، بل يمتد تصلبهم وجمود أفكارهم إلى كل استجاباتهم الإدراكية. وتوسع المؤلفة هذا المنظور باستخدام أدوات علم الأعصاب الإدراكي، كاختبار ويسكونسن لقياس قدرة الأشخاص على التكيف والإبداع، فتظهر بيانات اختباراتها أن الأفراد ذوي التفكير العالي الأدلجة - لا فرق إذا كانوا في اليمين أو اليسار- يميلون بشكل عام إلى الجمود المعرفي، ومحدودية المرونة الذّهنية.

على أنّ الطرح الأكثر إثارة في الكتاب يكمن في تتبع زميغرود للرّوابط بين البنية العصبية والميول السياسية. إذ عبر دراسات تصوير الدماغ وتحليل التكوين الجيني، وجدت أن الأشخاص ذوي الميول الآيديولوجية المتطرفة يمتلكون توزيعاً مغايراً لهرمون الدوبامين في أدمغتهم عن الأشخاص الأقل تزمتاً: انخفاض في منطقة قشرة الفص الأمامي (المعنية بالتفكير العقلاني والمرن)، وارتفاع في منطقة وسط الدّماغ المرتبطة بالغرائز والسلوكيات الانفعاليّة الطابع. كما وتبين لها أن الشخصيّات المحافظة غالباً ما تمتلك (لوزة) دماغية أكبر حجماً، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة مشاعر الخوف والاشمئزاز، مما قد يفسر انجذابهم لمواقف تركز على الحفاظ على الأوضاع القائمة والنّظام والتقليد. غير أن المؤلفة تتجنب الحسم، إذ لا يُعرف تماماً ما إذا كانت هذه السمات العصبية وتركيب الأدمغة تسبق الآيديولوجيا أم تنتج عنها. أي، هل تغير معتقداتنا من شكل أدمغتنا؟ أم أن تكوين الدماغ يقودنا إلى اعتناق معتقدات بعينها؟ العلم هنا - وفق زميغرود دائماً - لا يتخذ موقفاً، لكنه يطرح أسئلة فلسفية وعمليّة عميقة حول مفهوم «حرية الإرادة» في السياق السياسي.

الكتاب عمل متقدّم في تفكيك ظواهر التطرف والاستقطاب الحاد التي تطبع تعاطي السياسة في هذا المنعطف من التاريخ

من الملاحظات اللافتة التي تقدمها زميغرود أن الأشخاص عاليي الأدلجة لا يدركون أنهم أشخاص بطيئو التفكير، بل يعتبرون أنفسهم مندفعين ومحبين للمخاطرة، أي أنهم يجمعون بين صلابة معرفية على المستوى اللاواعي، وسلوكيات متهورة على المستوى الواعي. هذا التناقض يمكن أن يفسر انجذاب المتطرفين إلى الخطابات التي تدعو إلى «النظام» و«سيادة القانون»، بينما يمتعهم في الوقت ذاته تهديم المؤسسات القائمة والنظام الحالي.

تجمع زميغرود في تشخيصها للدماغ الآيديولوجي بين المتطرفين على اليمين أو اليسار، وتزعم أن الجمود الآيديولوجي يمكن أن يصيب الجانبين، وتشير إلى أن الأفراد المتحررين من القيود الحزبيّة ويميلون إلى الليبرالية اليسارية غالباً ما يظهرون أعلى درجات المرونة المعرفية، لكنّها تصرّ على أنها لا تدعم تموضعاً سياسياً محدداً يمثل هذا الموقع، بقدر ما توثق حاجة مجتمعاتنا المعاصرة إلى إعادة تأهيل الفضاء العام كحيز للتواضع أمام المعرفة، والانفتاح على الآخر، وتوظيف الجدل في البحث عن حلول فضلى لمشكلات العالم. لكن هذا الطرح يثير بدوره سؤالاً أخلاقياً محوريّاً: هل يمكن للعقل المرن غير المدجج بالآيديولوجيا أن يواجه الاستبداد والفاشية؟ أم أن هذه المرونة نفسها قد تكون مدخلاً للتّراخي والتكيف مع الشر؟

هذا التحدي الفلسفي الذي يطرحه الكتاب - ولا يحسمه - يعيدنا إلى الجدل (في الغرب) حول تجارب الفاشيات في النصف الأول من القرن العشرين وكيف تورط ملايين من الأشخاص العاديين في تنفيذ سياسات أنظمة متطرفة وخاضوا من أجلها حروباً تدميرية لم يسبق لها مثيل في أعداد الضحايا وحجم الخراب.

ينطوي الكتاب على نغمة شخصية مؤثرة، إذ تتحدث زميغرود عن أصولها المتعددة والمتوزعة بين اللغات والثقافات والقارات، وتجد أن هذا التعدد هو ما جعلها حساسة للآيديولوجيا كمشروع إقصائي، وعنصر تهديد للهويات المعقدة والهجينة، مما يكسب مشروعها الفكري هذا صيغة نضال إنساني يسعى إلى حماية الفرد من اختزال تكوينه المعقد والمتعدد من قبل التطرفات العقائدية.

إن «الدماغ المؤدلج» عمل متقدّم في تفكيك ظواهر التطرف والاستقطاب الحاد التي تطبع تعاطي السياسة في هذا المنعطف من التاريخ، ويمتاز بجمعه الشيّق بين علم الأعصاب والتاريخ والفلسفة السياسية. لكنه في الوقت نفسه، لا يقدّم للقارئ أية إجابات سهلة، بل يورطه في إشكاليات مشرّعة على التفكير حول معاني الحرية، والإرادة، والعيش الأفضل في مجتمعاتنا المعاصرة.

*The Ideological Brain: A Radical Science of Susceptible Minds by Leor Zmigrod, Viking, 2025