في موسم سينمائي يزدحم بالأعمال التي تحاول إعادة ترتيب العلاقة بين الذاكرة العربية والاضطرابات السياسية، يطلّ فيلم «بابا والقذافي» بوصفه أحد أبرز الأصوات الجديدة التي وجدت طريقها إلى الضوء. فمنذ عرضه الأول، أخذ الفيلم الوثائقي يحصد جوائز رفيعة في عدد من المهرجانات الدولية، من البندقية إلى الدوحة وصولاً إلى مراكش حيث توج مساء أمس بجائزة لجنة التحكيم، ليشكّل حالة فنية تستحق التوقّف والتأمل.
برز فيلم «بابا والقذافي» للمخرجة الليبية الأمريكية جيهان الكيخيا كواحد من أبرز الأعمال الوثائقية العربية خلال عام 2025؛ عمل يتجاوز السياسة ليغدو شهادة إنسانية على غياب الأب، وعلى علاقة الابنة بوطن مُشرّد.

9 سنوات من الإنتاج... وصبر على الحكاية
وراء الفيلم رحلة إنتاج بدأت قبل نحو عقد؛ فالمخرجة التي أسست شركة Desert Power جمعت على مدى سنوات مواد أرشيفية نادرة، وبعضها لم يكن متاحاً من قبل.
العمل على الفيلم الوثائقي بين التصوير في خمس دول، والبحث في ملفات دولية، والوصول إلى شهادات دقيقة جعل المشروع واحداً من أكثر الوثائقيات العربية تعقيداً من حيث التوثيق والاشتغال الزمني.
في هذا الفيلم لا تروي جيهان قصة سياسية فحسب، بل تستعيد والدها منصور رشيد الكيخيا، وزير الخارجية الليبي الأسبق وسفيرها لدى الأمم المتحدة والمعارض السلمي، الذي اختفى عام 1993.
قصة الفيلم: ذاكرة ضائعة تُستعاد
يبدأ الفيلم من تلك اللحظة الفارقة: زيارة رسمية لوالدها لحضور لقاء حقوقي، قبل أن يختفي بلا أثر في العاشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 1993. ومن هنا تنطلق رحلة البحث التي قادتها والدتها، الفنانة السورية بهاء العمري، بين عواصم عالمية وملفات وأبواب موصدة.
سنوات طويلة تلاحق فيها العائلة خيوطاً غير مكتملة، وتواجه جداراً من الصمت، قبل أن تكشف أحداث ما بعد سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011 الحقيقة المرة: العثور على جثمان الكيخيا مجمداً داخل فيلا أمنية بالقرب من مقر إقامة القذافي؛ صورة صادمة تكثف مأساة الظل الذي أحاط بالقضية لعقود.

إخراج في خدمة المشاعر والذاكرة
تبني جيهان فيلمها الوثائقي كابنة تسعى لترميم ذاكرتها، لا كطرف في مواجهة سياسية. تظهر أمام الكاميرا بشفافية، تُقارب الحكاية بحدس إنساني، وتعيد تركيب شظايا الماضي عبر أرشيف واسع وشهادات تتجاوز ستين شخصية من السياسيين والحقوقيين وأصدقاء والدها، في فيلم يوازن بين الوثيقة والتحقيق، وبين الحميمي والعام، وبين ما يمكن قوله وما تبقى طيّ الكتمان.
تختار جيهان الكيخيا زاوية سرد إنسانية، تبدأ من فقدان الطفولة لتتشابك مع تاريخ وطنها، مما يجعله أقرب إلى مذكرات صوتية بصرية منه إلى تحقيق سياسي بحت.

السرد السينمائي بلقطاته المؤلمة والناعمة في آن واحد يحوّل الفيلم إلى رحلة نضج، رحلة ابنة تبحث عن معنى العدالة، وعن والد كان حاضراً رغم غيابه. ولا يكتفي العمل باستعادة السيرة، بل يضع المشاهد أمام الوجع الحقيقي لسنوات الانتظار، وأمام هشاشة الذاكرة حين تُحرم من الحقيقة.
«MY FATHER AND QADDAFI» interview with Director Jihan K , and Protagonist Baha Omary Kikhia. #Marrakechfestival”بابا والقذافي” مقابلة مع المخرجة جيهان ك, والشخصية الرئيسية بهاء عماري كيخيا. ©️Omar_Hamdane pic.twitter.com/LTLwtJazol
— Marrakech Film Festival (@Marrakech_Fest) December 2, 2025
جوائز دولية وتقدير نقدي
هذا العمق الإنساني تُرجم إلى احتفاء دولي لافت. فقد تُوّج «بابا والقذافي» بجائزة أفضل فيلم وثائقي ضمن المسابقة الدولية للأفلام الطويلة في مهرجان الدوحة السينمائي 2025، في تكريم عكس قوة الحكاية وقدرتها على تجاوز حدودها المحلية.
المسابقة الدولية للأفلام الطويلة - جائزة أفضل فيلم وثائقي: بابا والقذافيInternational Feature Film Competition - Best Documentary Award: MY FATHER AND QADDAFI by Jihan. #DFF25 pic.twitter.com/5diojEJ6Sa
— Doha Film Institute (@DohaFilm) November 28, 2025
كما نال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان مراكش السينمائي مساء أمس السبت 6 ديسمبر تقديراً لفرادته السردية، ولفلسفته التي تجعل من الألم الشخصي نافذةً على تاريخ بلد بأكمله.
JURY PRIZE for «MY FATHER AND QADDAFI » by Jihan K (United States, Libya).جائزة لجنة التحكيم : «بابا والقذافي» لجيهان ك (الولايات المتحدة الأمريكية، ليبيا)#marrakechfestival #مهرجان_مراكش pic.twitter.com/D36jOqlZ0b
— Marrakech Film Festival (@Marrakech_Fest) December 6, 2025
أما مشاركته في مهرجان البندقية خارج المسابقة، فقد مثلت عودة مهمّة لصوت سينمائي ليبي إلى واحدة من أهم منصّات العالم وإلى السجاد الأحمر الأوروبي بعد غياب سنوات، مؤكدة أن الحكايات الصادقة مهما طال الطريق إليها تجد دائماً طريقها إلى الضوء.
في ختام الفيلم، حين تتحدث جيهان عن خوفها من أن «يختفي والدها مرّتين» مرة حين اختُطف، ومرة حين يُنسى، يبدو واضحاً أن هذا العمل لم يُصنع بدافع المكاشفة السياسية وحدها، بل بوصفه فعل وفاء، محاولة لإنقاذ ذاكرة رجل من الضياع، ولرأب جرح لم يلتئم بعد. «بابا والقذافي»، ليس مجرد «وثائقي» عادي؛ إنه وثيقة إنسانية مكتوبة بصبر الابنة جيهان، بالسؤال، وبشجاعة مواجهة الماضي.








