شاشة الناقد: حروب أهلية

«خط أخضر» (ماد سوليوشن)
«خط أخضر» (ماد سوليوشن)
TT

شاشة الناقد: حروب أهلية

«خط أخضر» (ماد سوليوشن)
«خط أخضر» (ماد سوليوشن)

خط أخضر ★★★

* عودة إلى الحرب اللبنانية في فيلم تسجيلي بتوقيع سيلڤي باليو (لبنان، قطر، فرنسا - 2024).

تسعى المخرجة الفرنسية سيلڤي باليو جهدها للبقاء محايدة خلال تناولها الحرب الأهلية في لبنان، تلك التي يرى بعضنا أن آثارها ما زالت تتفاعل في وجوهٍ وجوانبَ متعددة. تمنح شريكتها في كتابة السيناريو، فِدى بزري مساحة كاملة لعرض التاريخ من دون تأييد طرف ضد آخر.

الآنسة بزري كانت فتاة صغيرة عندما نشبت تلك الحرب في منتصف السبعينات. تتذكر ما مرّت به جيداً والرعب الذي عاشته والآخرون وحادثة توجيه أحد المحاربين بندقيّته صوبها وهي بعدُ دون العاشرة من العمر.

تستعين بدمى وألعاب توزّعها كأنها خريطة كلما تحدّثت مع محارب سابق. هنا مبنى تحتلّه قوّة من اليمين المسيحي. هنا مبنى تحميه قوّة من الأحزاب اليسارية. هذا هو الشارع الفاصل. تُحرّك تلك الدمى كما يحرّك لاعب الشطرنج حجارته، وتتوقع من الشخص الذي تتحدّث إليه مشاركتها هذا التحريك. يوافق هنا ويُصحّح هناك ويُعلّق دوماً.

يجمع الفيلم عدداً كبيراً من المحاربين على نحوٍ منفرد باستثناء مشاهد أخيرة حيث يجلس حِزبيّ يساريٌّ مع حزبي يميني يسترجعان معاً ذكريات الحرب. أحدهما يريد أن ينسى. الآخر لا يستطيع أن ينسى.

بين تلك المقابلات يعرِض الفيلم مشاهد وثائقية من تلك الحرب. كثيرٌ منها في الناحية الغربية من بيروت حيث «تَمَترست» قوات أحزاب المرابطين، والاشتراكيين، والقوميين السوريين، والشيوعيين، ليتبادلوا النار على خط التماس (أو ما يسمّيه الفيلم بـ «الخط الأخضر») مع محاربي الكتائب والقوّات اللبنانية. شهادات هؤلاء وسواهم (مقابلتان مع مقاتلة ومقاتل مسيحيين سابقين) تكشف عن ذلك الخلاف الجذري الكبير ما بين طرفي الحرب. لكن المُشاهد لن يخرج بتحليلِ سياسي بقدر ما سيُتابع مسائل تتعلّق بوجهات النظر فيما حدث، ولماذا تصرّف كلّ مقاتلٍ تلتقيه المخرجة على النحو الذي تصرّف عليه.

بعض الأسئلة التي تُصّر عليها بزري، والفيلم من خلالها، ساذجة وربط النقاط المختلفة بين ذكرياتها ومحاولة فهمها اليوم عمّا دار وكيف ولماذا، تبدو بدورها متأخرة وملحاحة، عوض التّوجه صوب أسئلة مختلفة حين يتطلّب الأمر كذلك، لكن الفيلم يبقى واعياً لدوره ومرتبطاً به. معظم المتحدثين غير نادمين على الاشتراك في تلك الحرب، كل لحماية مبادئه ومعقله، لكنهم نادمون على أن الحرب نفسها وقعت.

* عروض: مهرجان لوكارنو.

THE SEED OF THE SACRED FIG ★★★☆

* «بذرة شجرة التين المقدّسة»: دراما سياسية لمحمد رسولوف (فرنسا، ألمانيا- 2024)

هروب المخرج محمد رسولوف من سجنه في إيران يشبه هروب المخرج يلماز غونيه من سجنه التركي في الثمانيات. كلاهما سُجن بسبب مواقفه السياسية، وكلاهما هرب من السجن (وإن كنا لا نعرف كل التفاصيل حول كيفية الهروب) وعُرض فيلمه الممنوع في مهرجان «كان». كلاهما كذلك دخل وخرج من السجون أكثر من مرّة.

«بذرة شجرة التين المقدّسة» (رَن واي بيكتشرز)

الموضوع الذي يتطرّق إليه رسولوف مختلف عن ذاك الذي قدّمه غونيه في «الجدار» (1983، قبل عام واحد من وفاته)، لكن كليهما له علاقة بالوضع السياسي وما يخلقه من اضطرابات كبيرة في حياة الأفراد. فيلم رسولوف هذا يعمد لانتقاد النظام القضائي ومن ناحية أخرى نظام الحكم ومتاعبه مع الجيل الجديد الذي يُنادي بالحريات والتحديث وإيقاف القمع.

يدور حول محقق قضائي اسمه إيمان (ميزاغ زاري) موعود بالارتقاء لمنصب قاضي عمّا قريب. زوجته نجمة (سهيلة غولستاني) تفرح للخبر كون منزلهما لم يعد كافٍ لعائلة من أربعة. ابنتيهما، رجفان (مهسا روستامي) وسانا (ستاره ماليكي) كَبِرا، وكلٌ منهما تحتاج إلى غرفة منفردة. في يوم يفتقد إيمان مسدّسه الذي عادة ما يتركه في الدُّرج بجانب السرير فلا يجده. كل سعيه للارتقاء، كل شعوره بالأمان وكل ثقته بمحيطه في العمل وفي البيت يتهاوى.

لا يُحسن الفيلم اختصار الوقت الطويل الذي يمضيه في تكرار هذا الموقف ولا في عملية استجواب الفتاتين حول من التي سرقت المسدّس. هناك فصلٌ كاملٌ لاستجواب آخر يقوم به طبيب نفسي لا يصل الفيلم معه إلى نتيجة.

إيمان لا يستطيع إخبار الجهة الرسمية التي يعمل بها حتى لا يجد نفسه في السجن لثلاث سنوات. يرزح الآن تحت وطأة الاحتمالات قبل أن يقرّر الهرب إلى مكان في منطقة مهجورة، بحجة أنه يريد إعادة الّلُحمة العائلية كما كانت عليها. لكنه في الواقع يريد استجواب زوجته وابنتيه ويفعل ذلك برفق في البداية ومن ثَمّ يتأكّد أن عائلته تكذب عليه فيَسجن زوجته وابنته رجفان في زنزانتين منفردتين (يتبيّن أن المكان كان سجناً قديماً) في حين تهرب ابنته الأصغر سانا التي هي من سرقت المسدس.

المحور هنا أن ابنتيه ضدّ النظام، الأمر الذي لا يستطيع الأب قبوله. لكن الخيط الرفيع الذي يمشي الفيلم عليه، بالكاد يتحمّل هذا السرد المكبّل باختيارات أحداث جانبية وبانتقال نقطة الاهتمام ما بين الأب وعائلته في كَرٍ وفرٍ دخولاً إلى فصل نهائي لا يجسّد الفكرة الأساسية بل يحوّلها إلى منوال تشويقي يمكن له الانتماء إلى فيلم آخر.

«بذور شجرة التين المقدّسة» فيلم مهم أكثر منه جيّداً. رسولوف نفسه كان أكثر تحديداً وإجادة قبل 7 سنوات عندما قدّم «رجل ذو نزاهة» (A Man of Integrity). أو قبل عامين عندما عُرض «لا يوجد شر» (There is No Evil).

* عروض: مهرجان «كان».

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والإنتاج الافتراضي... نقاش تحوّلات صناعة الأفلام في الرياض

يوميات الشرق ‎⁨«تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الأفلام» قدّمها أندري كوزيكوف (هيئة الأفلام)

الذكاء الاصطناعي والإنتاج الافتراضي... نقاش تحوّلات صناعة الأفلام في الرياض

ناقش خبراء عالميون متخصّصون في التقنية وصناعة الأفلام مستقبل السينما في عصر الذكاء الاصطناعي والواقع المعزِّز، وتقنيات الإنتاج الافتراضي.

إيمان الخطاف (الرياض)
يوميات الشرق واكيم فينكس وليدي غاغا في مشهد استعراضي (وورنر)

«جوكر: مجنونان»... حكاية رجل يبحث عمن يكون

‫أحد الأسباب التي لم تساعد «جوكر: مجنونان» على إنجاز ما حققه الجزء الأول من حكاية آرثر فلَك من نجاح (أنجز الفيلم لحين كتابة هذه الكلمات 155 مليون دولار عالمياً…

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق مشهد من الفيلم المصري «دراكو رع» (صفحة خالد منصور في «فيسبوك»)

«دراكو رع»... رهان سينمائي يتجدد على الكوميديا الفانتازية

جدد إطلاق الشركة المنتجة لفيلم «دراكو رع» التيلر الدعائي عبر صفحاتها بمواقع التواصل الاجتماعي، الرهان على الكوميديا الفانتازية في دور العرض المصرية والعربية.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق محمد إمام مع والده (حساب محمد إمام على «فيسبوك»)

مصر: تصريحات عمر متولي عن صحة عادل إمام تحظى باهتمام «سوشيالي»

حظيت تصريحات الفنان عمر متولي، نجل شقيقة الفنان الكبير عادل إمام، بتأكيد اعتزال الفنان الملقب بـ«الزعيم» باهتمام كبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)

كيف عبرت سينما لبنان عن حروبه وأزماته؟

خلال الحرب الأهلية اللبنانية وبعدها، كان من الطبيعي للسينما أن تصوّرها من زوايا مختلفة

محمد رُضا‬ (لندن)

كيف عبرت سينما لبنان عن حروبه وأزماته؟

القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
TT

كيف عبرت سينما لبنان عن حروبه وأزماته؟

القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)

بينما تقصف الطائرات الإسرائيلية مناطق لبنانية عدّة وتدمّر بلدات وضواحي، وتُغير على المدن صغيرة وكبيرة، لا يسعُ المرء إلا ضمّ هذه الفترة الحاسمة التي يمر بها لبنان إلى فترات ومراحلَ عاشها هذا الوطن المكبّل منذ نحو نصف قرن. هذا إذا ما عفونا عما سبق ذلك من مراحل صعبة أخرى وإن لم تكن بهذه الحدّة.

أفلام أولى

انطلقت الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975 وازدادت شراسة بعد أشهر قبل أن تتحوّل إلى منوال حياة لنحو 16 سنة. خلالها وبعدها كان من الطبيعي للسينما أن تصوّر تلك الحرب من زوايا مختلفة. هي مجرد تسجيل وتوثيق في أفلام، ودراميات منتشرة على جانبي خط التماس في أفلام أخرى. بطبيعة الحال انتمى معظمها للتعبير عن الأسى والمُصاب وكيف أن شعب بلدٍ واحد تشرذم سياسياً وعمد إلى السّلاح لإثبات أن الآخر يجب أن يُمحى.

المخرج جورج شمشوم أنجز فيلماً وثائقياً طويلاً بعنوان «لبنان لماذا». العنوان نفسه يحمل حزناً أكبر من السؤال المطروح عبره. صُوّر على جانبي الخط الفاصل بين الفُرقاء وجاء، في نسخته الأولى غير المعدّلة، عاكساً لرغبة المخرج تسجيلَ الحقائق بحياد.

معارك حب (موڤنتو فيلمز)

على بُعدٍ يسير حقّق الرّاحل رفيق حجّار «الملجأ» (في مطلع الثمانينات) ليصفَ وقعَ الحربِ على أبرياء مسلمين ومسيحيين. نظرة حيادية أخرى تحميها الغاية الإنسانية التي تبنّاها الفيلم.

بعد ذلك ازداد عددُ الأفلام التي تداولت تلك الحرب حتى - وربما خصوصاً - من بعد نهاية سنواتها المريرة. من أبرز أعمال تلك الفترة «زنّار النار» لبهيج حجيج تدور قصّة حول أستاذ مدرسة يواجه أزمتين حادتين، واحدة شخصية وعاطفية، والأخرى أزمة الحرب الواقعة.

الأزمة تتبدّى كذلك عبر تطلّعات فتاة تعيش جوّ عائلتها المسيحية في الفيلم الأول لدانيال عربيد «معارك حب»، تناولتها من زوايا مختلفة المخرجة مي المصري في «يوميات بيروت»، و«أحلام المنفى»، و«أطفال شاتيلا»، وهي مجموعة من أعمال حققتها وزوجها الراحل جان شمعون، تناولت الوضع اللبناني من خلال المأساة الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية التي، للحقيقة، قلّما تباعدت فعلياً خلال نصف قرن من الزمان بدءاً بعمليات اغتيال شخصيات لبنانية وفلسطينية عدّة في الستينات وما بعد.

بين بغدادي وعلوية

قبل ذلك بأعوام، قاد مخرجان لبنانيان قطار الحديث عن لبنان كأزمة عيش وأزمة حرب. المخرجان هما برهان علوية، ومارون بغدادي. كلاهما رحل. الأول في المنفى، والثاني خلال زيارة لبيروت آتٍ من فرنسا حيث كان انتمى إلى هيكل أعمالها.

في «بيروت اللقاء» لعلوية (1982)، حكاية لقاءٍ لا يتم بين مسلم ومسيحية. الظروف المانعة هي تلك الحرب المجنونة. وجهة نظر الفيلم هي ما تعنيه الحرب من انكسارات نفسية وعاطفية. ليس أن حيدر (هيثم الأمين)، وزينة (نادين عاقوري)، عاشقان قبل أو خلال تلك الحرب، بل كلاهما ينشد معرفة الآخر لعله يعرف نفسه أكثر.

الرغبة في المعرفة قادت مارون بغدادي لتحقيق فيلمين عن هذا الموضوع هما، «بيروت يا بيروت» (1975)، و«حروب صغيرة» (1982). الأول تعبيرٌ عن الشعور الداخلي الذي كان ينتاب المخرج حيال التركيبة الطائفية والاجتماعية. بطلته (ميراي معلوف) تسعى لمعرفة الآخر، في حين صديقها المثقف (جوزيف بو نصّار)، محافظٌ يؤمن بالتباعد وليس مهتماً بمعرفة ذلك لآخر. كلاهما من عائلتين مسيحيّتين، والآخر لا بد أن يكون الطّرف المسلم الذي يؤيد القضية الفلسطينية والعدالة الاجتماعية والعروبة.

في فيلمه اللاحق «حروب صغيرة» (الأفضل حرفياً من سابقه)، نقل بغدادي المعادلات نفسها إلى وطيس الحرب الأهلية. النماذج التي تعبّر عن مواقف هي ثابتة: المرأة التي تنشد المعرفة. المسلم الذي يبحث عن مستقبل، والمسيحي الملتزم.

زنار النار (بورتريه أند كومباني)

سجل حساب

من الأفلام التي طَرحت إفرازات الموقف بعد الحرب وعلى نحو جيد ومحسوب، فيلم زياد الدويري «القضية 23» (2017). أحداثه تقع بعد الحرب بسنوات، بيد أن بعض أسبابها لا تزال قائمة: طوني (عادل كرم)، رجل من المهجَّرين منذ أن اكتسح المقاتلون الفلسطينيون واليساريون منطقة الدامور خلال الحرب الأهلية، يعيش الآن في بيروت (الشرقية)، ويعمل في كاراجه ويشحن بطارياته السياسية بخطب زعماء اليمين اللبناني حاملاً ضغينة ضد الفلسطينيين. لذلك، ما إن سمِع لهجة رجل فلسطيني يقف تحت شُرفة منزله حتى رمى عليه الماء.

الفلسطيني هو ياسر (كامل الباشا)، يعمل وكيلَ عمّالٍ في البلدية، ويشرف على تنفيذ إصلاحات في الشارع حيث يعيش طوني، الذي يُخبر ياسر في مطلع المشادة بينهما «يا ليت شارون قضى عليكم جميعاً». التجاذب يُدلي إلى مشادة، والقضية تُرفع إلى المحكمة بين شخصين؛ الأول ما زال يحمل مبادئه السياسية، والآخر يحاول أن يحافظ على موقعه ليعيش. في مرافعات طوني حديثٌ عن أن الفلسطيني يُعامَل في لبنان أفضل من معاملة اللبناني في بلده. لكن المحكمة حكمت لصالح الفلسطيني، خصوصاً أنه مُتعاقد رسمياً مع مؤسسة الحكومة للقيام بما عُهد إليه من أعمال.

هذا واحد من سجلِّ الحسابات المفتوحة التي ما زال الوضع السياسي يعجّ بها إلى اليوم. لكنه ليس السجِّل الوحيد. على سبيل المثال حظت قضية المخطوفين والمفقودين ببعض الأفلام التي عالجت ذلك الجرح الغائر. ربما دفنته لدى بعضهم الأيام وصولاً إلى الحال الراهن، لكنّ الأحياء الذين عانوا من غياب أفراد عائلاتهم ما زالوا يتذكرون ويتألمون.

أفضلُ تصوير لذلك ورد في فيلم «طرس... الصعود إلى المرئي» لغسان حلواني (2019). تسجيلي مشغول بوصفه نبشاً فنياً وموضوعياً فريداً في جدار الذاكرة.

في صميمها، هذه نماذج من كثير من الأفلام التي صاحبت تلك الحرب الأهلية، ومن ثَمّ تابعتها أو أتت بجديد مُستنتج منها وصولاً إلى وضع جديد حاضر سيُنتج بدوره أفلاماً أخرى.