خيرُ الأفلام ما قلَّ وقتُه ودلَّ محتواه. وكأنها القاعدة الذهبية التي يعتمدها المخرج اللبناني كريم الرحباني منذ فيلم تخرُّجه «ومع روحِك»، مروراً بقصته الطافحة بالإنسانية «كارغو»، وليس انتهاءً بمشروعه الجديد «آخر واحد».
الفيلم القصير العائد من «مهرجان البحر الأحمر» في جدّة؛ حيث كان عرضُه العالميّ الأول، يستعدّ لجولة على المهرجانات السينمائية الدوليّة. وبجرأةٍ خالية من الوقاحة والابتذال، وبواقعيةٍ تُحاذر السوداويّة، يروي الرحباني قصة توفيق؛ الرجل المسنّ الذي باتَ أسير العمر والبيت واليأس والوحدة، بعد أن توفيت زوجته وهاجر أولاده.

لكنّ الزاوية السرديّة التي اختارها الرحباني لا تَدَع توفيق يغرق في دوّامة الكآبة. يقول، لـ«الشرق الأوسط»: «أردتُ أن أكسر المأساة بالمرح والنكتة، فمهما اشتدّ السواد، الكوميديا حاضرة دائماً للتخفيف من وطأته». وهذه قاعدة ذهبية ثانية يعتمدها المُخرج الشاب، إذ يحرص على الثنائيّة في كل شيء؛ القسوة يقابلها لين، والدمعة تمسحها بسمة؛ «لأنّ أفلامي تشبه يومياتي ويوميات أي إنسان، بمزيج الفرح والحزن الذي فيها».
يدقّ الأمل باب توفيق على هيئة شابةٍ أخطأت في العنوان. بريقُ عينَيها وفستانها الأحمر كافيان ليشعلا نوراً في روحه، وليحرّراه من جدران المنزل بحثاً عن أثرٍ لها أولاً، ثمّ سعياً وراء خيطٍ يربطه بالحياة من جديد. وإذا أراد رجلٌ في سنّ توفيق أن يخرج من عزلته، فلا بدّ له أن يستقلّ قطار التكنولوجيا. يأتي الموظّف في الدكّان المجاور لبيته، ليعرِّفه على تطبيق المواعدة «تِندر» ويشجّعه على الخروج من شرنقته.

لإضفاء مزيدٍ من الواقعيّة إلى هذه الحبكة المستجدّة في الفيلم، أَخضَع كريم الرحباني والدَه للتجربة نفسها مستوحياً منه ردود فعل الشخصية على هذه الصدمة التكنولوجية. ولم يقصّر عفيف مزبودي في أداء دور توفيق بكلّ حالاته، مع العلم بأنّه ليس ممثلاً محترفاً.
يوضح الرحباني، في هذا السياق، أنه يميل إلى «المزج بين الممثلين المحترفين والأشخاص العاديين؛ لأنّ ذلك يولّد توازناً بين الخبرة والعفويّة، الأمر الذي يُثري الفيلم». وقد أثبتت هذه التجربة نجاحها، إذ اتّضح أنّ العفويّة هي بمثابة عمودٍ فقريّ في «آخر واحد»، دون أن يعني ذلك تفلّتَ الممثلين من إدارةٍ إخراجية صلبة.
هذه العفويّة نفسها وطبيعية الأداء لدى مزبودي والممثل إيلي نجيم (بدَور موظف الدكان) وسائر الممثلين، لقيت صداها في ضحكاتٍ وغصّات، خلال العرض الأول بمهرجان البحر الأحمر. ومع شعوره بالامتنان لاختيار فيلمه ضمن هذا الحدث السينمائي الرائد، يقول الرحباني: «ردود فعل الجمهور أفرحتني كثيراً؛ أولاً لأن ثنائية الحزن والفرح وصلتهم من دون عناء، فأدمعوا وضحكوا، وثانياً لأنهم رحّبوا بتناولي موضوعاً جريئاً هو حق المسنّين في البحث عن مسرّات الحياة، وذلك بأسلوبٍ سرديّ وتصويريّ سلس وغير مبتذل».

مثلما أسَرَت شخصية توفيق المشاهدين، كذلك فعلت مع كريم الرحباني. ففي عام 2020، وخلال بحثه عن ممثل لفيلمه القصير «تروبيل» من سلسلة «بيروت 6:07»، تعرَّف إلى رجلٍ كان يصطاد السمك على كورنيش المنارة في بيروت. رأى المخرج فيه ملامح دراميّة وموهبة دفينة فألقى صنّارته وأقنعَه بخوض التجربة. وهكذا انضمّ عفيف مزبودي إلى فريق كريم الرحباني، لينتهي به الأمر في 2024 بطلَ فيلم «آخر واحد»، وهو دورٌ كُتب بناءً على شخصيته، وفق الرحباني.
بحثاً عن خفقة قلبٍ جديدة وابتسامةٍ تُلطّف نهايةَ العمر، يَمضي توفيق في شوارع بيروت. ينفض عنه القلق والوحدة وأخبار الموت، فيطرق أبواباً لم يتوقّع أن يقف أمامها بعد هذا المَشيب. بين غرابة الموقف الذي يترجَم إلى ارتباك لدى الشخصية، وبين طرافةِ ما يجري، يبقى للنهاية الوَقعُ الأكبر. يصرّ الرحباني على أنّ «النهاية هي أقوى ما في الفيلم؛ لأنها تأتي لتوضح أنّ القصة أعمق من قشور الرغبات والجسد. مكافأة توفيق معنويّة وروحية تتّخذ شكل ضحكةٍ يتشاركها مع سيدة تتعادل معه سناً وهواجس».

تمنح تلك الضحكة الطويلة نهايةً مفتوحة لـ«آخر واحد»، وتفتح نافذة أملٍ لتوفيق ولأبناء جيله بأنّ الحياة لا تتوقف عند عتبة السبعين أو الثمانين، أو حتى التسعين. يُذكِّر المخرج هنا بالدافع الذي حدا به إلى معالجة هذا الموضوع تحديداً: «كان من الضروري أن أضيء على قضية المسنّين الذين يغرقون في عزلتهم وكأنهم يعيشون لينتظروا النهاية فحسب، ولا سيّما أنّه في منطقتنا العربية ثمة ميلٌ للاستخفاف بالاحتياجات المعنوية والعاطفية لكبار السن».
كريم، الذي يمثّل الجيل الرحبانيّ الثالث، والآتي من عائلةٍ تنبض فناً، هو حفيد منصور الرحباني وابن غدي الرحباني، لا يؤمن بالتوريث الفنّي، لكن إذا كانت الموهبة تجري في العروق، كما هي الحال في البيت الرحبانيّ، فلا قوّةَ تكبحها، لعلّه أخذَ عن جدّه قاعدة ذهبية أخرى هي «في الاتّحاد قوّة»، لذلك فإنّ «فريقَه الحلم» يضمّ والدَه غدي الذي يعاونه في كتابة الأفلام مانحاً إياها كثيراً من أدبه الإنسانيّ اللمّاح، وشقيقه المؤلّف والعازف عمر الذي يتولّى الموسيقى. أما الإنتاج فيُديره هو وأخوه تحت لواء شركتِهما «Rahbani 3.0».

يكشف الرحباني أنّ الباب الذي فتحته نهاية «آخر واحد» قد تتفرّع عنه أبوابٌ أخرى، إذ «يجري العمل حالياً على تطوير الفيلم القصير إلى سلسلة تلفزيونية تنتمي إلى الكوميديا الرومانسية، من المفترض أن تُعرَض على إحدى منصات البث».
لا يعني هذا الانشغالُ بالأفلام القصيرة والحلقات التلفزيونية أنّ المخرج لا يتطلّع إلى فيلمٍ روائي طويل. هو المتأثّر بالسينما الواقعية الإيطالية، وبمدرسة ألفريد هيتشكوك التشويقية، وبحنكة الأفلام الإيرانية، يطمح إلى سرد مزيدٍ من القصص غير الاعتيادية التي يعيشُها أبطالٌ عاديّون يشبهون البسطاءَ من بين البشر.

