شركتان من ملّاك كبريات الصحف الأميركية قررتا التخلي عن خدمة «أسوشييتد برس»... بذريعة التوفير

بعد مضي ما يقرب من قرنين على هيمنة وكالات الأنباء العالمية على «صناعة الخبر»، وتحولها إلى مصدر الخدمة الأساسي الذي تعتمد عليه غرف الأخبار في غالبية وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، كان من الصعب تصور استغناء تلك الوسائل أو بعضها، عن هذه الخدمة.

وعلى الرغم من ظهور وكالات جديدة، كانت تنشأ في أعقاب تغييرات جيوسياسية وصعود قوى إقليمية ودولية بقدرات «عظمى»، حافظت الوكالات «الأصلية» على هيمنتها.

المقر الرئيس لوكالة الـ"أسوشييتد برس" في نيويورك (آ ب)

ومنذ الحرب المكسيكية - الأميركية عام 1846، لجأت الصحف الكبيرة والصغيرة إلى وكالة الـ«أسوشييتد برس» للحصول على تقاريرها من أماكن لا يمكن لمراسليها الوصول إليها. وبفضل وجود أكثر من 200 مكتب لها حول العالم، ظلت الـ«أسوشييتد برس»، أكبر اسم تجاري بين ما أصبح يعرف باسم الخدمات السلكية، حيث تنقل مقالاتها وصورها إلى منافذ الأخبار مقابل رسوم ترخيص. وصارت بعض الصحف الصغيرة تعتمد بشكل كبير على محتواها، لدرجة أن الخط التحريري لـ«أ.ب» كان الأكثر شيوعاً في أخبارها.

صناعة الخبر الخاص

غرف صناعة الأخبار غالباً ما شهدت مناقشات حول الحد الفاصل، بين خبر الوكالات والخبر الخاص المنتج من موظفي ومراسلي وصحافيي الوسائل الإعلامية. بيد أن تكلفة إنتاج الخبر الخاص كانت على الدوام تحبط جهود الاستغناء عن خبر الوكالات، ليتحول الجهد الخاص إلى قصص تعتمد على مخيلة وابتكارات صحافية ومقابلات وتسريبات، تطمح للتميز، ليس عبر الخبر، بل عبر المادة الإعلامية.

وغني عن القول إنه طرأت تغييرات كبيرة على إنتاج المادة الإعلامية، مع صعود دور وسائل التواصل الاجتماعي، التي حولت على سبيل المثال، أي حامل لهاتف ذكي إلى مراسل ميداني في الوقت الفعلي لحصول الحدث «الخبر». إلا أنه، مع هذا، لا يزال الإجماع منعقداً على أن موثوقية الخبر تعتمد على جهة يمكن محاسبتها وتحميلها المسؤولية، في ظل ضعف الرقابة على مضمون ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وخطر «التزييف» العميق الذي تصاعد أخيراً مع تصاعد استخدام «الذكاء الاصطناعي».

هذا من حيث المبدأ. ولكن أخيراً، أعلنت «سلسلتان» صحافيتان أميركيتان كبيرتان أنهما قرّرتا التخلي عن خدمات الـ«أسوشييتد برس» للحصول على الأخبار؛ إذ ذكرت شركة «غانيت»، ناشرة صحيفة الـ«يو إس إيه توداي» وأكثر من 200 صحيفة محلية، وشركة «ماكلاتشي»، التي تنشر صحيفتي الـ«ميامي هيرالد» والـ«كانساس سيتي ستار» من بين أكثر من عشرين صحيفة أخرى، هذا الأسبوع، أنهما أنهتا علاقة المحتوى الخاصة بهما مع الوكالة.

مايك ريد (يو إس آيه توداي)

توفير المال على حساب الثقة

وفق صحيفة الـ«واشنطن بوست»، عدّ مسؤولون تنفيذيون في مذكرة داخلية للموظفين في كلتا الشركتين، هذه الخطوة بأنها «لتوفير التكاليف»، المقدرة بملايين الدولارات. وذكروا أنهم لن يواجهوا أي مشكلة في سد الفجوة الإخبارية.

إذ كتبت كريستين روبرتس، المديرة التنفيذية لشركة «غانيت» عبر مذكرة، يوم الثلاثاء قبل الماضي: «إننا نصنع صحافة أكثر كل يوم من وكالة (الأسوشييتد برس)». بيد أن بعض مراقبي وسائل الإعلام - بمن في ذلك العاملون في الصحف المتضررة - حذّروا من أن القرار سيقطع مصدراً حيوياً للتقارير الموثوقة التي أصبح القراء يعتمدون عليها. ورأى بعضهم القرار «خسارة» لا يمكن تعويضها، منتقدين ادعاءات مسؤولي الشركتين عن تحقيق الوفر المادي، في حين فرض التقليص المتواصل على طاقم إعداد التقارير، الاعتماد أكثر فأكثر على الخدمات الإخبارية للمساعدة في سد الفجوات.

ومن جهتها، علّقت مارغو سوسكا، أستاذة الصحافة في الجامعة الأميركية (في واشنطن) ومؤلفة كتاب «التحوّط: كيف ساعدت صناديق الاستثمار الخاصة في تدمير الصحف الأميركية وتقويض الديمقراطية؟»، قائلة إنها «تشعر بالقلق بشأن ما قد يملأ تلك الصفحات الآن». وأردفت: «وكالة (الأسوشييتد برس) هي واحدة من أكثر المنظمات موثوقية في مجال التغطية الإخبارية على المستوى الوطني وعلى مستوى الولايات». وشددت على الدور الذي تلعبه «التقارير الموضوعية» للوكالة في سنة الانتخابات الحالية، قبل أن تضيف: «بالنسبة لأي شخص يهتم بالأخبار في ظل ديمقراطية فاعلة، هذا مجرد مسمار آخر في النعش».

تفاوض لتحسين العقد؟

أما نيكول مئير، الناطقة باسم الـ«أسوشييتد برس» فقالت إنها تأمل أن تواصل شركتا «غانيت» و«مكلاتشي» استخدام خدمات المحتوى الإخبارية الخاصة بها، كاشفة عن أن «المباحثات معهما مستمرة»، ما يشير إلى أن قرارات الناشرين يمكن أن تكون جزءاً من استراتيجية التفاوض على العقد. وأفادت مئير في بيان: «نحن نقدّر صعوبة اتخاذ هذه القرارات، ونفهم بعمق التحديات التي تواجهها صناعة الأخبار... ولكن في الوقت نفسه، سيكون هذا بمثابة ضرر لمستهلكي الأخبار في جميع أنحاء الولايات المتحدة الذين لن يروا بعد الآن الصحافة القائمة على الحقائق من (الأسوشييتد برس)». وعلى الرغم من ذلك، ذكرت «غانيت» أنها ستواصل الحصول على خدمة تغطية بيانات الانتخابات من الـ«أسوشييتد برس»، وكذلك استخدام كتاب الأنماط الخاص بها، وهو عبارة عن مجموعة من المبادئ التوجيهية اللغوية والنحوية لغرف الأخبار.

شعار "ماكلاتشي" (ماكلاتشي)

في هذه الأثناء، أوضحت الـ«أسوشييتد برس» أن رسوم الصحف الأميركية تمثل فقط نحو 10 في المائة من دخلها السنوي، وأن الخسارة في الإيرادات من «غانيت» و«ماكلاتشي» لن تؤثر بشكل كبير على مواردها المالية. وبينما تواصل الشركتان التشديد على أن قرار الاستغناء عن خدمة الـ«أسوشييتد برس» سيمكّنهما من الاستثمار بشكل أكبر في إنتاج أخبارهما الخاصة، فإن وعودهما بزيادة أعداد الطاقم الإخباري وتخصيص أموال إضافية، لم تطبّق بعد على الأرض. وفي مؤتمر صحافي عُقد في مدينة أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا، الأربعاء قبل الماضي، تطرّق مايك ريد، الرئيس التنفيذي لشركة «غانيت»، إلى موضوع الاستغناء عن خدمات الوكالة، فقال إن مُحتوى الوكالة «لم يعُد يُقرأ جيداً مثل القصص المنتجة محلياً، وعلى هذا النحو، كان من الأفضل من الناحية المالية توفير المال وتوظيف مراسلين محليين لإنتاج المزيد مما يريده القراء».

تكلفة إنتاج الخبر الخاص، كانت على الدوام تحبط جهود الاستغناء عن خبر الوكالات، ليتحول الجهد الخاص إلى قصص تعتمد على مخيلة وابتكارات صحافية ومقابلات وتسريبات

مقر "غانيت" في ماكلين بضواحي العاصمة الأميركي واشنطن (رويترز)

أجور خيالية للمديرين

من ناحية ثانية، على الرغم من إعلان ريد عن جهود لتعزيز غرف التحرير، وتعهّد الشركة أخيراً باستثمار مبلغ 2 مليون دولار لتوظيف عاملين جدد في غرف الأخبار، فإن ثمة شكوكاً كبيرة حول نيات «غانيت» فيما يتعلق بإمبراطورية الأخبار المحلية الخاصة بها؛ إذ، على العكس من ذلك، أضرب في العام الماضي، مئات الصحافيين في صحف «غانيت» في عدة ولايات احتجاجاً على خفض عديد العاملين في غرف تحرير الشركة. وأفاد بعض العاملين بأن أجور بعض الموظفين العاملين منذ أكثر من 30 سنة، ليست متناسبة مع جهودهم، وثمة وظائف شاغرة منذ أكثر من سنتين لم تملأ بعد. وبالفعل، وفق إحصاءات وظيفية، عمدت «غانيت» - التي تعد أكبر سلسلة صحف في أميركا - إلى تقليص عدد موظفيها خلال السنوات الثلاث الماضية بنسبة 47 في المائة. وهو ما دعا البعض إلى القول إن ادعاءات رئيسها التنفيذي عن زيادة عدد الموظفين لتقديم أخبار محلية قوية «ادعاءات مضحكة».

في مطلق الأحوال، عانت كل من «غانيت» و«ماكلاتشي» من صعوبات مالية خلال السنوات الأخيرة؛ إذ عمدتا إلى الاندماج مع شركات أخرى، وسيطرت صناديق تحوّط استثمارية وشركات أسهم خاصة عليهما، بعد مزاد إفلاس. ولكن، رغم ذلك، تبين أنه على الرغم من السنوات الصعبة الأخيرة التي شهدتها وسائل الإعلام، فإن مسؤولين تنفيذيين في الشركتين حصلوا على أجور خيالية. وعلى سبيل المثال، ووفقاً لإيداعات هيئة الأوراق المالية والبورصة، حصل ريد، المدير التنفيذي لـ«غانيت» نفسه، عام 2021، على راتب سنوي يقرب من 8 ملايين دولار، بينما واصلت الشركة تسريح الموظفين.

مسؤولة الذكاء الاصطناعي لدى «أسوشييتد برس»: الوظائف الصحافية الروتينية ستلغى

عند تصفح أجندة جلسات منتدى الإعلام العربي لهذا العام، لفت انتباهي، وانتباه غيري جلسة تحت عنوان «ثورة الروبوتات ومستقبل الصحافة». الموضوع مقلق لأهل المهنة. فهناك مخاوف باستبدالهم بـ«روبوتات» تنجز عملهم بسعر أقل وسرعة أعلى. وشحة المعلومات المتوفرة حول هذه الثورة، ومدى تأثيرها على غرف التحرير زادت من الإرباك. لذلك، لم يفاجئني إقبال حضور المنتدى من نخبة الإعلاميين على هذه الجلسة. وبعد ظهر اليوم الأول للمنتدى، طلت علينا ليسا غيبس مسؤولة استراتيجية الذكاء الاصطناعي لدى وكالة «أسوشييتد برس» (أ.ب) لتحدثنا عن هذه الظاهرة التي يتخيلها البعض بفنتازية أفلام الخيال العلمي. إلا أن الغموض تبدد شيئا فشيئا خلال الجلسة خصوصا عندما كشفت لنا غيبس أن الذكاء الاصطناعي بإمكانه أن يكون السلاح الأمثل لمحاربة ظاهرة الأخبار الكاذبة التي تهدد اليوم كبريات المؤسسات الإعلامية. انتهزت فرصة وجود غيبس في دبي علما أن مقر عملها في نيويورك لإجراء حديث معها عن أسئلة خطرت في بالي خلال الجلسة، فرحبت بذلك. فحدثتني عن توظيف الذكاء الاصطناعي في عالم الصحافة، وكشفت لي عن أداة «أ.ب فيريفاي» التي تطورها الوكالة لكشف الأخبار الكاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي. ولم أستطع إلا أن أسألها سؤالا يراود جميع الصحافيين اليوم.. «هل ستطردنا التكنولوجيا من مكاتبنا وتعفينا من مهامنا؟» وفيما يلي نص الحوار:
> تلقت جلستك «ثورة الروبوتات ومستقبل الصحافة» خلال فعاليات منتدى الإعلام العربي الكثير من التغطية الصحافية. وعنونت معظم التقارير تصريحك بأن «الذكاء الاصطناعي أداة لصناعة ومحاربة الاخبار الكاذبة». فكيف ذلك؟
- هناك أدوات قد تستخدم لكتابة نماذج قصص. هذه النماذج قد توظف لتوليد كم كبير من الأخبار استنادا على بيانات يتم تجميعها. هذا النوع من التكنولوجيا بالإمكان أن توظفه المؤسسات الإعلامية المرموقة لضخ الكثير من القصص البسيطة مثل تغطيات المباريات الرياضية أو أخبار عن حالة الطقس أو حتى التقارير المالية. ولكن، قد يوظفها البعض الآخر أيضا لضخ الأخبار الكاذبة (Fake News). هذه الأخبار قد تكون بروباغندا سياسية، أو مجرد وسيلة لزيادة زيارات ومتابعات مواقع معينة لكي تستفيد من أرباح الإعلانات.
هناك أيضا تكنولوجيا أخرى أبدى المعظم قلقهم منها. هذه التكنولوجيا بإمكانها تجميع سلسلة من الصور لإنتاج صورة واحدة مزيفة بجودة صورة حقيقية يصعب التحقق منها. لكن، هنالك جانب مشرق لهذا التطور التكنولوجي، فإمكاننا اليوم كصحافيين توظيف الأدوات ذاتها للتحقق من صحة البيانات والمعلومات والصور بوتيرة أسرع من قبل.
نحن في وكالة أسوشييتد برس نعمل حاليا على تطوير أداة تتحقق من المعلومات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي. الطريقة اليدوية للتحقق اليوم من قبل الصحافي تتضمن بحثه عن مصدر المعلومات وتاريخ نشرها ومكان النشر أيضا، خصوصاً عند التأكد من صحة الصور. لكن، أصبح من الممكن اليوم من خلال التكنولوجيا المتوفرة بناء أداة تختصر العملية الشاقة على الصحافي وتنجز المهمة بوقت أقل.
> ظاهرة الأخبار الكاذبة أو المزيفة ليست وليدة هذا العصر. لكن التطور التكنولوجي أسهم بتفاقمها. هل تتفقين؟
- هذا بالفعل صحيح. السبب يعود إلى تضاعف سرعة نشر الأخبار الكاذبة عن طريق منابر التواصل الاجتماعي. كما أصبحت أدوات تسلح المهتمين بصناعة الأخبار الكاذبة متاحة اليوم بفضل التطور التكنولوجي. لكن، يجب ألا نهمل الحوار عن كيف بإمكان الأتمتة مساعدتنا بالتحقق من المعلومات المنشورة في القصص. أصبح من المقدور اليوم أن ينشر موقع إلكتروني خبرا ويتيح خاصية الضغط على المعلومات للقارئ للاطلاع على مصدرها ومصداقيتها. وينشط حوار مؤخرا حول المعايير التي تجعل من المنابر الإعلامية مصادرا موثوقة، والدور الإيجابي الذي قد يلعبه الذكاء الاصطناعي في مساعدة القراء والمستخدمين للتمييز بين المصادر والمنابر الموثوقة والكاذبة بسرعة أكبر.
> تقوم وكالتكم بتطوير أداة للتحقق من صحة البيانات «أ.ب فيريفاي» (AP Verify). ما هي أهداف المشروع؟ وهل اعتمدتم على شراكة مع «غوغل» لتطوير الأداة؟
- «أ.ب فيريفاي» أداة نقوم بتطويرها لمساعدتنا في التحقق من المواد المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل أسرع. المشروع ينفذ في مكاتبنا بلندن، وتمول شركة «غوغل» جزءا من تكاليفه تحت «مبادرة غوغل للأخبار» في أوروبا. نستعين بعملاقة التكنولوجيا (غوغل) لمساعدتنا في الاستثمار بتقنية ذات جودة عالية لتأكيد نجاح الأداة المطورة. القطاع الإعلامي لا يمتلك دوما الموارد الكافية للإبداع.
تمتلك الكثير من المنابر الإعلامية مختبرات بحث وتطوير، لكن ليس بمقدورها تحقيق رؤيتها. لذلك، نحن بحاجة إلى دعم من «غوغل» ومؤسسات وشركات أخرى في حربنا على الأخبار الكاذبة والمعلومات المزيفة. قد نعتبر تجهيز أنفسنا بالتكنولوجيا معركة تسليح بين قوى الخير الصحافية وطاقات الأخبار الكاذبة.
لطالما كانت التكنولوجيا متغيرة. فقبل قرن، تمثلت في مهنة الصحافة بتدوين الأنباء على ورقة ومن ثم الاستعانة بالهاتف للاتصال بالمكتب الرئيسي ونقل الخبر، ومن ثم تطورت الصناعة. تشهد كل حقبة إعلامية زمنية تغيرات تكنولوجية تربكها أو تعطلها، لكن المعايير التحريرية والمهنية يجب أن تظل ثابتة بغض النظر. يجب أن نبقى أوفياء لمعايير الصحافة بمصداقيتنا ومهنيتنا وموضوعيتنا. لذلك، يتوجب علينا أن نعمل معا لنحرص على تطوير طرق تبرز عملنا وتمنحنا القدرة على الكشف عن المعلومات المغلوطة بسرعة، وبإمكان تقنيات الذكاء الاصطناعي مساعدتنا على ذلك.
> ذكرت أن المشروع ممول جزئيا من قبل «غوغل». ماذا ستستفيد شركة عملاقة من هذا المشروع الصحافي؟
- قامت «غوغل» باتخاذ قرار بأنها ستقوم بدعم الصحافة ذات الجودة العالية. الشركة تريد مساندة الابتكار في مجال الإعلام. ولذلك، قامت بتخصيص صناديق للمساعدة في هذا النوع من المشاريع. أعتقد أن شركات مثل «غوغل» و«تويتر» و«فيسبوك» بدأت بملاحظة الدور التي تلعبه منابرها في مجال مشاركة وتبادل الأخبار، ذات الجودة العالية والمتدنية. كما تعي الشركات ذاتها أن المجال الإعلامي يعاني من الإرباك خصوصا في مجال التنمية المالية المستدامة. ولذلك، فهي تبحث عن طرق جديدة لدعم المؤسسات الإعلامية المرموقة ومساعدتها في زيادة الأرباح المالية من خلال منابرها الإلكترونية، وهذا التوجه أعظم من السابق.
> عندما تنتهون من تطوير أداة التحقق، هل تعتزمون مشاركتها مع المؤسسات الإعلامية الأخرى؟ أم أنكم ستكتفون بمشاركة الأخبار الصادقة التي ستتحقق منها «أ.ب فيريفاي»؟
- أعتقد أننا سنقوم بعمل الشيئين. لدينا حاليا الكثير من الصحافيين في الوكالة مسؤوليتهم التحقق من الأخبار والمعلومات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي. يقومون بالتواصل مع شهود العيان في مقر الحدث وتأكيد المعلومات. هذه الأمور تصب في تحسين سرج الخبر وتعميمه. ونقوم بتوفير هذه الأخبار الموثوقة للمنابر الإعلامية ليستخدموها. مشروع تطوير الأداة هو مشروع وليد لعام 2018 الحالي، وما زلنا في المراحل الأولية. لذلك، ليس بإمكاننا تقييم فعالية الأداة بعد. وهناك كثير من التساؤلات التي لا نملك لها الإجابات إلى الآن. ولكن أعتقد أنه من أهم أهدافنا دعم ومساندة الإعلام ليتبنى الأدوات والخطوات اللازمة في ظل التقنيات المتاحة.
> هل ستكون أداة «أ.ب فيريفاي» متاحة للتحقق من المعلومات بلغات أخرى، كالعربية؟
- نقوم الآن بالتركيز على اللغة الإنجليزية في بناء الأداة، ولكن اعتقد انه سيكون بمقدورنا مواءمتها لقراءة لغات أخرى سرعان التأكد من فاعليتها. معلومات الصور الذاتية (مثل التاريخ والوقت مثلا) تسجل في الأجهزة الإلكترونية بالإنجليزية، ما سيسهل علينا الأمر، وما سيجعل الأداة مفيدة للخدمات غير الإنجليزية حتى لو لم نغير اللغة. اللغة العربية مهمة جدا لوكالة «اسوشييتد برس». لدينا اليوم قسمان لترجمة اللغات الأجنبية، وهما اللغة الإسبانية، واللغة العربية، لأهميتهما في عالم الأخبار.
> هنالك مخاوف يعبر عنها الصحافيون اليوم وهي أن الذكاء الاصطناعي سيقوم باستبدالهم، وجعلهم عاطلين عن العمل. هل تتفقين؟
- هذا السؤال عادة أول ما يطرح علي في المقابلات. نحن (في الوكالة) لم نقم بإلغاء أية وظيفة منذ أن بدأنا بتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي. إذ نوظف هذه التكنولوجيا لمساعدة صحافيينا. نعفيهم من المهام الشاقة والرتيبة لزيادة إنتاجيتهم وجودة عملهم. نريد أن يركز صحافيونا المؤهلون الذين يتمتعون بقدرات عالية أن يركزوا على جوانب المهنة المهمة مثل سرد قصص هامة ومحورية للقراء، والتركيز على التحقيقات الاستقصائية، والمواد المبدعة. لا نريد أن يجلس صحافيونا خلف أجهزتهم ك«الروبوتات» ينتجون قصصا بسيطة عن الطقس أو نتائج المباريات الرياضية أو عن البيانات في قطاع المال. هذه القصص تخسر قيمتها بسرعة فائقة في عالم الإنترنت. نرى أن الصحافيين يجب أن تتوفر لديهم الفرصة والوقت للعمل على القصص التي لديها تأثير وصدى في العالم. قمنا بشرح رؤيتنا لكادرنا، وجميع الموظفين يتفقون معنا.
> ماذا عن أولئك الصحافيين الذين تعودوا على تغطية هذه الأنباء وإنتاج القصص البسيطة إذن؟
- الوظائف التي تعتمد على العمل الروتيني المذكور أعلاه من الأرجح أن تلغى. ومن ثم يترتب على الصحافيين الذين كانوا يشغلونها تلقي التدريب اللازم للقيام بمهمات أخرى. وأعيد الذكر أننا لم نقم بإلغاء أية وظائف في وكالتنا، بل قمنا بتوظيف وقت الفراغ الذي أصبح متاحا بفضل الذكاء الاصطناعي ليستثمره الصحافيون بمهام أكثر أهمية. كما نظرنا إلى توفير تدريب لكادرنا لتمكينهم بالمهارات لتواكب التطور التقني الطارئ.
وعندما حولنا تغطية القصص عن الإيرادات الآلية عن طريق التقنية الجديدة، تفرغ كادرنا لتغطية المزيد من الأخبار التقنية والاقتصادية، وركز صحافيونا على العمل الاستقصائي. وفي بعض الحالات، وفرت لنا تقنية الذكاء الاصطناعي إمكانية تغطية قصص لم نكن نغطيها من قبل لعدم توفر الكوادر الكافية. فأصبح بإمكاننا اليوم تغطية مباريات كرة القدم الجامعية في الولايات المتحدة على سبيل المثال. لم يكن لدينا كادر كاف من قبل بمقدوره تغطية المباريات التي تحدث في الوقت ذاته. ومن خلال التقنية أصبح ذلك متاحا، ولهذه الأخبار جمهور يقدرها.
> يوفر الذكاء الاصطناعي اليوم إمكانية جمع الأخبار من مختلف أنحاء العالم، هل سيهدد ذلك دور المراسل، وهل سيقوم بإلغاء عمله؟
- نعي كليا حاجتنا للصحافيين. خصوصاً الملمين بمناطقهم، ولغتهم، ولديهم تجربة واسعة في تغطية مجالات معينة من ساحات القتال إلى الصحة والعلوم. هذه الاختصاصات مهمة جدا على الأرض. فحتى لو استطعنا إرسال «روبوت» للتغطية ولالتقاط صور، في أماكن يصعب للمراسل الوصول لها، تحت الماء مثلا، إذ استعنا بالروبوتات في الأولمبياد وفي مباريات كأس العالم وغيرها. لكن، ما زلنا بحاجة إلى الصحافي الذي يشغل هذه التقنيات، وآخر لشرح الموقف. فحتى لو أرسلنا «روبوت» إلى مكان الحدث، وغاب المراسل، فلن يكون بمقدورنا الفهم والتأكد مما يحدث، وما دلالات الحدث. وأعتقد أننا سنواجه مثل هذا المواقف في المستقبل، ويجب علينا أن نكون مستعدين للتعامل معها وكيف سنقوم بنقل المعلومات التي تجمعها الروبوتات إلى المستخدمين. فقد تدخل سياستنا التحريرية فقرة جديدة على الخبر تشرح أننا حصلنا الصورة أو الأنباء عن طريق «روبوت» في مكان الحدث، ومن ثم على المستخدمين أخذ ذلك في عين الاعتبار عند تحليلهم للخبر.

الإعلام الأميركي يمنح بايدن الفوز... و{أسوشييتد برس» المرجع منذ 1848

من المفارقات التي شهدتها الانتخابات الأميركية عام 2020 أن كبريات الصحف الأميركية ومحطات التلفزيون، منحت تأييدها للرئيس المنتخب جو بايدن، ثم اعتبرته فائزا قبل أن تعلن الهيئات الرسمية النتيجة النهائية. هذا كان الوضع العام باستثناء صحيفة «نيويورك بوست» اليمينية الشعبية، التي منحت تأييدها للرئيس دونالد ترمب. وكانت الصحيفة نفسها قد تعرضت قبل أسبوع واحد من الانتخابات لإزالة تحقيق نشرته على وسائل التواصل الاجتماعي يتعلق بمزاعم عن فساد هانتر بايدن، ابن المرشح الديمقراطي.
بمقاييس عادية وطبيعية، يمكن القول إن «الحرب الشعواء» التي خاضها ترمب ضد ما يصفه بـ«الإعلام المزيف» على مدى 4 سنوات من حكمه، انتهت بخسارته للمعركة مع اصطفاف غير مسبوق لهذا الإعلام ضده.
حتى قناة «فوكس نيوز» اليمينية المحافظة، تمسكت ولا تزال بنتيجة عد الأصوات التي منحت بايدن الفوز، وهذا رغم الهجمات والانتقادات التي تعرّضت لها، سواء من ترمب - الذي هدّد بتأسيس محطة منافسة لها - أو من أنصاره الذين هتفوا ضدها في مظاهرة أمام مركز لإحصاء الأصوات في ولاية أريزونا.
في إحصاء أجرته مؤسسة «برس غازيت» حصل بايدن على تأييد 16 من كبريات الصحف الأميركية، بما فيها «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«شيكاغو تريبيون» و«لوس أنجليس تايمز»، وكذلك صحيفة «يو إس توداي» المعروفة برصانتها وتحفظها عن التأييد الفوري لمخرجات التصويت.
لم يكن هذا التأييد فريدا، إذ سبق أن حصلت عليه هيلاري كلينتون عام 2016، ورغم ذلك خسرت الانتخابات أمام ترمب. إلا أنه يؤكد أن ميول الإعلام الأميركي أصبحت مرتبطة بشكل وثيق بالمتغيّرات التي طرأت على تصنيف الولايات بين جمهورية «حمراء» وديمقراطية «زرقاء»، في ظل تصاعد الحديث عن ضرورة تغيير النظام الانتخابي لمصلحة التصويت الشعبي... متوازيا مع التغير السكاني الذي تشهده الولايات المتحدة وتأثيره على التأييد الشعبي الذي بات يمنح المرشح الديمقراطي تفوقا كبيرا على المرشح الجمهوري.
وهذا العام، حقق بايدن أيضا رقما تاريخيا بلغ نحو 76 مليون صوت، متفوقا على الرئيس الحالي ترمب بنحو 6 ملايين صوت، أي أكثر بنحو 3 ملايين صوت إضافي على الملايين الثلاثة التي نالتها كلينتون زيادة عن ترمب عام 2016، رغم خسارتها الانتخابات أمامه لتخلفها عنه بالأصوات الانتخابية.
رغم قلة وضوح «الانحياز» الحزبي، ومحاولة الإعلام الأميركي الظهور بمظهر المحايد، فإنه ما عاد ممكنا ملاحظة نفوره من ترمب، الذي تسبب أسلوبه الشخصي وهجماته التي تستهدف الكتاب والمحرّرين والمراسلين ومحطات التلفزيون والصحف على حد سواء، في تعميق حالة العداء معه. بل حتى وكالات الأنباء المرموقة، التي لا تزال مصدرا أساسيا للأخبار مثل وكالتي «رويترز» و«أسوشييتد برس»، أشارت إلى تأثير هذا المناخ على عمل مراسليها. وقال رئيس تحرير «رويترز» إن مراسلي الوكالة باتوا يضطرون لارتداء سترات واقية وخوذات وأقنعة واقية من الغاز، في كل مرة يغطون فيها الاحتجاجات التي تندلع في المدن الأميركية، بسبب الخوف على سلامتهم.
في المقابل، ومع أن الدستور الأميركي منح الحماية لحرية الصحافة والتعبير باعتبارها حجر زاوية الديمقراطية الأميركية، فقد دأب الرئيس ترمب على اتهام الأعلام بأنه «يمارس الكثير من السلطة على العملية السياسية في أميركا». كذلك زعم أن معاداة الإعلام له «نابعة من سيطرة الطبقة السياسية على هذا الإعلام ورفضها له، وهو الآتي من خارجها». وحقا، منذ ترشح ترمب للمرة الأولى، عام 2015، بنى رجل الأعمال الثري سيرته السياسية بأنه آتٍ لمواجهة «الفساد المستوطن» في واشنطن.
صحيح أن وسائل الإعلام لعبت دورا مهما في السياسة، ويحتاجها الناخبون لتحديد خيارات واضحة، لكن هل تستطيع هذه الوسائل، فعليا، أن تغيّر نتائج الانتخابات؟
يتفق معظم المحللين والخبراء في كل التجارب الانتخابية الأميركية على أن تزوير أصوات الناخبين بشكل واسع النطاق أمر مستحيل الحدوث. ولكن، في المقابل، يصرّ الرئيس ترمب على الزعم بأن الانتخابات قد زُوّرت، من خلال التغطية الإعلامية المنحازة ضده. ولكن لا شك في أن صدقية الإعلام تعرّضت للاهتزاز جرّاء التوقّعات الخاطئة التي نُشرت عن اتجاهات التصويت، سواء عام 2016، أو اليوم - ولو بشكل نسبي وأقل -، مع فشل التوقع بحصول «موجة زرقاء» تعطي الديمقراطيين الغالبية من الرئاسة إلى مجلسي الشيوخ والنواب. ورغم نمو الاشتراكات الإلكترونية مقابل تراجع توزيع الاشتراكات الورقية بنحو 30 في المائة منذ الانتخابات الرئاسية الماضية، يسود إجماع على أن تأثير الصحف بات أقل أهمية في صناديق الاقتراع.
وفي تقرير لجامعة أوريغون (في غرب الولايات المتحدة) يقترح 3 من أساتذة كلية الصحافة والاتصالات 6 عناصر لمعرفة دور الإعلام الحديث وتأثيره على الانتخابات، هي:
أولا، اختيار الصحافيين للمرشحين الذين يقرّرون تغطية أخبارهم ومقدار هذه التغطية، التي يمكن أن تؤدي إلى تأثير كبير على تصورات الناخبين.
ثانيا، النصوص وعناصر الاستقطاب، بعدما تبين أن غالبية المؤسسات الإعلامية اختارت جذب شريحة «حزبية» معينة، في ظل معرفتها بأن الناخب بات بإمكانه الوصول إلى معلومته عبر الإنترنت. وهو ما فرض تحول نشرات الأخبار المباشرة إلى برامج تحليل وإقناع.
ثالثا، تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، إذ أظهرت دراسة لمركز «بيو» للأبحاث أن 62 في المائة من الأميركيين يحصلون على أخبارهم من منصات التواصل الاجتماعي، علما بأنهم لا يدركون أن تلك المعلومات تُصفّى وتُبوّب بآلية تخفض مستوى الاستماع إلى وجهات النظر، لمصلحة أخبار منتقاة.
رابعا، تأثير الصورة، حيث تبين الأبحاث أن العناصر المرئية تتمتع بتأثير أقوى من الكلمات المنشورة، وخصوصا صور المرشحين التي تنقل مشاعرهم وأفعالهم بصورة تنطبع في ذهن الجمهور.
خامسا، بيانات الاستطلاعات التي أصبحت جزءا أساسيا من عمل مؤسسات الإعلام، مع أن الدراسات أظهرت أن طرح الأسئلة على المستطلعين لا يغيّر في قناعاتهم.
سادسا، مراقبة وسائل الإعلام للعملية الديمقراطية. ومع أن النتائج الرسمية للانتخابات ودور الإعلام فيها لم تظهر بعد، إلّا أن مراقبة الصحافة لعمليات التصويت بات شديد الأهمية في ظل الاتهامات التي تطلق عن التزوير.
لهذا، ورغم أن النتائج الموثوقة هي تلك التي تصدر عن الهيئات الرسمية، فإن الناخبين يفضلون معرفة النتائج خلال وقت قصير وليس بعد شهر. لذلك، مثلا، لا تزال وكالة أسوشييتد برس هي المرجع الرئيسي الموثوق في إعلان النتائج، وهو دور لا تزال تقوم به منذ عام 1848، ومن ثم تحولت الوكالة الوقورة إلى مقياس أساسي ومرجع يعتمد عليه، من خلال اعتمادها شبكة ضخمة ومترامية من المراسلين، واستخدامها برامج رياضيات وتحليلات وأدوات وآليات منهجية صارمة في عملية رصد النتائج. ويقول مسؤول كبير في الوكالة، التي منحت الفوز لبايدن هذا العام، إن تلك الأدوات والآليات منحتها القدرة على تحديد الفائز بمجرد إغلاق مركز الاقتراع. وتابع، أنها لم تخطئ في توقعاتها أبدا، من خلال تحليلها لاتجاهات التصويت المبكّر والاتجاهات السياسية طويلة الأمد في هذه الولاية أو تلك.
من جهة أخرى، حظي عدد من الصحافيين هذا العام باهتمام ومتابعة خاصة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، من المشاهدين الذين تابعوا تحليل الانتخابات وسير إعلان النتائج. ولعل أبرز هؤلاء على الإطلاق الصحافي جون كينغ الذي لا يزال يدير «الجدار السحري» على محطة «سي إن إن». منذ سنوات. ولقد اكتسب كينغ أكثر من كل أقرانه، خبرة مذهلة في تصغير الشاشة وتكبيرها وإدارة البيانات على «شاشته السحرية»، وبات مرجعا تحليليا في قراءة الأرقام ومقارنتها، فأثار إعجاب المشاهدين من كل الانتماءات الذين باتوا يتابعونه على «تويتر» بشكل خاص.