في معرض «ابتكارات للبشرية 2025» (Prototypes for Humanity)، ازدحمت القاعة بمئات الابتكارات التجريبية. من الأطراف الاصطناعية والمواد المستدامة، إلى التقنيات الطبية، والأفكار من مختلف التخصصات، برز قطاع الزراعة ليس بمعناه التقليدي، بل بصورته الجديدة التي يصوغها جيل من الطلاب يجمع بين الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي والوعي المناخي.
ثلاثة مشاريع من السعودية وأستراليا والمملكة المتحدة، كشفت كيف يمكن للعلماء الشباب إعادة اختراع طريقة إنتاج الغذاء في عالم يزداد سخونة وجفافاً. وفي صميم هذه القصة، يتّضح توجه أن الجيل القادم يبني زراعة تتعلم وتتكيّف وتشفي الأرض بدل إنهاكها.

ريّ ذكي لمستقبل أكثر عطشاً
في السعودية، ليست الحشرات أو التربة الضعيفة هي أكبر عوائق الزراعة بل الماء. ومع بلوغ الزراعة ما يقارب 80 في المائة من استهلاك المياه في المملكة، يصبح أي تحسين بسيط بمثابة ثورة.
من هنا بدأ مشروع الري الذكي الذي طوّره باحثون في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، وفي مقدمتهم طالب الدكتوراه بوب فيرنوج الذي عرض نموذجاً يجمع لأول مرة بين قياسات التربة في الزمن الحقيقي وتوقعات الطقس طويلة الأجل. ويشرح الباحث المشروع خلال حديثه مع «الشرق الأوسط»، قائلاً: «نحن ندمج بيانات الطقس مع قياسات التربة في الزمن الحقيقي، حتى يتمكن المزارع من استخدام كمية أقل من المياه وزيادة الإنتاج».
يتكون النظام من جهاز استشعار للرطوبة مدفون في الأرض، ومحطة طقس صغيرة تقيس الرطوبة والرياح ودرجة الحرارة والضغط والهطول، ثم ترسل البيانات عبر شبكة «LoRaWAN» منخفضة الاستهلاك إلى لوحة تحكم على هاتف المزارع. ورغم وجود أدوات مشابهة عالمياً، يشدد الباحث على أن هذا النظام هو الأول من نوعه المصمّم للسياقات الصحراوية، «هذه أول مرة يتم فيها توحيد بيانات التربة والتوقعات الجوية في نظام واحد متكامل... خصوصاً للبيئات الصحراوية».
هدف الفريق يتجاوز السعودية، ويتمنى فيرنوج أن «يصبح استخدام هذه الأنظمة معياراً عالمياً... لأن الماء مورد نادر في كل مكان». وبهذه الرؤية، يتحول مشروع «كاوست» من التكنولوجيا إلى رسالة وهي أن إنتاج الغذاء في الصحراء ليس مستحيلاً، بل يمكن أن يقود حلولاً عالمية.

كبسولة تعيد الحياة للتربة الميتة
إذا كان مشروع «كاوست» يعالج عطش التربة، فإن مشروع «إيروبود» ( Aeropod) من جامعة «إمبيريال كولدج لندن» يعالج مرضها. التربة المتدهورة تهدد الأمن الغذائي العالمي، إذ تفقد خصوبتها بسبب الضغط المتكرر والآلات الثقيلة والفيضانات. ابتكر الطالب أليكس كلارك كبسولة تُدفن تحت الأرض، وتظل خامدة إلى أن تتعرض لضغط أو تشبّع بالمياه، فتتمدد داخل التربة وتفتح قنوات تسمح بعودة الأكسجين ونمو الجذور.
ويشرح كلارك جوهر المشكلة، خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»، قائلاً إن «ضغط التربة مشكلة جوهرية في الزراعة... (إيروبود) يكسر التربة ويجعلها أكثر ليونة ويحسّن تصريف المياه وتبادل الغازات».
الكبسولة مصنوعة بالكامل من مواد قابلة للتحلل وتتكون من طبقتين؛ الأولى حساسة للضغط، والثانية تذوب عند ملامسة الماء لتحميها أثناء النقل.
يقول كلارك: «صممنا غلافاً حساساً للضغط داخل غلاف يذوب بالماء... حتى لا تتضرر أثناء التخزين، لكنها تتفاعل فور زرعها تحت الأرض». وبعكس الحلول التقليدية التي تستخدم آلات ثقيلة أو أسمدة صناعية، تعيد (إيروبود) التوازن البيولوجي الطبيعي للتربة.
تجري تجارب المشروع على محاصيل القمح والشعير والكروم، مع خطط مستقبلية لاستخدام الكبسولة كمنصة لإطلاق المغذيات. ويرى كلارك أن التصنيع يمثل العقبة الأضخم: «التحدي الرئيسي الآن هو الانتقال من المختبر إلى الحقول... توسيع القدرة التصنيعية»، لكن الفريق يثق بأن هذا الابتكار سيمنح المزارعين حلّاً مزدوجاً عبر تحسين التربة وتغذيتها في كبسولة واحدة.

قراءة في حياة التربة لحظة بلحظة
أما المشروع الثالث، القادم من أستراليا، فيضيف عنصراً ثالثاً إلى مستقبل الزراعة من حيث المعرفة الدقيقة. طور الطالب توماس شيفي نظام «Soil+CO2» وهو جهاز يحلل التربة في الزمن الحقيقي بناءً على غازات الزفير التي تطلقها الميكروبات التي تعد مؤشرات حيوية على صحة التربة وقدرتها الإنتاجية.
يشرح شاف أهمية التقنية ببساطة: «(Soil+CO2) يقيس ثاني أكسيد الكربون والميثان والنيتروجين وحرارة التربة ورطوبتها... ويرسل البيانات للمزارع ليعرف كل ما يحدث تحت قدميه».
يعتبر عنصر الوقت هو الاختلاف الجوهري بين «Soil+CO2» والفحوص المخبرية التقليدية، حيث إن التحاليل المخبرية تحتاج إلى أسبوعين فيما يوفر «Soil+CO2» النتائج لحظياً.
يقول شيفي: «لم يكن هناك أي جهاز يجمع كل هذه القياسات في منصة واحدة... لقد أخذنا تقنية أكاديمية وأوصلناها إلى يد المزارع مباشرة».
بإمكان المزارع، عبر الجهاز، تحديد المناطق الأكثر خصوبة وتلك التي تحتاج إلى تدخل، ما يخفض استخدام الأسمدة ويحسن الإنتاج. كما يرى شيفي أن الذكاء الاصطناعي سيكون جزءاً مهماً من المستقبل:
«الذكاء الاصطناعي سيجعل البيانات أسهل فهماً... وسيوفر للمزارع توصيات واضحة تعتمد على بيانات دقيقة». بهذا التطور، يصبح «Soil+CO2» ليس مجرد أداة قياس، بل هو نظام لتوجيه القرارات الزراعية على مدار موسم كامل.
على الرغم من اختلاف البيئات ما بين صحراء السعودية وحقول أوروبا وأراضي أستراليا، فإن المشاريع الثلاثة تشترك في رؤية واحدة وهي أن تصميم زراعة مرنة وقادرة على مواجهة التغير المناخي.
جيل جديد يرى الزراعة ليس قطاعاً تقليدياً، بل جبهة الابتكار الأهم لإنقاذ الكوكب.




