قصة الحضارة الحديثة هي قصة الـ«ترانزستور»، وهو مكون كهربائي صغير جداً يستطيع تغيير شحنته مليارات المرات في الثانية الواحدة. ومع صغر حجمه غير أنه قوي جداً لدرجة أنه بنى عالمنا الرقمي بأكمله، من الهواتف بين أيدينا إلى الذكاء الاصطناعي: كل شيء يعتمد على هذه الدارة المجهرية. وتقف هذه الوحدة الآن على حافة إعادة الابتكار، لتعيد تعريف مستقبل الحوسبة والتقنيات بشكل جذري.
العصر الجديد للحوسبة
أصبح إيقاع هذا التقدم هو نبض الحوسبة الحديثة، حيث تعمل مليارات الترانزستورات داخل كل شريحة مثل مفاتيح الإضاءة المجهرية، تضيء وتتوقف في تناغم مدروس. وكمثال على ذلك، فإن أحدث وحدة معالجة رسومات من «إنفيديا» المسماة «بلاكوويل» Blackwell تحتوي على 28 مليار ترانزستور. وهذا الأمر يعني 28 مليار مفتاح يعمل معاً في كل نانو ثانية، مع توجه الجيل التالي من وحدات معالجات الرسومات المسمى «روبن» Rubin الذي سيتم إطلاقه العام المقبل لتقديم 1.3 كوادريليون ترانزستور (1300 تريليون أو 1.3 مليار مليون، أو واحد وإلى يمينه 12 صفراً).
وقد يعرف البعض شركة «تس إس إم سي» TSMC التايوانية التي تُعتبر أكبر شركة مصنعة للدارات الإلكترونية في العالم المسؤولة عن تصنيع معظم الدارات في جميع أجهزتك من مختلف الشركات العالمية. ولكن خلف الكواليس، هناك شركة بلجيكية تُشكّل المستقبل اسمها «آي إم إي سي» IMEC تخترع الجيل التالي من تقنيات الترانزستور وتقدمها لـ«تس إس إم سي» لتقوم بتصنيعها.
وكشفت «آي إم إي سي» أخيراً عن خريطة طريق تمتد لما يقرب من عقدين في المستقبل، ترسم كيف ستقلص البشرية رقائق اليوم البالغة 2 نانومتر إلى حدود مذهلة تبلغ 0.2 نانومتر بحلول عام 2037، وحتى ما بعد العام 2039، مقدمة مخطط العصر التالي للحوسبة.
وكل عملاق في عالم التقنية من «إنفيديا» و«غوغل» و«مايكروسوفت» و«آبل» و«إنتل» و«إيه إم دي»، وغيرها، دخل في سباق المستقبل، ليس من أجل تطوير شاشات أكبر أو شبكات أسرع، بل من أجل الحصول على الشريحة الخارقة.

تطور تقني بلا حدود
* ما هو الترانزستور؟ ولفهم هذه التقنية الجديدة، يجب العودة بالزمن إلى بضعة عقود، حين كانت الرقائق تستخدم ترانزستورات مسطحة إلى جانب بعضها بعضاً، وهي هياكل بسيطة على سطح واحد. والترانزستور في جوهره هو بوابة تقوم بتطبيق الجهد الكهربائي ليتدفق التيار من المصدر إلى الوجهة.
وواصل المهندسون تقليص هذه القنوات الصغيرة التي ينتقل خلالها التيار حتى وصلوا إلى الحدود الفيزيائية لتلك الممرات، حيث أصبح عليهم التفكير بأسلوب مختلف لتصغير الترانزستورات بشكل أكبر، لذلك قاموا بقلب الترانزستور عمودياً مثل زعنفة تقطع الماء، وأصبح هذا الهيكل ثلاثي الأبعاد الجديد يُعرف باسم «فين فيت» Fin Field Effect Transistor FinFET ويسمح بوضع المزيد من الترانزستورات في المساحة نفسها.

* تطور تقني لا يعرف حدوداً. ومع مرور السنوات، وصلت هذه التقنية إلى حدودها الفيزيائية، ليتم الآن التحول من هذه التقنية الطولية إلى ترانزستورات تسمى «جي إيه إيه» Gate-All-Around GAA Transistors. تخيل وضع تلك الزعنفة العمودية على جانبها، ثم تكديس عدة طبقات مثل ناطحة سحاب رقمية مصنوعة من أدوار ذرية. هذا التصميم الجديد يلف بوابة الترانزستور حول الجوانب الأربعة للقناة، مما يسمح بتحكم غير مسبوق في تدفق التيار، مما يعني رقائق أصغر وأسرع وأكثر برودة. وتخطط «تس إس إم سي» لإدخال هذه التقنية في المعالجات الجديدة بحلول نهاية هذا العام. النتيجة هي القدرة على وضع نحو 300 مليون ترانزستور في كل مليمتر مربع.
ثورة أخرى تكمن في كيفية تزويد هذه المعالجات بالطاقة؛ فعلى مدى عقود، كانت جميع الأسلاك الداخلية الخاصة بالطاقة والإشارات موجودة في أعلى المعالج. ولكن، تخيل محاولة تركيب جميع المواسير وأسلاك الكهرباء في منزلك في السقف وإنزالها إلى أماكنها الخاصة. هكذا كانت تعمل المعالجات في السابق، ليقلب المهندسون الآن هذا النظام بأكمله، حيث أصبح بالإمكان توصيل الطاقة من الأسفل، حيث توضع جميع خطوط الطاقة أسفل الشريحة، مما يحرر السطح للدارات ومسارات البيانات.
متى سنشهد النقلة التقنية النوعية؟
وبدءاً من العام المقبل، ستقوم هذه البنية الثورية بالعمل داخل كل جهاز، من الهواتف الذكية إلى الكمبيوترات العملاقة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وبدقة 1 نانومتر. وبعد ذلك، سيتم استخدام تقنية «سي إف إي تي» Complementary Field-Effect Transistor CFET لخفض الدقة بعشرة أضعاف، أي بمقياس الذرة الواحدة. تخيل بناء ناطحة سحاب باستخدام ذرات الرمل ووضع كل ذرة في مكانها الصحيح بدقة متناهية وبناء 200 دور دون أي خلل واحد في أي ذرة رمل. هذه هي آلية بناء المعالجات المقبلة التي ستغير حياتنا كلياً دون أن نلحظ ذلك.
وعوضاً عن استخدام السليكون في بناء معالجات المستقبل، سيتم استخدام مادتين مختلفتين هما ثاني كبريتيد الموليبدينوم Molybdenum DiSulfide MoS2 وثاني كبريتيد التنغستن Tungsten DiSulfide WS2. وسيتم استخدام تقنيات حفر المسارات الكهربائية باستخدام أشعة الضوء فوق البنفسجي فائق الدقة، لتعمل المعمارية والمواد الكهربائية والضوء في وئام لنقل الحوسبة إلى مرحلة غير مسبوقة على مر التاريخ.
كما يتم دراسة استخدام الأنابيب الكربونية بدقة النانو المصنوعة من الغرافين السريع والفعال بشكل كبير والذي يعمل بجهد كهربائي أقل من نصف فولت، مما يخفض من استهلاك الطاقة والانبعاثات الحرارية بشكل كبير.
التقنية التي ستستخدم هذه الأنابيب اسمها «سيموس 2.0» Complementary Metal Oxide Semiconductor CMOS 2.0، وهي عبارة عن شريحة متعددة الطبقات تتخصص فيها كل طبقة بوظيفة واحدة، مثل طبقة للذكاء الاصطناعي وأخرى للرسومات وثالثة للحوسبة اليومية، وغيرها.
ومن خلال الإبداع البشري، تطور الـ«ترانزستور» التقليدي من مسطح إلى زعنفة، ومن زعنفة إلى صفيحة نانو، ومن ثم إلى ناطحات السحاب الرقمية. إنها رحلة من السليكون إلى أقصى الحواجز الفيزيائية.




