حين لا يخدم التكتيك الاستراتيجية المنشودة

قصف إسرائيلي قرب خيام نازحين فلسطينيين في خان يونس (أرشيفية - أ.ف.ب)
قصف إسرائيلي قرب خيام نازحين فلسطينيين في خان يونس (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

حين لا يخدم التكتيك الاستراتيجية المنشودة

قصف إسرائيلي قرب خيام نازحين فلسطينيين في خان يونس (أرشيفية - أ.ف.ب)
قصف إسرائيلي قرب خيام نازحين فلسطينيين في خان يونس (أرشيفية - أ.ف.ب)

يقول المفكّر الإنجليزي لورنس د. فريدمان -بمعنى ما- إن الاستراتيجيات العسكرية التقليدية، التي اعتدنا النظر إليها بوصفها خريطة طريق نحو النصر، لم تَعُد تؤدي دورها كما ينبغي. فالاستراتيجية، في جوهرها، هي الفكرة التي تربط بين الأهداف والوسائل المتاحة، وتُعدّ أعلى مستويات التخطيط العسكري. وما يربط الاستراتيجية بالتكتيك، أي التنفيذ المباشر على أرض المعركة، هو المستوى العملانيّ (Operational). لكن الأكيد حتى الآن، أن النتائج والتراكمات التكتيكية هي التي تؤدّي إلى النصر الاستراتيجيّ، شرط أن تكون الاستراتيجية ممكنة التنفيذ وواقعيّة. فهل يقوم كل النجاح على التكتيك؟

في مكان آخر، يقول بعض المفكّرين إن معادلة النصر بسيطة جداً، وهي ترتكز على: الحشد + المناورة= النصر. لكن الحشد والمناورة، هما لمن يملك القدرات العسكريّة في العدة والعتاد. فماذا عمّن يُدافع، ويعتمد الحرب اللاتماثليّة (Asymmetric)؟ وماذا عن اللاعبين من خارج إطار الدولة (Non State Actors)؟ فهل أصبح لزاماً على القوى الكبرى -وكما يقترح فريدمان، والقادرة على الحشد والمناورة، وبسبب عدم القدرة على الحسم السريع- أن تُبدّل معادلة النصر الخاصة بها؟

حروب ودروس

في حرب الخليج الأولى، وضع الرئيس بوش الأب، معادلة نصر ممكنة وشرعية، ألا وهي تحرير الكويت ودون إسقاط بغداد، فكان له ما أراد. بعدها، أعلن بوش قيام نظام عالميّ جديد، وبعكس والده، أراد بوش الابن تغيير النظام في العراق، تغيير المنطقة، وخوض حرب كونيّة على الإرهاب. فشلت معادلة النصر خاصته لأنها معقدّة، ويرتكز نجاحها على جمع كثير من المتناقضات مع بعضها. لكن ما أسقط استراتيجيته الكبرى، هو التكتيك الحربي الذي استعمل ضدّ القوات الأميركية في العراق. فبدلاً من السماح له بالحشد والمناورة، واستعمال القدرة الناريّة الهائلة التي يملكها الجيش الأميركيّ، اعتمدت الفصائل متعددة الانتماء على تكتيك حرب العصابات والاستنزاف للقوات الأميركيّة، وبدعم خارجيّ بالطبع، الأمر الذي عقَّد وأفشل معادلة النصر للرئيس الأميركي.

دخان قصف إسرائيلي فوق غزة (أرشيفية - رويترز)

وضعت حركة «حماس» الاستراتيجيّة الكبرى لعملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. حضّرت الأرضيّة، والقوى، وكذلك عملية الخداع الاستراتيجيّ لفترات طويلة. نجحت في التنفيذ العملانيّ والتكتيكيّ، لكنها، لم تستطع ترجمة الإنجاز العسكريّ المؤقّت إلى بُعد سياسيّ يتعلّق بالقضيّة الفلسطينية ككل. هندست حركة «حماس» المسرح الحربي، بطريقة فرضت على الجيش الإسرائيلي نمط قتال يتعارض مع عقيدته العسكرية القائمة على الحركية والمناورة. أمنّت الحركة عمقاً جغرافيّاً استراتيجيّاً عموديّاً عبر شبكة الإنفاق. وردّت إسرائيل عبر تكتيك العزل، والتقطيع، والتدمير الشامل، أو ما يُسمّى بالردع العقابيّ - النكبويّ (Punitive).

وضعت إسرائيل أهدافاً سياسيّة صعبة التحقيق، وبكلام آخر، لم تكن معادلة النصر لرئيس وزراء إسرائيل قابلة للتحقيق، خصوصاً أنها افتقدت إلى البُعد السياسيّ، أو ما سمّاه المفكر الصيني صان تسو بال «الجسر الذهبي». وعليه، استمرّت الحرب لأكثر من عام ونصف العام، ودون تحقيق الأهداف الاستراتيجية الإسرائيليّة.

ويمكن القول إن الحرب وصلت إلى الامتداد الأقصى (Culmination)، وبدأ المردود السلبي يؤثّر على الداخل الإسرائيليّ وبكل الأبعاد. كما بدأنا نرى تغييرات تكتيكيّة حسب ما يُفرضه الميدان. ويعتمد الجيش الإسرائيليّ حالياً مقاربة عسكرية حذرة جداً، ترتكز أكثر ما ترتكز على القضم المتدرّج للمساحة في القطاع. ومن عناصر هذه المقاربة: التحكّم في البروتوكول الإنسانيّ، وطلب إخلاء السكان من بعض الأماكن، واستعمال القوى الجويّة والقوة النارية بشكل مكثّف، والتقدّم ببطء تجنبّاً للخسائر البشريّة. وأخيراً وليس آخراً، وبدلاً من اعتماد التكتيك العسكريّ القديم الذي قام على: تنظيف المنطقة، والخروج منها، والعودة إليها لتنفيذ عملية عسكريّة جديدة عند توفّر معلومات تكتيكيّة. يعتمد الجيش الإسرائيلي حالياً المقاربة التالية: تجميع الاستعلام التكتيكي، وطلب إخلاء السكان، والتقدّم برّاً، وتنظيف المنطقة والبقاء فيها بدل الخروج.

وبشكل أوضح، يسعى الجيش الإسرائيلي إلى حرمان حركة «حماس» من المساحة، عبر تجميع الغزيين في أماكن مفتوحة جغرافيّاً وليست سكنيّة - مبنيّة. على أن يعود بعدها للتعامل مع الأماكن السكنيّة المُطوّقة، التي من المفروض أن تشكّل مراكز الثقل العسكريّة لـ«حماس»، فهي حتماً نقاط الدخول والخروج للمقاتلين ومن وإلى الأنفاق.

رجال إطفاء يعملون على إخماد حريق جرّاء مسيرة روسية في أوديسا الثلاثاء (إ. ب.أ)

في بداية الحرب الروسيّة على أوكرانيا، كانت الاستراتيجيّة الروسية الكبرى إلغاء ما يُسمّى بدولة أوكرانيا. لكن التكتيك الأوكراني، وبمساعدة أميركية مباشرة، وفي كثير من الأبعاد، خصوصاً الاستعلام التكتيكي حول حركيّة الجيش الروسيّ على كل الجبهات، والعمل على ضربه استباقيّاً، وذلك حسبما ورد في صحيفة «نيويورك تايمز»، أسقط معادلة النصر الروسيّة. وانتقلت الحرب من حرب المناورة إلى حرب استنزاف بين الفريقين. وبدأنا نلاحظ تكتيكات جديدة من كلا الفريقين، خصوصاً في كيفيّة استعمال المُسيّرات للتعويض بالقوة النارية وبالعدة.

في الختام، يقول الخبراء إن العقيدة العسكريّة لجيش ما «Military Doctrine»، أو ما تُعرَّف بأنها «أفضل طريقة لقتال العدو وهزيمته»، هي تلك البرمجيات الطريّة (Software)، التي تتضمّن مجموعة من التعليمات أو البيانات بهدف تنفيذ المهمّة. أما التكتيك، فهو مشابه تماماً للنظام المُشغّل للحاسوب (OS)، فهو صلة الوصل بين الحاسوب والإنسان المُستعمل. وعليه، يمكن اعتبار التكتيك حلقة الوصل بين تنفيذ العقيدة العسكرية والعنصر البشري، على النحو التالي: يُنفّذ الجيش العقيدة التي تدرّب عليها، لكن الميدان يفرض وقائع وتحديات جديدة تُنتج بدورها تكتيكات مستحدثة. أمام هذه المستجدات، يسعى القادة إلى إجراء تعديلات ملائمة على العقيدة العسكرية. فهل يمكن أن تتجلّى صورة النصر في مستوى التكتيك؟


مقالات ذات صلة

نتنياهو: إسرائيل ربما قتلت محمد السنوار... ومستعد لوقف النار للإفراج عن الرهائن

شؤون إقليمية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث خلال مؤتمر صحافي في القدس (رويترز) play-circle

نتنياهو: إسرائيل ربما قتلت محمد السنوار... ومستعد لوقف النار للإفراج عن الرهائن

أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليوم (الأربعاء) أن إسرائيل «ربما قتلت» القيادي في حركة «حماس» محمد السنوار.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
خاص صورة وزَّعها الجيش الإسرائيلي ديسمبر الماضي لمحمد السنوار في سيارة داخل أحد أنفاق «حماس» شمال غزة (الجيش الإسرائيلي - رويترز) play-circle 02:53

خاص «كُفّن ودُفن مؤقتاً في نفق»... مصدران يؤكدان لـ«الشرق الأوسط» اغتيال محمد السنوار

أكد مصدران فلسطينيان، لـ«الشرق الأوسط» أن محمد السنوار، قائد «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس»، قد قُتل برفقة قيادات أخرى من الكتائب.

«الشرق الأوسط» (غزة)
العالم العربي فلسطينيون يتجمعون لتلقي وجبة ساخنة في نقطة توزيع طعام بمخيم النصيرات للاجئين في وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)

القصف والجوع يفتكان بسكان غزة

تواصل إسرائيل هجومها العسكري الجديد على قطاع غزة رغم تزايد الانتقادات الدولية، حيث شنت غارات جوية مساء الثلاثاء فجر الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (غزة)
أوروبا البابا ليو الرابع عشر يخاطب الجموع في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان 21 مايو 2025 (رويترز) play-circle

بابا الفاتيكان يناشد إسرائيل السماح بدخول المساعدات إلى غزة

ناشد بابا الفاتيكان ليو الرابع عشر، اليوم (الأربعاء)، إسرائيل السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (الفاتيكان )
المشرق العربي طفل فلسطيني مصاب يبكي في جنازة شقيقيه اللذين قتلا خلال غارات إسرائيلية على خان يونس (رويترز)

طبيب بريطاني في غزة: القطاع أصبح «مسلخاً بشرياً»

قال طبيب بريطاني يعمل في غزة إن القطاع أصبح أشبه بـ«مسلخ بشري» نتيجة القصف الإسرائيلي، مطالباً قادة العالم بـ«التوقف عن الكلام والتحرك» لإنقاذ غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)

لافروف: حرب أوكرانيا تؤخّر تسليم الأسلحة لأرمينيا

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (يسار) ونظيره الأرميني أرارات ميرزويان خلال مؤتمر صحافي يوم 21 مايو 2025 (د.ب.أ)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (يسار) ونظيره الأرميني أرارات ميرزويان خلال مؤتمر صحافي يوم 21 مايو 2025 (د.ب.أ)
TT

لافروف: حرب أوكرانيا تؤخّر تسليم الأسلحة لأرمينيا

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (يسار) ونظيره الأرميني أرارات ميرزويان خلال مؤتمر صحافي يوم 21 مايو 2025 (د.ب.أ)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (يسار) ونظيره الأرميني أرارات ميرزويان خلال مؤتمر صحافي يوم 21 مايو 2025 (د.ب.أ)

تجد موسكو صعوبة في تزويد حليفتها التقليدية يريفان بالأسلحة بسبب حرب أوكرانيا، بحسب ما أفاد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الأربعاء، وفق ما نقلته «وكالة الصحافة الفرنسية».

ولطالما اعتمدت أرمينيا، الدولة السوفياتية السابقة الواقعة في القوقاز، على روسيا لتزويدها بالأسلحة والأمن في إطار خلافها مع جارتها أذربيجان.

لكن يريفان اضطرت إلى الاستعانة بفرنسا والهند في السنوات الأخيرة لشراء الأسلحة، في ظل فشل موسكو في إيصال الأسلحة التي دفعت البلاد ثمنها بالفعل.

وكرّست روسيا جزءاً ضخماً من ميزانيتها ومواردها العسكرية لغزوها المتواصل منذ ثلاث سنوات لأوكرانيا. وتم ذلك في كثير من الحالات على حساب التزامات أخرى في سياستها الخارجية، بحسب محللين.

وفي مؤتمر صحافي في يريفان إلى جانب نظيره الأرمني أرارات ميرزويان، أقر لافروف بأنه تم تأجيل أو تغيير استخدامات بعض عقود الأسلحة، مشيراً إلى ما وصفها بالمواجهة الوجودية مع الغرب.

وقال لافروف: «نحن حالياً في وضع، كما حصل على مر التاريخ، نجد أنفسنا مجبرين على القتال ضد أوروبا بأكملها»، متّهماً البلدان الأوروبية بدعم أوكرانيا تحت راية «شعارات نازية».

وأضاف: «يتفهم أصدقاؤنا الأرمينيون أنه لا يمكننا في ظل ظروف مماثلة أن نفي بكل التزاماتنا في موعدها».

وفي تعليقه على تنامي العلاقات العسكرية بين أرمينيا وجهات أخرى لتزودها بالأسلحة، بما فيها فرنسا، قال لافروف إن روسيا لن تعارض شراء يريفان الأسلحة من بلدان ثالثة لكن الأمر يثير مخاوف بشأن توجّهات أرمينيا الاستراتيجية.

وقال: «عندما يستعين بلد حليف بآخر مثل فرنسا التي تقود المعسكر العدائي والتي يتحدث رئيسها ووزراؤها علناً بكراهية ضد روسيا، فإن الأمر يثير تساؤلات».

تأتي تصريحاته في ظل تفاقم التوتر بين موسكو ويريفان، وفي وقت تعمّق أرمينيا علاقاتها مع الغرب مع بقائها متحالفة رسمياً مع روسيا.

جمّدت أرمينيا عملياً مشاركتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي منظمة أمنية للبلدان السوفياتية سابقاً تقودها روسيا.

كما اتهمت أرمينيا قوات حفظ السلام الروسية بالفشل في حماية أكثر من 100 ألف أرميني فروا من قره باغ بعد عملية عسكرية خاطفة نفّذتها القوات الأذربيجانية وسيطرت فيها على المنطقة عام 2023.