يدين فرنسوا بايرو، رئيس الحكومة الفرنسية، لبقائه في منصبه في السلطة للحزب «الاشتراكي»، الذي أنقذه بعد ظهر الخميس من موت محتم لو صوّت إلى جانب حجب الثقة منه، وهو المقترح الذي تقدّمت به مجموعة من نواب حزب «فرنسا الأبية»، ودعمه الحزبان «الشيوعي» و«الخضر». وحتى اليوم، لم يمضِ شهر على تشكيل حكومة بايرو.
إلا أنه، يوماً بعد يوم، تظهر هشاشتها، كونها لا تتمتع بالأكثرية المُطلقة في البرلمان، وطوق نجاتها الوحيد ألا تتفق «الجبهة الشعبية الجديدة»، التي تضم، نظرياً، الأحزاب الثلاثة المذكورة، إضافة إلى حزب «فرنسا الأبية» مع نواب «التجمع الوطني»، الذي تتزعمه مارين لوبن.
وإذا حصل أمر مثل هذا، فإن بايرو سيسقط وسيكون سقوطه مدوياً. وسبق للطرفين أن توافقا في التصويت ضد ميشال بارنييه، سلف بايرو في الحكومة، ما فرضَ عليه الخروج من قصر ماتينيون، مقر رئاسة الحكومة، بعد أقل من 3 أشهر على دخوله إليه.
بيد أن وضع الحكومة الراهنة مختلف، والسبب في ذلك الخلاف الذي حصل داخل جبة اليسار. فالحزب «الاشتراكي» الذي عقدت قيادته ونوابه في البرلمان اجتماعات متلاحقة في الساعات الـ48 الماضية، رفض الانضمام إلى شركائه الثلاثة في «الجبهة الشعبية الجديدة» بالتصويت لإسقاط الحكومة، وحجته في ذلك أنه حصل على «تنازلات» من بايرو تستجيب جزئياً لمطالبه، ولكن من غير الحصول على مطلبه الأساسي الخاص بتعليق العمل بقانون التقاعد الذي أقر في عام 2023، والذي يرفضه أيضاً «التجمع الوطني» ونوابه الـ125.
وبدلاً من ذلك، فقد وجّه بايرو الخميس لرئيس مجموعة النواب في البرلمان ونظيره في مجلس الشيوخ رسالة خطية ضمنها التزامه سحب مشروع إلغاء 4 آلاف وظيفة في وزارة التربية والتعليم، وإيجاد 2000 موقع إضافي لمواكبة الطلاب ذوي الحالات الخاصة، فضلاً عن السير بمشروع رفع نسبة الضرائب على ذوي الدخل المرتفع.
وبالنسبة لقانون التقاعد، فإن بايرو وجد مخرجاً للأزمة عن طريق إحالة الملف إلى التفاوض بين أرباب العمل والنقابات العمالية، مع الالتزام بطرح ما قد يخرج من حوارهم من مشروعات على البرلمان.
وبنظر الغالبية الاشتراكية، فإن ما حصلت عليه يعد «تنازلات حقيقية» من بايرو، في حين تهكم جان لوك ميلونشون، زعيم حزب «فرنسا الأبية» على الاشتراكيين؛ لأنهم باعوا أنفسهم بـ«أبخس الأثمان».
وفي الكلمة التي ألقاها بمناسبة جلسة البرلمان، أعلن أوليفيه فور، أمين عام الحزب «الاشتراكي» رسمياً أن نواب حزبه لن يصوتوا لصالح حجب الثقة «ليوفروا للمفاوضات الفرصة للتوصل إلى نتيجة». وقرار الاشتراكيين يعطي بايرو متنفساً حتى الأزمة المقبلة التي قد تحل في أي وقت، وعند طرح أي مشروع قانون في البرلمان.
وحرص فور على إبقاء كل الخيارات مفتوحة أمام حزبه، إذ أعلن أن «حجب الثقة يمكن أن يأتي في أي لحظة».
تجدر الإشارة إلى أن طرح الثقة ببايرو وحكومته جاء بعد يومين فقط من مثوله لأول مرة أمام البرلمان لعرض خطته الحكومية. ولا شك في أنه سيعود إلى الواجهة عند بدء البحث بمشروع ميزانية عام 2025، التي لم تقر بعد، بخلاف ما هو مطلوب قانوناً.
حقيقة الأمر أن بايرو واقع بين سندان اليسار ومطرقة اليمين، وأي خطوة يقوم بها لهذا الطرف تُثير الطرف الآخر. وفي ملف التقاعد، كان بايرو يرغب في التجاوب مع الاشتراكيين، إلا أنه تلقّى تحذيراً حازماً من الجناح اليميني لحكومته، الممثل بنواب حزب «اليمين الجمهوري» الذي يتمتع بـ47 نائباً، وهو الحزب الوحيد المتحالف مع أحزاب «الكتلة الوسطية» المشكلة من 3 أحزاب داعمة للرئيس ماكرون.
وعمد لوران فوكييز، رئيس الحزب إلى التنبيه من أن حزبه «لن يتهاون» إزاء تقديم تنازلات لليسار، أو المس بقانون التقاعد. من هنا، فإن بايرو، رئيس «الحركة الديمقراطية» الوسطية، والحليف التاريخي لماكرون، كمن يسير على حبل مشدود، ويمكن أن يقع في هذا الجانب أو ذاك في أي لحظة.
من هنا، فإن الانقسام الذي أصاب جبهة اليسار يعد خبراً جيداً لرئيسي الجمهورية والحكومة اللذين راهنا، منذ زمن طويل، على حصوله. وكذلك، فإن الصعوبات القضائية التي تعاني منها مارين لوبن، واحتمال إدانتها في المحاكم، ومنعها من ممارسة حقوقها المدنية، ومنها حق الانتخاب، والترشح بسبب ما عدّته محكمة فرنسية احتيالاً واستخدام أموال الاتحاد الأوروبي لأغراض حزبية، وليس لتسيير عمل نواب حزبها في البرلمان الأوروبي، يمنع اليمين المتطرف من السعي اليوم لإسقاط الحكومة. وفي أي حال، فإن أمراً مثل هذا إذا حصل قبل الصيف المقبل، فسيكون بمثابة أزمة حكم، ولن يبقى أزمة حكومية.
وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس ماكرون، الذي دفع البلاد إلى أزمات سياسية متلاحقة، بسبب قراره حل البرلمان في الربيع الماضي، وإجراء انتخابات مسبقة، لم يكن بمستطاعه حله مرة أخرى قبل مرور عام كامل على الإجراء الأول، وذلك حسب النصوص الدستورية. من هنا، جاء رهانه على بقاء بايرو، السياسي المخضرم، على رأس الحكومة أقله حتى الصيف المقبل. وفي هذه الحال، فإن ماكرون الذي ينأى بنفسه شيئاً فشيئاً عن الأمور السياسية الداخلية، مهتماً بالدرجة الأولى بأزمات العالم «من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط...»، وتاركاً المجال حرّاً لبايرو لإدارة شؤون الداخل، سيتمكن من استعادة المبادرة عندما يستعيد حق حل البرلمان مجدداً. وحتى ذلك التاريخ، فإن بايرو سيكون رهينة لأهواء معارضيه يميناً ويساراً.