بعد انتهاء الهدنة الأولمبية... ماكرون يواجه مجدداً معضلة تشكيل حكومة جديدة

الرئيس الفرنسي يُعوّل على التحالف مع اليمين التقليدي

ماكرون لدى مشاركته في حفل توزيع ميداليات خلال الألعاب الأولمبية في 2 أغسطس (إ.ب.أ)
ماكرون لدى مشاركته في حفل توزيع ميداليات خلال الألعاب الأولمبية في 2 أغسطس (إ.ب.أ)
TT

بعد انتهاء الهدنة الأولمبية... ماكرون يواجه مجدداً معضلة تشكيل حكومة جديدة

ماكرون لدى مشاركته في حفل توزيع ميداليات خلال الألعاب الأولمبية في 2 أغسطس (إ.ب.أ)
ماكرون لدى مشاركته في حفل توزيع ميداليات خلال الألعاب الأولمبية في 2 أغسطس (إ.ب.أ)

يعيش الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذه الأيام على «البساط الطائر»، متنقلاً بين مصيفه في «حصن بريغونسون» منتجع رؤساء الجمهورية الرسمي، المطل على مياه المتوسط، وبين الملاعب الأولمبية التي تشهد منذ 27 يوليو (تموز) فعاليات الأولمبياد الـ23 التي تستضيفها فرنسا للمرة الأولى بعد انتظار مائة عام. ولا شك أن الرئيس الفرنسي سعيد، بل سعيد للغاية.

فحفل الافتتاح، بحضور العشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات، سلّط الضوء على «عاصمة النور» طوال ثلاث ساعات، حيث شاهد ما يزيد على مليار شخص عبر العالم الحفل الذي يحصل لأول مرة في التاريخ في نهر التصق اسمه باسم العاصمة التي يشقها إلى قسمين. ثم ما يضاعف سعادة ماكرون أن حصاد الرياضيين الذي جاء هذا العام استثنائياً، إذ إن فرنسا حصلت، حتى مساء الثلاثاء، على 48 ميدالية، بينها 13 ميدالية ذهبية. والأهم من ذلك أن هذه المنافسات أبرزت رياضيين من الطراز الأول، منهم السباح ليون مارشان الذي حصل لوحده على أربع ميداليات ذهبية في جميع أشكال ومسافات السباحة، أو لاعب الجودو المعروف تيدي رينر، بطل العالم غير المنازع الذي فاز بالميدالية الذهبية.

الأهم من ذلك كله أن الأولمبياد التي لم تحصل في باريس وحدها، بل في مدن عديدة منها مرسيليا وبوردو وستراسبورغ وليل وفي الغوادلوب للرياضات البحرية، ما أعطاها طابعاً وطنياً شاملاً، أوجدت حالة نفسية جماعية. ولاقت الألعاب حماسة منقطعة النظير من الجمهور، وبشيء من المغالاة يمكن الجزم بأن الفرنسيين كانوا «سعداء» بالأولمبياد. ولعل أفضل دليل على ذلك أن مليوني بطاقة لحضور الفعاليات الرياضية بيعت كلها، وأن مراكز التجمهر التي أقامتها العاصمة والمدن الأخرى لمتابعة جماعية للأنشطة الرياضية، ومنها مثلاً «نادي فرنسا»، تجمع يومياً نحو أربعين ألف شخص ليتشاركوا سعادة الأولمبياد ولينسوا، ولو إلى حين، همومهم اليومية وأحوال العالم المتفجرة.

«سعادة» ماكرون

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يهنئ بطل الجودو الفرنسي تيدي رينر بعد فوزه بالميدالية الذهبية (أ.ف.ب)

لا شك أن الأولمبياد شكّل استراحة مؤقتة للرئيس الفرنسي. جمعت الألعاب الفرنسيين وأنستهم انقساماتهم وخلافاتهم ومصاعب العيش والسياسة، ووضعت فرنسا تحت شعار ما سماه الرئيس «الهدنة الأولمبية والسياسية». ففي حديثه الصحافي للقناة الثانية في التلفزيون الفرنسي، دعا ماكرون إلى هذه «الهدنة» حتى لا تشوش على الألعاب الأولمبية. وحثّ ماكرون الفرنسيين على وضع خلافاتهم جانباً، آملاً في أن يتناسوا أن حكومة بلادهم مستقيلة منذ أسابيع بعد أن خسر معسكر الرئاسة الانتخابات البرلمانية التي جرت بعد أن حل، في 9 يونيو (حزيران)، البرلمان ودعا إلى انتخابات مبكرة من أجل «توضيح الوضع السياسي» للبلاد.

والحال أنه، عوض التوضيح، فقد تضاعف الغموض، لا بل الفوضى، بسبب النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات؛ حيث قامت ثلاث مجموعات نيابية رئيسية يصعب التفاهم فيما بينها، وبالتالي يصعب على رئيس الجمهورية الذي اعترف بأن معسكره خسر الانتخابات والأكثرية النسبية التي كان يتمتع بها في البرلمان السابق، أن يكلف شخصية بتشكيل حكومة لن تكون متمتعة بالأكثرية، ويمكن أن تسقط في البرلمان لدى أول اختبار.

وفي حواره التلفزيوني، سُئل ماكرون عن مصير الحكومة وعن الأسباب التي منعته، حتى 23 يوليو، عن القيام بواجبه كما ينصّ عليه الدستور الذي يقول إنه يتعين على رئيس الجمهورية أن يطلب من شخصية يختارها ويكلفها بتشكيل الحكومة. وجاء جوابه كالتالي: «لقد اخترت المحافظة على الاستقرار خلال الأولمبياد. ومن الواضح أنه حتى منتصف أغسطس (آب)، أي حتى انتهاء الأولمبياد، لسنا في وضع يمكننا من تغيير الأمور والتسبب بالفوضى». واعترف الرئيس الفرنسي بأن الأكثرية النسبية السابقة «خسرت الانتخابات»، ولكنه أضاف أن «أحداً لم يربحها».

أحجية الحكومة الجديدة

رئيس الحكومة غبريال أتال (يسار) يحضر مباراة الفريق الفرنسي في الكرة الطائرة في 5 أغسطس (رويترز)

ليل الأحد القادم، ستختتم الأولمبياد باحتفال لم تكشف تفاصيله بعد، ومعه ستنتهي الهدنة الأولمبية، ليفتح «البازار السياسي» مجدداً. ولن يجد ماكرون حجة صالحة لتفسير تأخره في تسمية رئيس حكومة جديد، وستتضاعف الضغوط السياسية عليه، خصوصاً من «الجبهة الشعبية الجديدة» التي تضم أحزاب اليسار الثلاثة (الاشتراكي والشيوعي وحزب فرنسا الأبية) والخضر، التي تشكل أكبر مجموعة نيابية في البرلمان الجديدة مؤلفة من 193 نائباً، فيما المجموعة الماكرونية المشكلة من حزبه ومن حزبين حليفين تضمّ 168 نائباً.

والمفاجأة كانت أن مجموعة «التجمع الوطني» «أي اليمن المتطرف» تتألف من 146 نائباً. والأمر الثابت والمؤكد أن أي تعاون بين المجموعات الثلاث غير وارد إطلاقاً، إذ إن فرنسا، بعكس ألمانيا وإسبانيا وبلجيكا ودول أوروبية أخرى، لا تعرف بقيام حكومات ائتلافية من توجهات سياسية مختلفة على أساس التفاهم على برنامج عمل حكومي لفترة محددة تفصل بين انتخابين. من هنا، صعوبة المعادلة التي يتعين على ماكرون حلها والتي لا يبدو أنه، حتى اليوم، وجد الطريق إلى ذلك.

لم ينتظر اليسار والخضر نهاية الهدنة الأولمبية لفتح النار على ماكرون، وحُجّتهم الأولى أن الرئيس الفرنسي لا يأخذ بعين الاعتبار قواعد اللعبة الديمقراطية والتغير الذي جرى في موازين القوى السياسية في البلاد، وكأن الأمور بقيت على حالها: ماكرون في قصر الإليزيه وغبريال أتال، رئيس الحكومة المستقيل، ما زال في قصر ماتينيون، والوزراء المستقيلون في وزاراتهم، ورئيسة مجلس النواب يائيل براون - بيفيه أعيد انتخابها لولاية جديدة بفضل التحالف بين المعسكر الماكروني واليمين التقليدي.

معضلة رئاسة الحكومة

لوسي كاستيت مرشحة الجبهة الشعبية الجديدة التي يرفض ماكرون تسميتها لرئاسة الحكومة (أ.ف.ب)

ولإحراج ماكرون، عمدت «الجبهة الشعبية الجديدة» إلى ترشيح لوسي كاستيت، مديرة الميزانية في بلدية باريس التي تدير ميزانية من 11 مليار يورو، لرئاسة الحكومة العتيدة. وكاستيت معروفة بتوجهات يسارية، وجاء توافق الأحزاب الأربعة على اسمها بعد جدلٍ دام أسابيع بسبب التنافس بين الحزب الاشتراكي وأمينه العام أوليفيه فور، وحزب فرنسا الأبية وزعيمه جان لوك ميلونشون، على قيادة الجبهة. وكاستيت ليست معروفة على المستوى السياسي والشعبي، غير أنها تتمتع بمؤهلات علمية وأكاديمية وبخبرة إدارية وتقنية، وعُرف اسمها في أوساط وزارة الاقتصاد والموازنة، وهي محاربة شرسة للتهرب المالي والضريبي ومدافعة عن الوظيفة العمومية.

إلا أن ماكرون الذي يحظى بدعم معسكره وبدعم اليمين التقليدي الذي أوصل إلى الندوة البرلمانية 47 نائباً، يرفض تسمية لوسي كاستيت لرئاسة الحكومة، وحجته أن جبهة اليسار لا تحظى بالأكثرية النيابية.

ودليله على ذلك أنها فشلت في إيصال مرشحها إلى رئاسة البرلمان. إلا أنه يتناسى أن أياً من المجموعات الثلاث لا يحظى بهذه الأكثرية، خصوصاً معسكره، وأن فوز براون - بيفيه برئاسة البرلمان ما كان ليتم من غير التفاهم مع اليمين التقليدي على تقاسم المناصب المتاحة في الندوة البرلمانية.

حقيقة الأمر أن مرحلة من المطبات الهوائية العنيفة تنتظر ماكرون، ومعه الطبقة السياسية. ورهان رئيس الجمهورية الحالي على قيام تحالف انتخابي بين معسكره وبين نواب حزب «اليمين الجمهوري» «الجمهوريون سابقاً»، فيما رهانه السابق كان يقوم على أساس التوصل إلى حكومة تضمّ كل مكونات ما يسمى «القوس الجمهوري»، بدءاً باليسار الاشتراكي وحتى اليمين التقليدي.

ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (أ.ف.ب - غيتي)

وفي الأيام الأخيرة، بدأت بالبروز عدة أسماء؛ منها رئيس منطقة شمال فرنسا النائب السابق كزافيه برتراند المنتمي إلى «اليمين الجمهوري». وبرتراند معروف باعتداله، وهو يسوق لاسمه ولقيام «حكومة طوارئ وطنية». كذلك برز اسم المفوض الأوروبي والوزير السابق ميشال بارنيه، الذي كان المفاوض الأوروبي في عملية «بريكسيت» البريطانية. كما تداولت أوساط اسم برنار كازنوف، رئيس آخر حكومة اشتراكية في زمن الرئيس السابق فرنسوا هولاند. وكازنوف ابتعد في السنوات الأخيرة عن العمل السياسي المباشر، وهو معروف بعدائه لجان لوك ميلونشون.

على من سيرسو خيار ماكرون؟ السؤال يبقى حتى اليوم من غير جواب. وتفيد أوساط الإليزيه بأن الرئيس الفرنسي يستشير يميناً ووسطاً ويساراً، وأنه بعد هدنة الأولمبياد حان وقت اتخاذ القرارات ومعه الجدل السياسي الذي لا ينتظر سوى انطفاء أنوار الأولمبياد حتى يستحوذ على الأضواء.


مقالات ذات صلة

ماكرون يدعو إلى الوقف «الفوري» لأي أعمال «تنتهك» وقف إطلاق النار في لبنان

المشرق العربي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يدلي بتصريحاته على هامش قمة «مجموعة العشرين» في مدينة ريو دي جانيرو (أ.ف.ب) play-circle 01:22

ماكرون يدعو إلى الوقف «الفوري» لأي أعمال «تنتهك» وقف إطلاق النار في لبنان

دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الوقف «الفوري» لكل «الأعمال التي تنتهك» وقف إطلاق النار الساري في لبنان منذ الأربعاء، على ما أعلن قصر الإليزيه الجمعة.

المشرق العربي صورة أرشيفية لرئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أثناء حضورهما مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ «كوب 26» في غلاسغو - أسكوتلندا 1 نوفمبر 2021 (رويترز)

ميقاتي يؤكد لماكرون ضرورة الضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها لاتفاق الهدنة

قال مجلس الوزراء اللبناني إن رئيس الوزراء نجيب ميقاتي أكد لماكرون، في اتصال هاتفي، ضرورة الضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها لاتفاق وقف إطلاق النار.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
أوروبا يحتفل النازحون بعودتهم إلى قراهم بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» الذي دخل حيز التنفيذ (أ.ب)

مع وقف إطلاق النار في لبنان... ماكرون يحقق إنجازاً دبلوماسياً نادراً

منح وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» في لبنان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نصراً دبلوماسياً غير معهود في الشرق الأوسط.

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي بايدن مستقبِلاً ترمب في البيت الأبيض (د.ب.أ)

لماذا يشكل الحفاظ على الهدنة بين إسرائيل و«حزب الله» تحدياً كبيراً لبايدن وترمب؟

وصف موقع «أكسيوس» الأميركي وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» بالإنجاز الدبلوماسي صعب المنال، لكنه قال إن منع انهياره قد يكون أكثر صعوبة في النهاية

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن (رويترز)

بايدن: اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» سيدخل حيز التنفيذ صباح الغد

أكّد الرئيس الأميركي جو بايدن اليوم (الثلاثاء) على أن التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» في لبنان «نبأ سار وبداية جديدة للبنان».

علي بردى (واشنطن)

بوتين: بايدن يحاول خلق صعاب لترمب

ترمب وكيلوغ خلال لقاء سابق عام 2017 (أ.ف.ب)
ترمب وكيلوغ خلال لقاء سابق عام 2017 (أ.ف.ب)
TT

بوتين: بايدن يحاول خلق صعاب لترمب

ترمب وكيلوغ خلال لقاء سابق عام 2017 (أ.ف.ب)
ترمب وكيلوغ خلال لقاء سابق عام 2017 (أ.ف.ب)

أشاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمس (الخميس)، بالرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وعبر عن اعتقاده أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تحاول خلق صعاب له مع روسيا.

ووصف بوتين في تصريحات للصحافيين بعد قمة في كازاخستان، ترمب بأنه سياسي محنك وذكي، وتساءل عما إذا كان آمناً بعد محاولات اغتياله.

وذكر بوتين، من جهة أخرى، أن بلاده ستستخدم كل الأسلحة المتاحة لديها في مواجهة أوكرانيا إذا حصلت كييف على سلاح نووي. وجاء هذا التصريح بعدما أفادت صحيفة «نيويورك تايمز» الأسبوع الماضي بأن بعض المسؤولين الغربيين الذين لم تحدد أسماءهم، أشاروا إلى أن الرئيس بايدن قد يمنح أوكرانيا أسلحة نووية قبل تركه الرئاسة.

ميدانياً، انقطعت الطاقة عن أكثر من مليون أوكراني في ظلّ تدنّي درجات الحرارة إلى حدّ التجمّد بعدما أطلقت روسيا نحو 200 صاروخ «كروز» وطائرة مسيّرة على بنى تحتية مرتبطة بالطاقة في أنحاء أوكرانيا. وندّد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أمس، بما سمّاه «التصعيد الحقير» لموسكو، متهماً الجيش الروسي باستهداف شبكة الطاقة داخل بلاده بـ«الذخائر العنقودية» في هجوم ليلي كبير. ودعا زيلينسكي حلفاء بلاده إلى «ردّ حازم» على «ابتزاز» نظيره الروسي الذي هدّد قبل ساعات من ذلك بضرب كييف بصاروخ «أوريشنيك» الاستراتيجي الجديد. وقال زيلينسكي إنّ «أيّ ابتزاز من جانب روسيا يجب أن يُقابَل بردّ حازم».