هل تستطيع ألمانيا المضيّ في تقديم الاقتصادي على السياسي؟

المستشار الألماني أولاف شولتس (د.ب.أ)
المستشار الألماني أولاف شولتس (د.ب.أ)
TT

هل تستطيع ألمانيا المضيّ في تقديم الاقتصادي على السياسي؟

المستشار الألماني أولاف شولتس (د.ب.أ)
المستشار الألماني أولاف شولتس (د.ب.أ)

في الثامن من يناير (كانون الثاني) الماضي اُعلن رسمياً قيام حزب يساري راديكالي جديد في ألمانيا تحت اسم «تحالف زارا فاغنكنيكت – العقل والعدالة». وتقول استطلاعات الرأي إن هذا الحزب الذي استقطب عدداً من أركان «حزب اليسار» في البوندستاغ (البرلمان)، يحقق تقدماً مطّرداً في ساحة الشعبية.

السياسية اليسارية زارا فاغنكنيكت (أ.ف.ب)

تقود الحزب، كما يشي اسمه، زارا فاغنكنيكت السياسية والاقتصادية والكاتبة، وعضو البوندستاغ منذ العام 2009.

السيدة البالغة من العمر 54 عاماً والمتزوجة من السياسي المخضرم أوسكار لافونتين زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي سابقاً، ولدت في يينا، المدينة المتوسطة الحجم التي كانت في قلب الشطر الشرقي من البلاد، اي جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي حكمها حزب الوحدة الاشتراكية الألماني (حزب شيوعي ماركسي – لينيني) في الفترة التي دارت فيها في فلك الاتحاد السوفياتي منذ 1949 إلى 1990 حين سقط جدار برلين وتحققت الوحدة الألمانية الثانية (الأولى تحققت عام 1871 و«هندسها» أوتو فون بسمارك)...

لا بد من الإشارة هنا إلى أن لافونتين – الذي أخفق في تبوّؤ منصب المستشار – انتقل سياسياً من الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي ينتمي إليه المستشار الحالي أولاف شولتس إلى «تحالف زارا فاغنكنيكت – العقل والعدالة» مع ما لذلك من رمزية متصلة بالواقع السياسي الحالي.

في مقابل المعسكر اليساري، لا يزال حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف قوياً وفاعلاً في الساحة، مجاهراً برفضه للهجرة وتشكيكه في جدوى الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي. ويقود الحزب عضوا البوندستاغ تينو كروبالا وأليس فايديل، مع كتلة من 87 نائباً في البرلمان.

يشكل هذان الحزبان، رغم اختلاف حجميهما لمصلحة «البديل»، تحدياً لقطبي السياسة التقليدية في ألمانيا، الحزب الديمقراطي الاجتماعي والاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي حكم مراراً، آخرها مع المستشارة السابقة أنغيلا ميركل.

زعيما حزب «البديل من أجل ألمانيا» تينو كروبالا وأليس فايديل (إ.ب.أ)

* أسس البنيان

عاشت ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية ثم ألمانيا الموحّدة بعد 1990، في ظل أحزاب حققت انتشارها عبر استمالة الطبقات الاجتماعية والانتماء إلى الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية والنقابات العمالية، في بلاد يقوم نموذجها الاقتصادي على الصناعة ذات السمعة العالمية. وكل ذلك تحت غطاء أمني أميركي يحمل أيضاً «بطاقة هوية» من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ودفق من الغاز الروسي الرخيص، وريادة في هيكلية الاتحاد الأوروبي وقيادته. ولعل الأهم من هذا كله، ان ألمانيا اعتمدت الاعتدال في سياستها الخارجية، الأمر الذي أهلها للاضطلاع بدور الوسيط في عدد من الأزمات.

لكن التطورات والتحولات العالمية سرعان ما تضرب كل استقرار، في ألمانيا وغيرها. ولا شك في أن فتح أنغيلا ميركل باب البلاد واسعاً للهاربين من الحرب السورية كان عاملاً هز الاستقرار ومنح اليمين المتطرف منصة للانطلاق أكثر والانتشار في صفوف طبقات كانت منيعة عليه في السابق.

... ثم جاءت حرب أوكرانيا وانقطع الغاز الروسي الذي كان شرياناً حيوياً للصناعة الألمانية، خصوصاً أن أنابيب خط «نورد ستريم 2» لم تعمل خلافاً لما شاءته حكومة ميركل وعملت عليه طويلاً مع الروس مثيرة غضباً أميركياً لم يُثنها عن المضي قدماً في المشروع، قبل أن تطيح الحرب كل شيء، وتنسف الخط الموعود بالمعنيين المجازي والحرفي.

هنا لم يعد للاعتدال والوسطية «محل من الإعراب»، وكان لا بد لبرلين، العضو في «الأطلسي» و«الأوروبي»، من اتخاذ موقف حاسم وحازم ضد موسكو ومع كييف. وهكذا كان.

لكن، تسأل مساعدة الأمين العام لـ«الناتو» سابقاً وعضو المجلس الألماني للعلاقات الخارجية حالياً، شتيفاني بابست، «هل أدت حرب روسيا ضد أوكرانيا إلى تغيير جذري في تفكير صناع السياسات في برلين؟ هل أدركوا حقاً أن الأمن الأوروبي في المستقبل لا بد أن يكون في إطار مواجهة روسيا العدوانية؟ هل أدركوا أن ألمانيا يجب أن تعمل على تعزيز قوتها في جميع المجالات لأنها في مرمى أحلام القوة العظمى الروسية؟». وتجيب: «قطعاً لا. من المؤكد أن الحكومة الائتلافية تتحدث باستمرار عن نقطة تحوَل، وتحرص على الإعلان عن تدابير الدعم لأوكرانيا. لكن كل هذا يبدو كأنه وفاء بالواجب ولا علاقة له ببداية استراتيجية جديدة».

ليس صعباً على أي مراقب أن يلاحظ أن ألمانيا لم تقرن قوتها الاقتصادية بدور سياسي بارز خارج الحدود. ولعل هذا من تداعيات خسارتها حربين عالميتين، وإيثارها الانصرف إلى البناء الداخلي وتحقيق الرفاه، مع القبول الطوعي بتسليم إدارة الشأن الأوروبي إلى الولايات المتحدة، وإن مع شيء من «الفعل» في ساحة الاتحاد الأوروبي، كون برلين تشكل مع باريس العمودين الأساسيين لهذا الهيكل. لكن حتى هنا، كان لألمانيا دور «الإطفائي الاقتصادي» أكثر من أي شيء آخر، كما فعلت في تحمّل العبء المالي الأكبر في إنقاذ اليونان من الإفلاس خلال أزمة 2008 – 2010.

دبابة أوكرانية تطلق قذيفة على جبهة باخموت... الحرب غيّرت كل شيء (أ.ف.ب)

* التحديات الراهنة

ثمة تسليم بأن موقف اللاموقف، والاكتفاء بالاقتصادي دون السياسي، أمر لا يتوافق مع واقع أوروبا والعالم، ويقصّر في التعامل مع الديناميكات الجيوسياسية والجيواقتصادية.

في أي حال، الاقتصاد الألماني لم يسلم من الوهن العام الذي اعترى الاقتصاد العالمي كله، فقد تعرض لضربتين كبيرتين، جائحة «كوفيد 19» والاجتياح الروسي لمناطق أوكرانية. لذلك نرى نسبة تضخم مرتفعة، واستمراراً لمعضلة الحصول على الغاز، في موازاة التراجع على الطلب عموماً. يضاف إلى ذلك أعباء تمويل المساعدات السخية لأوكرانيا، وأكلاف استقبال النازحين الأوكرانين...

فقد قررت حكومة أولاف شولتس مضاعفة مساعداتها العسكرية لأوكرانيا من 4 مليارات يورو في 2023 إلى 8 مليارات في 2024. ويقيم في ألمانيا مليون و126 ألف لاجئ أوكراني، أنفقت عليهم الخزينة الألمانية المليارات، في موازة إعطائهم حق الإفادة من الخدمات الاجتماعية والصحية التي تقدمها الدولة لمواطنيها.

هنا، يسأل بعض المراقبين: هل يمكن أن تستعيد ألمانيا عافيتها أو بالأحرى قوتها الاقتصادية العالمية في ظل سياستها الحالية؟

بمعنى آخر، هل يُظهر أولاف شولتس القدرة على تقديم قيادة سياسية أو استراتيجية لأوروبا تمنحها دوراً في الساحة العالمية؟

المشككون كثر، وأدلتهم دامغة. ويقولون يكفي أن اقتصاد ألمانيا هو الأسوأ أداءً بين اقتصادات دول مجموعة السبع، بل دول منطقة اليورو أيضاً.

في ضوء هذا الواقع، ومع تراجع «الديمقراطي الاجتماعي» و«الديمقراطي المسيحي»، لا بد أن تتقدم الشعبوية من اليمين واليسار، وهذا أمر لا يبشّر بالخير لألمانيا، بل يخلط الأوراق التي لن تتظهّر صورتها إلا في الانتخابات العامة الفدرالية المقبلة التي تقام في موعد أقصاه 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2025.


مقالات ذات صلة

امرأة تلد في سن الـ61 وتصبح أكبر أم جديدة في مقدونيا الشمالية

يوميات الشرق امرأة مع طفلها المولود (رويترز - أرشيفية)

امرأة تلد في سن الـ61 وتصبح أكبر أم جديدة في مقدونيا الشمالية

أصبحت سيدة تبلغ 61 عاماً أكبر امرأة تلد طفلاً في مقدونيا الشمالية، وفق ما أعلنت السلطات الصحية في الدولة الواقعة في منطقة البلقان الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (سكوبيي (مقدونيا الشمالية))
تحليل إخباري سيارة إسعاف بموقع استهدفته غارة إسرائيلية في بيروت (رويترز)

تحليل إخباري خبراء لـ«الشرق الأوسط»: اتفاق وقف إطلاق النار لا يمنع عودة «حزب الله» إلى ما كان عليه

هل الاتفاق، الذي يبدو أنه جُزّئ بين «حزب الله» و«إسرائيل»، يعني أن يدَ «الحزب» العسكرية ستبقى طليقة في لبنان.

إيلي يوسف (واشنطن)
آسيا خلال تشييع شخص قُتل بالهجمات في باكستان الخميس... في باراشينار شمال غربي باكستان في 22 نوفمبر 2024 (أ.ب)

43 قتيلًا في هجوم شمال باكستان

ارتفعت حصيلة هجومين استهدفا، أمس (الخميس)، موكبين لعائلات شيعية في شمال غربي باكستان، الذي يشهد عنفاً طائفياً، إلى 43 شخصاً من بينهم 7 نساء و3 أطفال.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
آسيا تظهر هذه الصورة الملتقطة في 21 نوفمبر 2024 الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون وهو يحضر حفل افتتاح معرض تطوير الدفاع الوطني 2024 في عاصمة كوريا الشمالية بيونغ يانغ (أ.ف.ب)

كيم: التواصل الدبلوماسي السابق يؤكد العداء الأميركي «الثابت» لكوريا الشمالية

قال الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون إن التواصل الدبلوماسي السابق بين بيونغ يانغ وواشنطن أكد عداء الولايات المتحدة «الثابت» تجاه بلاده.

«الشرق الأوسط» (سيول)

روسيا: أوكرانيا شنّت ضربتين باستخدام صواريخ «أتاكمس» الأميركية

تظهر هذه الصورة التي نشرتها قناة وزارة الدفاع الروسية الرسمية على «تلغرام» يوم الثلاثاء 26 نوفمبر 2024... حطام صاروخ «أتاكمس» الذي تم العثور عليه في أراضي مطار كورسك في روسيا (قناة وزارة الدفاع الروسية الرسمية على تلغرام - أ.ب)
تظهر هذه الصورة التي نشرتها قناة وزارة الدفاع الروسية الرسمية على «تلغرام» يوم الثلاثاء 26 نوفمبر 2024... حطام صاروخ «أتاكمس» الذي تم العثور عليه في أراضي مطار كورسك في روسيا (قناة وزارة الدفاع الروسية الرسمية على تلغرام - أ.ب)
TT

روسيا: أوكرانيا شنّت ضربتين باستخدام صواريخ «أتاكمس» الأميركية

تظهر هذه الصورة التي نشرتها قناة وزارة الدفاع الروسية الرسمية على «تلغرام» يوم الثلاثاء 26 نوفمبر 2024... حطام صاروخ «أتاكمس» الذي تم العثور عليه في أراضي مطار كورسك في روسيا (قناة وزارة الدفاع الروسية الرسمية على تلغرام - أ.ب)
تظهر هذه الصورة التي نشرتها قناة وزارة الدفاع الروسية الرسمية على «تلغرام» يوم الثلاثاء 26 نوفمبر 2024... حطام صاروخ «أتاكمس» الذي تم العثور عليه في أراضي مطار كورسك في روسيا (قناة وزارة الدفاع الروسية الرسمية على تلغرام - أ.ب)

أعلنت روسيا اليوم (الثلاثاء) أنها تعرضت في الأيام الأخيرة لضربتين أوكرانيتين نُفّذتا بصواريخ «أتاكمس» الأميركية، السلاح الذي توعدت موسكو برد شديد في حال استخدمته كييف.

وأفادت وزارة الدفاع الروسية بأن القوات الأوكرانية قصفت «منشآت» في منطقة كورسك الروسية الحدودية يومي 23 و25 نوفمبر (تشرين الثاني). واعترفت الوزارة في خطوة نادرة بأن صواريخ عدة «أصابت أهدافها»، مبلغة عن إصابة جنديين روسيين بجروح، وتدمير رادار جراء هذه الضربات.