حال الإمبراطوريات بين المركز والأطراف

صورة وزّعتها وزارة الدفاع الروسية لقصف مدفعي على مواقع أوكرانية في 26 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)
صورة وزّعتها وزارة الدفاع الروسية لقصف مدفعي على مواقع أوكرانية في 26 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

حال الإمبراطوريات بين المركز والأطراف

صورة وزّعتها وزارة الدفاع الروسية لقصف مدفعي على مواقع أوكرانية في 26 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)
صورة وزّعتها وزارة الدفاع الروسية لقصف مدفعي على مواقع أوكرانية في 26 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)

يقول الكاتب هنري فاريل في كتابه الأخير «إمبراطوريّة تحت الأرض»، إنه لم يتغيّر الكثير بين الإمبراطوريّة الرومانيّة وإمبراطوريات القرن الـ21.

فالإمبراطورية عادة تتكوّن من قلب، كمركز ثقل، ومن الأطراف الممسوكة من المركز. لذلك؛ تعمل هندسة الإمبراطوريات باتجاهين، من القلب إلى الخارج، ومن الخارج إلى القلب. بَنت روما شبكة الطرق الأهمّ في التاريخ. فأمّنت هذه الشبكة، مسك القلب للأطراف بقوّة، إن كان عبر التجارة. أو عبر قدرة الفيلق الرومانيّ على الانتشار بسرعة من القلب إلى الأطراف لضرب أيّ تمرّد.

تتميّز شبه الإمبراطوريات الحاليّة (وعلى رأسها أميركا) عن غيرها من الإمبراطوريات القديمة، في أنها أضافت رابطاً إضافياً بين القلب والأطراف، يُعزّز سيطرتها أكثر. يتمثّل هذا الرابط بالفضاء السيبرانيّ (Cyber Space). ألا يُمثّل تجميع «الداتا» في عالم اليوم، كما معالجتها واستعمالها، وسيلة إكراه (Coercive)؟

وحسب المؤرّخ الإنجليزي بول كينديّ، تسقط الإمبراطوريات، عندما تصل هذه الإمبراطوريات إلى الامتداد الأقصى (Overstretched). وعندما يختلّ التوازن بين القلب والأطراف. فعند اهتراء القلب، يتمدّد الخلل إلى المحيط فتكون النهاية. هناك إمبراطوريات تجدّدت، لكن بشكل ودور مختلف، ومنها من اندثر إلى غير رجعة. تحوّلت السلطنة العثمانيّة بعد سقوطها إلى دولة تركيا الحاليّة، لكن مع نكهة وأحلام إمبراطوريّة. في المقابل، سقطت قرطاجة عسكريّاً. وكي لا تنهض مجدّداً؛ رش الجنرال الروماني سيبيو الملح على أرضها كي لا تُثمر.

ما يُميّز سلوك كلّ الإمبراطوريات عادة، هو السعي الدائم إلى ترتيب وضعها الداخليّ. وبعدها الانطلاق إلى خلق مناطق نفوذ مجاورة. وإذا بقي لديها من قوّة وإرادة سياسيّة، ولم تصطدم بإمبراطوريات أخرى، يستمرّ تمدّدها إلى الحد الأقصى.

في عام 1832، أعلن الرئيس الأميركي جيمس مونرو عقيدته، التي حذّرت الإمبراطوريات الأوروبية من التدخل في النصف الغربيّ للكرة الأرضية، مُعلناً بذلك مناطق نفوذ أميركيّة.

ترى الصين أن بحر الجنوب الصينيّ هو منطقة نفوذ صينيّة، وتعود ملكيّته للصين. وعليه نشرت الصين مؤخّراً خريطة تتعلّق بالموضوع.

المسلّمات الجيو - سياسيّة لروسيا vs مناطق النفوذ

تّعدّ المناطق العازلة، من اهم المسلّمات الجيو - سياسيّة الروسيّة. وذلك بغض النظر، عما إذا كانت روسيا إمبراطوريّة، اتحاداً سوفياتياً أو روسيا الاتحاديّة كما هي اليوم. في هذا الإطار، تُعدّ كل من بلاروسيا، أوكرانيا الأهم في هذه المعادلة. فأوكرانيا تشكّل روسيا الصغرى. وتشكّل بلاروسيا «روسيا البيضاء». أما العَظمة فهي لروسيا الكبرى مع حاكم الكرملين.

ومن ضمن المسلّمات الجيو - سياسيّة الروسيّة، أن تكون روسيا ممسكة بمنطقة القوقاز كعازل طبيعيّ. من هنا كانت الحرب الدمويّة على الشيشان لإبقائها ضمن الاتحاد. ومن هنا التدخّل الروسيّ في الحرب بين أرمينيا وأذربيجان في منطقة القوقاز الجنوبيّ.

عرّت الحرب على أوكرانيا الآلة العسكريّة الروسيّة، وأظهرت ضعفها المفاجئ. وعليه، بدأت مناطق النفوذ الروسيّة، خاصة في المحيط المباشر، تتفلّت من هيمنة وقبضة المركز في الكرملين.

عربة تابعة لقوات «حفظ السلام» الروسية عند ممر لاتشين جنوب غرب أذربيجان الأحد (أ.ف.ب)

إذن، نحن اليوم في نظام عالميّ غير ثابت ومُتقلّب، يُعاد فيه تحديد ورسم العلاقة بين القلب والمركز للقوى المهيمنة. لكنه عالم مُعقّد جداً لأسباب عدة، أهمّها أن عدد القوى العظمى هو أكبر من المُعتاد. كما أن عدد القوى العظمى الإقليميّة المؤثّرة والطامحة للتموضع للعب دور أهم، خاصة في محيطها المباشر، هو أيضاً كبير. لكن ظاهرة تغيير الجغرافيا، وإعادة رسم الحدود بالقوّة العسكريّة، هي أمر خطير جدّاً.

أعادت حرب بوتين على أوكرانيا رسم العلاقة ضمن حلف «الناتو» بين القلب، والأطراف. لا، بل توسّع الحلف نتيجة لذلك. أدّى الصعود الصينيّ إلى إعادة رسم العلاقة بين الولايات المتحدة(القلب - المركز) وحلفائها في شرق آسيا، وذلك عبر اعتمادها استراتيجيّة الردع المُدمج مع الحلفاء (Integrated Deterrence).

الصراع الأرمنيّ - الأذربيجانيّ

إذا أردت أن تعرف سبب المشاكل الحدوديّة بين دول آسيا الوسطى، وفي محيط روسيا المباشر، لا بد من العودة إلى مخططات الزعيم السوفياتيّ الراحل جوزف ستالين. فهو زعيم الترنسفير للأقليات الروسيّة عبر تشتيتها. شتّت الشركس من منطقة سوتشي. شتّت التتار من شبه جزيرة القرم. وضع إقليم نوغورنو كاراباخ تحت القيادة الأذربيجانيّة عام 1923، لكن من ضمن الاتحاد السوفياتيّ، وذلك على الرغم من الأغلبيّة الأرمنية فيه.

في التسعينات، سيطرت البندقيّة الأرمنيّة على إقليم كاراباخ. في عام 2022؛ وبسبب التحديث في الجيش الأذربيجاني، وشراء الأسلحة من إسرائيل وتركيا. استطاع الجيش الأذربيجاني خوض حرب من نوع جديد كان للمسيّرات فيها الدور الحاسم. طوّقت أذربيجان الإقليم. تدخّلت روسيا متأخرّة عن قصد أو غير قصد. فأرسلت ما يقارب الـ2000 جندي روسي لحفظ السلام. حالياً، أسقطت أذربيجان إقليم كاراباخ بالضربة القاضية.

غيّرت الحرب الأوكرانيّة كلّ معادلات القوّة حول روسيا، خاصة في منطقة القوقاز الجنوبيّ. تطلب أرمينيا الحماية الروسيّة من ضمن معاهدة «منظّمة معاهدة الأمن الجماعيّ». تتردّد روسيا لأن البند الرابع من المعاهدة ينص على التدخّل فقط عند تعرّض السيادة الأرمنيّة للاعتداء. وهذه حالة غير موجودة؛ لأن إقليم كاراباخ هو قانوناً تحت السيادة الأذربيجانيّة.

ردّ فعل أرمينيا

لم تعد روسيا الضامن الأمنيّ والاستراتيجيّ لأرمينيا، وذلك حسب رئيس الوزراء الأرميني. ترسل أرمينيا مساعدات لأوكرانيا، على أن تُسلّم من قِبل زوجة رئيس وزراء أرمينيا. تجري القوات الأرمنية تدريباً مشتركاً ورمزيّاً مع القوات الأميركية في الداخل الأرمنيّ. وأخيراً وليس آخراً، سُرّب خبر عن سعي رئيس الوزراء الأرمني إلى التصديق على معاهدة روما (المحكمة الجنائيّة الدوليّة)؛ الأمر الذي يمنع بوتين من زيارة أرمينيا كونه مطلوباً من المحكمة بمذكّرة توقيف. فهل تشكّل هذه المؤشرات بدء انفراط عقد العلاقة بين الإمبراطورية الروسية ومحيطها المباشر؟

على كلٍّ، فرضت أذربيجان الواقع العسكريّ، والمرحلة المقبلة هي مرحلة خاصة بالسياسة. لكن المرحلة السياسيّة لن تنتج حتماً واقعاً جديداً، لا يضع في الحسبان الواقع الميدانيّ والتحوّلات الجيو - سياسيّة.


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة: عمال الإغاثة الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر

الولايات المتحدة​ مسعفون من جمعية «الهلال الأحمر الفلسطيني» ومتطوعون في الفريق الوطني للاستجابة للكوارث (أ.ب)

الأمم المتحدة: عمال الإغاثة الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر

أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن عدد عمال الإغاثة والرعاية الصحية الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر، بحسب «أسوشييتد برس».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الاقتصاد سبائك ذهبية في مكتب «غولد سيلفر سنترال» في سنغافورة (رويترز)

الذهب يستعد لأفضل أسبوع له في عام

ارتفعت أسعار الذهب 1 في المائة وكانت في طريقها لتسجيل أفضل أسبوع لها في عام، الجمعة، بدعم من الطلب على الملاذ الآمن وسط التصعيد المستمر بين روسيا وأوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ لقطة من فيديو تظهر القصف الذي طال مدينة دنيبرو الأوكرانية بصاروخ بالستي جديد متوسط المدى روسي (أ.ب)

الولايات المتحدة تؤكد أنها «لا تسعى إلى حرب» مع روسيا

أعلنت الولايات المتحدة الخميس أنها "لا تسعى إلى حرب مع روسيا"، متهمة موسكو بـ"إثارة التصعيد" في أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا أشخاص يحتمون داخل محطة مترو خلال هجوم عسكري روسي على أوكرانيا (أ.ف.ب)

كييف تتهم موسكو باستهدافها بصاروخ «عابر للقارات»

دوت صافرات الإنذار في جميع أنحاء أوكرانيا، فجر أمس (الخميس)، بعدما أفادت السلطات الأوكرانية بأن روسيا أطلقت صاروخاً عابراً للقارات من دون رؤوس نووية على أراضيها

«الشرق الأوسط» (كييف - موسكو)
أوروبا لقطة أرشيفية لصاروخ بالستي روسي أطلق في مارس الماضي خلال تجربة للجيش (أ.ف.ب)

«الناتو»: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا

أكّد حلف شمال الأطلسي الخميس أنّ الصاروخ البالستي الفرط صوتي الجديد الذي أطلقته روسيا على أوكرانيا "لن يغيّر مسار الحرب".

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

إخلاء جزئي لمطار غاتويك في لندن بعد اكتشاف «جسم مشبوه»

صورة أرشيفية لمسافرين في مطار غاتويك (أ.ب)
صورة أرشيفية لمسافرين في مطار غاتويك (أ.ب)
TT

إخلاء جزئي لمطار غاتويك في لندن بعد اكتشاف «جسم مشبوه»

صورة أرشيفية لمسافرين في مطار غاتويك (أ.ب)
صورة أرشيفية لمسافرين في مطار غاتويك (أ.ب)

أخلى مطار غاتويك في لندن، صباح اليوم (الجمعة)، جزءاً من مبنى الركاب الجنوبي كإجراء احترازي، أثناء التحقيق في حادث أمني. وقال المطار، في بيان على منصة «إكس» للتواصل الاجتماعي، إنه لن يتمكن أحد من دخول مبنى الركاب الجنوبي أثناء الحادث. وأضاف المطار في بيان أن «سلامة وأمن ركابنا وموظفينا على رأس أولوياتنا. إننا نعمل جاهدين لحل المشكلة، بأسرع وقت ممكن».

وبينما لم يتضمن البيان مزيداً من التفاصيل عن طبيعة الحادث، أفادت تقارير إعلامية عن توجّه فريق «تفكيك المتفجّرات» إلى المطار بعد اكتشاف جسم مشبوه. كما عُلّقت الرحلات عبر القطار وبعض خطوط الحافلات إلى المطار. وقالت شركة السكك الحديدية الوطنية: «في الوقت الحالي، يتم إخلاء المحطة والمطار، بينما تتعامل الشرطة مع حادث»، وأوصت المسافرين بتأخير رحلاتهم.

وقبل ساعات قليلة، أعلنت السلطات عن حادث أمني منفصل قرب السفارة الأميركية. ونفّذت الشرطة البريطانية «تفجيراً مُحكماً» لجسم مشبوه قرب السفارة الأميركية، في إطار تحقيقات بشأن تقارير عن طرد مشبوه في المنطقة. وتم إغلاق طريق على الجانب الغربي من السفارة.

انتشار أمني خارج السفارة الأميركية في لندن الجمعة (رويترز)

وقالت شرطة العاصمة لندن إنها تواصل التحقيق في الواقعة. من جهتها، ذكرت السفارة، في بيان عبر منصة «إكس»: «تُحقّق السلطات المحلية بشأن طرد مشبوه خارج السفارة الأميركية في لندن». وتابع البيان أن «شرطة العاصمة موجودة وأغلقت طريق بونتون كإجراء احترازي».