في الوقت الذي ما زالت مقاطعات الشمال الإيطالي تجهد لاستعادة دورة الحياة الطبيعية وتعويض الخسائر الفادحة التي خلّفتها الفيضانات غير المسبوقة التي شهدتها منتصف مايو (أيار) الماضي، تعيش مقاطعات الجنوب والجزر المتوسطية حالة من شبه الاختناق الحراري الناجمة عن ارتفاع قياسي في درجات الحرارة دفع بالسلطات الصحية إلى إعلان حالة الطوارئ في عدد من المستشفيات ودور العجزة، بعد تكرر الإصابات الخطرة بين المسنين، الذين يعانون من أمراض تنفسية، والتوقعات باستمرار موجة الحر الشديد حتى أواخر الأسبوع المقبل.
وقد أفادت بلدية العاصمة روما بأن عشرات السياح تمّ نقلهم إلى المستشفيات بعد إصابتهم بحالات إغماء خلال انتظارهم تحت الشمس في طوابير الدخول إلى المعالم السياحية مثل «الكولوزيوم» وغيره من الآثار الرومانية، فيما كان المركز الأوروبي للأرصاد الجوية «كوبرنيكوس» يحضّ الحكومات على الإسراع في زيادة طموحات وفاعلية خطط التكيّف مع الارتفاع في درجات الحرارة، «لأن الاحترار المناخي إلى ازدياد مطرد من المستبعد جداً أن يتوقف في المستقبل المنظور».
في حديث خاص مع «الشرق الأوسط»، قال مدير مركز تغيّر المناخ في الاتحاد الأوروبي كارلو بونتمبو: «للمرة الأولى في سجل الأرصاد الجوية الأوروبية، تحطّم الرقم القياسي لمتوسط درجة الحرارة اليومية للأرض مرتين في أسبوع واحد، وذلك بسبب الاحترار العام الناجم عن الأنشطة البشرية وما يرافقه من ظواهر مناخية قصوى ومتقاربة زمنياً».
ويقول بوتمبو، إن موجة الحر التي تشهدها أوروبا حالياً مرشحة للتفاقم بسبب تزامنها مع ظاهرة مناخية أخرى لا تقل خطورة، هي الارتفاع الشديد في درجة حرارة مياه شمال المحيط الأطلسي، ويضيف: «دخلنا في منطقة مجهولة لا نعرف ما يمكن أن تحمل وراءها من تداعيات».
وبعد أن يذكّر بونتمبو أنها ليست المرة الأولى، وقطعاً لن تكون الأخيرة، التي يجد الخبراء أنفسهم أمام مثل هذه الأوضاع المناخية المجهولة، يقول: «لا أحد بين البشر الأحياء اليوم شهد مثل هذا المناخ الذي نشهده حالياً، وبات من الضروري أن يدرك العالم، والمسؤولون بشكل خاص، أن التغيّر المناخي لن يحصل في السنوات المقبلة، أو بعد عقود من الآن، بل هو يحصل أمام أعيننا، وأن المناخ أصبح مختلفاً كلياً عن الذي عرفه آباؤنا وأجدادنا، وسيكون مختلفاً أكثر على عهد أولادنا وأحفادنا».
ويقول مدير المركز الأوروبي لتغيّر المناخ إن درجات حرارة البحار في العالم شهدت ارتفاعاً لا سابقة له في شهر مايو (أيار)، وإن هذه الظاهرة استمرت في الشهر الماضي، حيث كان معدل ارتفاع حرارة مياه الأطلسي 1.36 درجة، «وهو أمر غير مألوف ما زال يحيّر الخبراء الذين لم يتمكنوا بعد من تحديد أسبابه بدقة». ويرجّح بونتمبو أن من بين عوامل هذا الارتفاع، التغيير المفاجئ الذي طرأ على دورة الهواء في الفضاء، والتأثير الواضح لتغيّر المناخ الناجم عن الكثافة المتزايدة لغازات الدفيئة. ويعتقد بونتمبو أنه من غير الارتفاع غير المسبوق في درجة حرارة مياه شمال الأطلسي، لما كانت أوروبا تشهد مثل هذه الأرقام القياسية في درجات الحرارة.
ويعزو خبراء المركز الأوروبي لتغيّر المناخ بعض أسباب هذا الوضع إلى نهاية ظاهرة «لا نينيا» وبداية ظاهرة «إل نينيو»، التي من خصائصها زيادة درجة حرارة المناطق المدارية في المحيط الهادئ، والتي لها انعكاسات مناخية على الصعيد العالمي. ويذكّر الخبراء أن المناخ العالمي كان تحت تأثير ظاهرة «لا نينيا» طوال السنوات الثلاث الماضية، ما أدّى إلى انخفاض درجات الحرارة الذي خفّف من تداعيات التغيّر المناخي. وكانت وكالة الأمم المتحدة للأرصاد الجوية قد أفادت مؤخراً بأن الظروف أصبحت مواتية لبداية ظاهرة «إل نينيو»، التي يرجح أن تكون خلال الشهر الحالي، حيث من المنتظر أن تسجّل درجات الحرارة أرقاماً قياسية جديدة.
ويقول بونتمبو إنه مع ظهور «إل نينيو» في عام 2016، شهد العالم أعلى درجات للحرارة منذ أن بدأ التسجيل الموثوق أواسط القرن التاسع عشر، ويضيف: «ثمة توقعات بنسبة 98 % في أن يشهد العالم خلال إحدى السنوات الخمس المقبلة تحطيم الرقم القياسي لدرجة الحرارة التي بلغها عام 2016».
وإذ يؤكد بونتمبو أن درجات الحرارة التي نشهدها اليوم في أوروبا هي الأعلى منذ 70 عاماً، استناداً إلى سجلات المركز الأوروبي لتغيّر المناخ، يرجح أن تكون الأعلى منذ 150 عاماً أو ربما أكثر.