روسيا تتحايل على العقوبات الغربية لتعزيز وجودها العسكري بأفريقيا

عناصر «فاغنر» في مالي (أ.ب)
عناصر «فاغنر» في مالي (أ.ب)
TT

روسيا تتحايل على العقوبات الغربية لتعزيز وجودها العسكري بأفريقيا

عناصر «فاغنر» في مالي (أ.ب)
عناصر «فاغنر» في مالي (أ.ب)

في الوقت الذي تُواصل فيه روسيا قصف أوكرانيا، تقوم بتوسيع نطاق وجودها العسكري في أفريقيا، من خلال تزويد مناطق النزاع في أفريقيا جنوب الصحراء بأسلحة متطورة، حيث تشهد قوة مسلَّحة خاضعة لسيطرة «الكرملين» صعوداً ملحوظاً.

وبينما تتجاوز العقوبات التي فرضتها الدول الغربية، تستخدم موسكو سفن شحن لنقل دبابات ومركبات مدرَّعة ومدفعية ومُعدات عالية القيمة إلى غرب أفريقيا، وفق ما كشفته وكالة «أسوشييتد برس».

شعار «فاغنر» الروسية (أرشيفية)

وباستخدام صور الأقمار الاصطناعية والإشارات اللاسلكية، تتبعت الوكالة قافلة من سفن الشحن التي ترفع العَلم الروسي، خلال رحلةٍ استمرت قرابة شهر من بحر البلطيق.

ووفقاً لمسؤولين عسكريين أوروبيين راقبوا السفن من كثب، فقد كانت تحمل مدافع هاوتزر ومُعدات للتشويش اللاسلكي، وغيرها من العتاد العسكري.

ومِن شأن هذه الشحنات أن تُعزز «فيلق أفريقيا»، التابع لروسيا، والذي لا يزال في بداياته، في وقتٍ تتنافس فيه موسكو مع الولايات المتحدة وأوروبا والصين على النفوذ بالقارة.

سفينة شحن روسية في غينيا (أ.ب)

ويشهد «فيلق أفريقيا»، الذي يرتبط بفرع سري من الجيش الروسي، تنامياً في وقتٍ بدأت فيه القوات الأميركية والأوروبية الانسحاب من المنطقة، بعد أن أجبرتها دول في أفريقيا جنوب الصحراء على الخروج، واختارت التوجه نحو روسيا للحصول على الدعم الأمني.

ويخوض كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، منذ أكثر من عقد، معارك ضد مقاتلين مرتبطين بتنظيمَي «القاعدة» و«داعش».

أنهت مجموعة «فاغنر» دورها رسمياً وغادرت مالي حيث كانت تنشط منذ عام 2021 على أن يجري دمج مجموعاتها ضمن «فيلق أفريقيا» المرتبط بروسيا (أرشيفية-متداولة)

في البداية، دخلت جماعات مرتزقة ذات صلة غير مباشرة بـ«الكرملين» ساحات القتال في أفريقيا، لكن روسيا بدأت تدريجياً نشر قوتها العسكرية وأجهزتها الاستخباراتية بشكل مباشر ومتزايد. وقال المتحدث باسم «الكرملين»، دميتري بيسكوف: «نعتزم توسيع تعاوننا مع الدول الأفريقية في جميع المجالات، مع التركيز على التعاون الاقتصادي والاستثمارات». وأضاف: «يشمل هذا التعاون مجالات حساسة مرتبطة بالدفاع والأمن».

سفينة شحن روسية في غينيا (أ.ب)

وتُنقل الأسلحة الروسية بالشاحنات إلى مالي، وتُعدّ سفينتا «بالتيك ليدر» التي تبلغ حمولتها 8800 طن، و«باتريا» التي تبلغ حمولتها 5800 طن، من بين مئات السفن التي فرضت عليها الدول الغربية عقوبات؛ في محاولة لخنق الموارد التي تُستخدم في حرب روسيا ضد أوكرانيا.

وأظهرت صور أقمار اصطناعية لوكالة «أسوشييتد برس» أن السفينتين رَسَتا وأفرغتا حمولتيهما في مدينة كوناكري، عاصمة غينيا، في أواخر شهر مايو (أيار) الماضي.

عناصر من «فاغنر» في بلدة بشمال مالي يسكنها طوارق (متداولة)

وكانت سفن أخرى قد قامت بنقل شحنات إلى الميناء نفسه في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث جرى تسليم دبابات ومركبات مدرّعة ومُعدات عسكرية أخرى نُقلت، لاحقاً، براً إلى مالي المجاورة، وفقاً لمسؤولين عسكريين أوروبيين، وفيديو نشره مدوِّن مالي يُظهر قافلة طويلة من المركبات. وتحدّث المسؤولون العسكريون إلى وكالة «أسوشييتد برس» حول العمليات الروسية، بشرط عدم الكشف عن هوياتهم. ونجحت الوكالة في التحقق من الفيديو، الذي نشره المدوِّن، عبر تحديد الموقع الجغرافي للقافلة على طريق «آر إن 5» السريع المؤدي إلى العاصمة المالية باماكو.

وبعد الشحنة الأخيرة التي جرى تسليمها في كوناكري، شُوهدت مجدداً شاحنات تنقل مركبات مدرّعة ومدافع هاوتزر ومُعدات روسية الصنع أخرى على الطريق البري المؤدي إلى مالي.

صورة من مقطع فيديو نُشر 20 مايو 2023 على «تلغرام» التابع للخدمة الصحافية لشركة «كونكورد» المرتبطة برئيس «فاغنر» يفغيني بريغوجين الذي يظهر واقفاً أمام عَلَم وطني روسي مع جنوده (أ.ف.ب)

وأكدت هيئة الإذاعة والتلفزيون المالية الرسمية «أو آر تي إم» أن جيش البلاد تسلَّم مُعدات عسكرية جديدة. ومن خلال تحليل فيديوهاتها وصور المدوِّن المالي، التي صُوّرت في الموقع نفسه الذي التُقطت فيه صور تسليم يناير، جرى التعرف على مجموعة واسعة من المُعدات روسية الصنع، من بينها مدافع ميدانية من عيار 152 ملم، ومدافع أخرى أصغر حجماً.

كما حددت وكالة أسوشيتد برس وجود ناقلة جنود مدرّعة من طراز «بي تي آر-80» مزودة بمُعدات تشويش لا سلكي، إلى جانب مركبات مدرّعة من طراز «سبارتاك» ومركبات مدرّعة أخرى، بعضها مزود بأسلحة رشاشة. وضمّت الشحنة أيضاً زورقين صغيرين شِبه مطاطيين، أحدهما يحمل عَلَم روسيا مرسوماً على هيكله، بالإضافة إلى شاحنات صهريجية، كُتب على جوانب بعضها كلمة «قابل للاشتعال» باللغة الروسية.

أرشيفية لعنصرين من «فاغنر» في مالي (متداولة)

وقال المسؤولون العسكريون، الذين تحدثوا إلى وكالة «أسوشييتد برس»، إنهم يعتقدون أن روسيا خصصت أقوى المُعدات، ولا سيما المدفعية ومُعدات التشويش، لـ«فيلق أفريقيا» التابع لها، وليس للجيش المالي. ويبدو أن «فيلق أفريقيا» حصل أيضاً على قدرات جوية، إذ رصدت الأقمار الاصطناعية، خلال الأشهر الأخيرة، طائرة هجومية من طراز «سو24-» في قاعدة جوية بباماكو.

والوحدة السرية سيئة السمعة في موسكو، ولسنوات، دعّمت القوات الفرنسية، خلال عمليات مكافحة التمرد في مالي وبوركينا فاسو والنيجر المجاورتين. لكن فرنسا سحبت قواتها بعد الانقلابات التي وقعت في مالي خلال عاميْ 2020 و2021، وفي بوركينا فاسو عام 2022، وفي النيجر عام 2023. وقد ملأ المرتزقة الروس هذا الفراغ.

وأبرز هؤلاء كانت مجموعة «فاغنر»، التي نشرت قواتها في السودان عام 2017 ووسَّعت نطاق انتشارها إلى دول أفريقية أخرى، غالباً مقابل الحصول على امتيازات في مجالات التعدين.

واكتسبت المجموعة سُمعة بالوحشية، حيث اتهمتها دول غربية وخبراء من الأمم المتحدة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، بما في ذلك في جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا ومالي.

ومن بين 33 دولة أفريقية تنشط فيها شركات عسكرية روسية خاصة، كانت الأغلبية تحت سيطرة «فاغنر»، وفق بحثٍ أجرته مؤسسة راند، برعاية الحكومة الأميركية.

لكن بعد تمرد قوات «فاغنر» في روسيا، خلال عام 2023، ومقتل زعيمها يفغيني بريغوجين، بعد شهرين، في حادث تحطم طائرة تحوم حوله شبهات، شددت موسكو قبضتها.

وجرت إعادة هيكلة العمليات العسكرية الروسية في أفريقيا، مع تولي «الكرملين» مزيداً من السيطرة، من خلال «فيلق أفريقيا».

ويُشرف على هذا الفيلق قائد الوحدة 29155، وهي واحدة من أكثر فروع جهاز الاستخبارات العسكرية الروسي غموضاً وسوء سُمعة، وفقاً للاتحاد الأوروبي.

سفينة شحن روسية في غينيا (أ.ب)

واتهمت الوحدة 29155 بتنفيذ هجمات سرية ضد مصالح غربية، على مدى سنوات، شملت أعمال تخريب ومحاولات اغتيال.

وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على اللواء أندريه أفيريانوف، قائد الوحدة 29155، متهماً إياه بالإشراف على عمليات «فيلق أفريقيا».

وجاء في قرار العقوبات: «في عدد من الدول الأفريقية تُقدم القوات الروسية الحماية للمجالس العسكرية التي أطاحت بحكومات ديمقراطية شرعية، مما أدى إلى تدهور بالغ في الاستقرار والأمن والديمقراطية بتلك الدول». وأضاف القرار أن هذه العمليات يجري تمويلها من خلال استغلال الموارد الطبيعية للقارة.

مقاتلون من مرتزقة «فاغنر» الروسية في مدينة روستوف أون دون بروسيا 24 يونيو 2023 (رويترز)

تجنيد «فيلق أفريقيا»

يقول باحثون ومسؤولون عسكريون إن تدفق الأسلحة من روسيا يبدو أنه يُسرّع من صعود «فيلق أفريقيا» على حساب مجموعة «فاغنر»، مما يساعده على كسب ولاء المرتزقة، الذين ظلوا مُوالين للمجموعة. كما يقوم «فيلق أفريقيا» بتجنيد أفراد داخل روسيا، مقدماً عروضاً مالية تصل إلى 2.1 مليون روبل (26 ألفاً و500 دولار)، وقِطع أراض، مقابل توقيع عقد مع وزارة الدفاع، إضافة إلى مزايا إضافية عند الانتشار.

وبعد أيام فقط من وصول أحدث دفعة من المُعدات، أعلنت «فاغنر» انسحابها من مالي، قائلة، في منشور عبر «تلغرام»، إن «المهمة أُنجزت».

وفي منشور منفصل، أعلن «فيلق أفريقيا» نيّته البقاء.

وقالت جوليا ستانيارد، الباحثة في نشاط المرتزقة الروس بأفريقيا، إن هذا الانتقال من «فاغنر» إلى «فيلق أفريقيا» في مالي قد يكون مؤشراً على تحولات مشابهة في مناطق أخرى من القارة.

وأضافت ستانيارد، من المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، ومقرُّها سويسرا: «جلب هذه الأسلحة الحديثة والمركبات المدرّعة الجديدة يمثل تحولاً كبيراً».

وتُكبد الجماعات المسلّحة في مالي، القوات الحكومية والمرتزقة الروس خسائر فادحة، فقد قتل مقاتلو جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، المرتبطة بـ«القاعدة»، العشرات من الجنود، في هجومٍ، هذا الشهر، على قاعدة عسكرية.

وتُظهر صور أقمار اصطناعية، التُقطت في 29 مايو الماضي شاحنات مصطفّة على الرصيف البحري، أثناء تفريغ السفينة. ولم تتمكن وكالة «أسوشييتد برس» من التحقق مما إذا كانت الحمولة تتضمن أسلحة أو الوجهة النهائية للشحنة، إلا أن مجموعة «فاغنر» لا تزال تحتفظ بوجود قوي في جمهورية أفريقيا الوسطى المجاورة.


مقالات ذات صلة

بين التشكيك بجدية ترمب والثقة بوعوده في معاقبة روسيا... هل تنجو أوكرانيا؟

تحليل إخباري زيلينسكي لدى وصوله إلى روما للمشاركة في  مؤتمر إعادة الإعمار (إ.ب.أ) play-circle

بين التشكيك بجدية ترمب والثقة بوعوده في معاقبة روسيا... هل تنجو أوكرانيا؟

روبيو يُعرب لنظيره لافروف عن «خيبة أمله وإحباطه»... والإدارة تستأنف إرسال شحنات الأسلحة إلى كييف.

إيلي يوسف (واشنطن)
أوروبا رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)

ستارمر وماكرون يدعوان إلى تشديد الضغط على بوتين لوقف إطلاق النار في أوكرانيا

دعا رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الخميس، إلى تشديد الضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا صورة عامة للعاصمة كييف (أرشيفية - رويترز)

اغتيال جاسوس أوكراني رفيع المستوى بمسدس كاتم للصوت في كييف

اغتيل جاسوس أوكراني كبير برصاص مسدس كاتم للصوت في شوارع كييف اليوم الخميس

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف (د.ب.أ)

الكرملين ينفي تعثر عملية السلام في أوكرانيا

نفى الكرملين، اليوم الخميس، أن محادثات السلام الرامية إلى إنهاء الحرب المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات في أوكرانيا متعثرة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا استهدفت روسيا أوكرانيا بعدد قياسي من الطائرات المسيرة بلغ 728 طائرة (إ.ب.أ)

روسيا تهاجم أوكرانيا بأكثر من 700 مسيرة بعد تعهد ترمب بإرسال أسلحة

استهدفت روسيا أوكرانيا بعدد قياسي من الطائرات المسيرة بلغ 728 طائرة في ساعة مبكرة من صباح اليوم الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (كييف)

محادثات الكونغو الديمقراطية و«23 مارس» في الدوحة... مساعٍ لتعزيز اتفاق السلام

أفراد من الجيش قرب مقاطعة شمال كيفو في جمهورية الكونغو الديمقراطية (رويترز)
أفراد من الجيش قرب مقاطعة شمال كيفو في جمهورية الكونغو الديمقراطية (رويترز)
TT

محادثات الكونغو الديمقراطية و«23 مارس» في الدوحة... مساعٍ لتعزيز اتفاق السلام

أفراد من الجيش قرب مقاطعة شمال كيفو في جمهورية الكونغو الديمقراطية (رويترز)
أفراد من الجيش قرب مقاطعة شمال كيفو في جمهورية الكونغو الديمقراطية (رويترز)

خطت الكونغو الديمقراطية خطوة جديدة في مسار السلام ببدء محادثات في الدوحة مع حركة «23 مارس» المتمردة التي تصاعدت عملياتها منذ بداية العام بدعم الجارة رواندا، وذلك عقب توقيع اتفاق سلام بين كينشاسا وكيغالي في واشنطن أواخر يونيو (حزيران) الماضي.

تلك المساعي الجديدة، بحسب خبير في الشؤون الأفريقية تحدث لـ«الشرق الأوسط»، ستعزز اتفاق السلام الموقع في واشنطن، وتفتح سبلاً لتهدئة في البلاد، مشترطاً جدية الأطراف في الالتزام، وقدرة الوسطاء على توفير ضمانات واقعية، إلى جانب مدى استعداد كل طرف لتقديم تنازلات ملموسة.

واستقبلت الدوحة وفدين من جمهورية الكونغو الديمقراطية و«23 مارس» لبدء مفاوضات بينهما، وفق إفادة مصدر دبلوماسي مطلع لـ«وكالة «الصحافة الفرنسية»، الأربعاء، مشيراً إلى أن «المحادثات ستكون حاسمة للتوصل إلى اتفاق».

وسبق أن استضافت قطر جولات للوساطة بشأن تلك الأزمة في الشهور السابقة، وتأتي تلك الجولة بعد أن دعت «23 مارس»، في بيان الأسبوع الماضي، إلى محادثات جديدة لمناقشة القضايا العالقة التي لم يتضمنها اتفاق السلام الموقع الشهر الماضي في واشنطن بين كيغالي وكينشاسا، دون أن توضحها.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال حفل التوقيع على اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا في البيت الأبيض الشهر الماضي (أ.ف.ب)

المحلل السياسي التشادي، الخبير في الشؤون الأفريقية، صالح إسحاق عيسى، يرى أن «محادثات الدوحة بين المتمردين وحكومة الكونغو الديمقراطية تشكل تطوراً لافتاً في مساعي احتواء الصراع، وتحمل إشارات سياسية تؤكد أن الخيار العسكري لم يعد وحده مطروحاً، وأن التفاوض بات أداة مقبولة حتى مع جماعات مثل (23 مارس) المصنفة متمردةً منذ سنوات».

وهذا المسار، بحسب عيسى، «يكتسب أهمية مضاعفة في ضوء اتفاق واشنطن الذي جمع كينشاسا وكيغالي، لكنه تجاهل عمداً أو عمليّاً إدماج المتمردين، ولم يتناول جذور الأزمة المحلية على الأرض، بينما في الدوحة، للمرة الأولى منذ سنوات، جلس ممثلون للمتمردين إلى طاولة حوار غير عسكري، ما قد يُعيد ترتيب أولويات التسوية».

ورغم ذلك، لا تزال فرص نجاح هذا التلاقي مرتبطة بعدة عوامل، بحسب عيسى، منها «جدية الأطراف في الالتزام، وقدرة الوسطاء على توفير ضمانات واقعية، إلى جانب مدى استعداد كل طرف لتقديم تنازلات ملموسة»، مؤكداً أنه «لا يكفي إعلان وقف إطلاق النار إذا لم تتبعه آليات مراقبة، وجدولة واضحة لانسحاب القوات، وتسوية أوضاع السكان المحليين الذين عانوا من موجات نزوح وانتهاكات متكررة».

وإذا نجحت هذه المحادثات في التحول من مجرد تهدئة مؤقتة إلى مسار تفاوضي دائم يشمل جميع الأطراف، فقد تُعزّز بل تستكمل ما بدأ في واشنطن، خاصة إذا التزمت رواندا بكبح نفوذها الميداني، والتزمت الكونغو بإيجاد حل سياسي وليس فقط أمنياً، أما إذا بقيت الجبهات مفتوحة، فستظل جهود السلام رهينة النوايا المتقلبة، وموازين القوى المتغيرة، بحسب توقعات صالح إسحاق عيسى.

وأواخر يونيو الماضي، وقعت كيغالي وكينشاسا، اتفاق سلام، في واشنطن، ينص على إنشاء هيئة تنسيق أمني مشتركة لرصد التقدم، وتعهدتا فيه بوقف الدعم للمتمردين بالبلدين.

ويدعو الاتفاق إلى «تحييد» القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، مع تأكيد وزير الخارجية الرواندي، أوليفييه أندوهوجيريهي، خلال التوقيع الذي حضره الرئيس الأميركي دونالد ترمب، على ضرورة «إنهاء الدعم الحكومي (من الكونغو الديمقراطية لتلك القوات) نهائياً، وبشكل لا رجوع عنه، وقابل للتحقق»، ويجب أن يكون «أولوية قصوى». بينما سلطت نظيرته الكونغولية، تيريزا كاييكوامبا واغنر، الضوء على الدعوة في الاتفاق لاحترام سيادة الدولة، في إشارة لأهمية وقف دعم رواندا لحركة «23 مارس».

ولن يغيب هذا التباين على طاولة مفاوضات الدوحة، ويرى الخبير في الشؤون الأفريقية أن أبرز التحديات التي قد تواجه الجانبين بالدوحة «تتمثل في غياب الثقة المتبادلة، والتناقض الجوهري في الروايات حول أسباب النزاع».

أعضاء من حركة «23 مارس» المتمردة في بوكافو شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية (رويترز)

وترى حكومة الكونغو الديمقراطية في حركة «23 مارس» أداة عسكرية تخدم مصالح رواندية، وتتهم كيغالي بدعمها تسليحيّاً ولوجستيّاً، بينما تصر رواندا على أن التهديد الأكبر هو وجود مليشيات الهوتو (FDLR) داخل الكونغو، وهي جماعات متهمة بارتكاب إبادة جماعية في رواندا عام 1994، وفق عيسى الذي نبه إلى أن هناك جماعات مسلحة أخرى لا تخضع لسيطرة أي من الجانبين، مثل قوات التحالف الديمقراطي (ADF) وميليشيات محلية، ستقف عائقاً أمام تطبيق أي تفاهمات ثنائية، حتى لو تم التوصل لاتفاق بين كينشاسا و«23 مارس»، مشيراً إلى أن ضعف المؤسسات الكونغولية، وعدم قدرة الجيش على السيطرة الكاملة في الشرق، يعيقان تنفيذ أي اتفاق فعلي، مما سيُبقي الوضع الأمني على الأرض هشّاً ما لم يشمل الحل معالجة شاملة للبيئة القتالية في شرق البلاد.

وحققت حركة «23 مارس» تقدماً سريعاً في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، واستولت على بلدات رئيسية وأراض شاسعة في اشتباكات أسفرت عن مقتل الآلاف.

ويستشري العنف في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية الغنية بالموارد والواقعة على الحدود مع رواندا، منذ ثلاثة عقود، وقد تجدد منذ شن متمرّدي الحركة هجوماً نهاية 2021، وتلاه طرح أكثر من 10 اتفاقات هدنة في منطقة شرق الكونغو الديمقراطية، لكن كلّ المحاولات الدبلوماسية لإنهاء النزاع باءت بالفشل.

ولذا لا يستعبد صالح إسحاق عيسى أن يكون الحل هذه المرة يتمثل في إمكانية أن تكون حركة «23 مارس» جزءاً من الحكم أو السلطة في الكونغو الديمقراطية، مضيفاً: «لكن ذلك الدمج يبقى شديد الحساسية، وقد يجعل أي اتفاق معها هشّاً وغير مستدام ما لم تُصمَّم العملية السياسية بشكل دقيق ومتوازن، خاصة أن هناك تجربة سابقة لـ(23 مارس) عندما تم دمج عناصرها في الجيش ثم عادت للتمرد عام 2012، وهذا خلق شكوكاً عميقة في صدقية هذه الحركة ونواياها، خصوصاً في نظر النخب السياسية في كينشاسا، سياسيّاً».

ويرى عيسى أن الحل الأقرب أن يتم «إدماج (23 مارس) بشكل مدروس في بنية الدولة، لكن دون منحها سلطة سياسية مباشرة، إلا إذا توافرت شروط صارمة تشمل نزع السلاح، والمحاسبة على الانتهاكات، وآلية مراقبة دولية صارمة»، مشدداً على أنه «دون هذه الشروط، فإن أي اتفاق سيكون هشّاً ومهدداً بالانهيار في أول اختبار ميداني».