الفقر... الضيف الدائم على موائد ملايين اليمنيين

أسر محرومة من الغذاء الصحي... ووجبات غايتها سد الرمق

صيادون يجلبون الأسماك لبيعها في مدينة الحديدة اليمنية (أ.ف.ب)
صيادون يجلبون الأسماك لبيعها في مدينة الحديدة اليمنية (أ.ف.ب)
TT
20

الفقر... الضيف الدائم على موائد ملايين اليمنيين

صيادون يجلبون الأسماك لبيعها في مدينة الحديدة اليمنية (أ.ف.ب)
صيادون يجلبون الأسماك لبيعها في مدينة الحديدة اليمنية (أ.ف.ب)

تفقد محمد الصهيبي ما في جيبه من نقود ليرى ما إذا كانت ستكفيه ورفيقه ثمن وجبة عشاء في المطعم الشعبي الذي يقف أمامه، قبل أن يقرر دعوة رفيقه، ليشعر بعدها بتأنيب الضمير.

على الطاولة المجاورة لطاولة الصهيبي ورفيقه كان ثمة رجلان متقدمان في السن يتناولان الخبز مع «السحاوق»، وهو عصير الطماطم والفلفل الأخضر فقط، والذي يعدّ أهم المقبلات في المائدة اليمنية، وغالباً الوحيد، وعادة ما يتم تقديمه في المطاعم مجاناً رفقة الوجبات، غير أن الأوضاع المعيشية جعلته وجبة ثمينة لوحده.

بحسب الصهيبي؛ فإن الرجلين طلبا قطعة كبيرة من الخبز مع السحاوق، وعندما ألح عليهما عامل التقديم في المطعم ليطلبا أي طبق آخر؛ رفضا ذلك وهما يشعران بالخجل الشديد، وعندما وضعت الوجبة التي طلباها أمامهما؛ سارعا بالتهامها بشراهة من لم يأكل منذ وقت طويل.

عندما أكمل الرجلان وجبتهما وذهبا لدفع حسابها، وقعا في مشادة مع عامل المطعم لأنه احتسب ثمن السحاوق؛ الأمر الذي لم يتوقعاه، وكان مبرر العامل أن السحاوق يقدم مجاناً إذا كانت الوجبة تتكون من طبق أو أطباق أخرى، ولحل الخلاف أعلن الصهيبي استعداده لدفع ثمن وجبتهما إلى جانب وجبته.

عائلة يمنية في الحديدة تجمع أوراق الشجر لتناولها (تويتر)
عائلة يمنية في الحديدة تجمع أوراق الشجر لتناولها (تويتر)

يفيد الصهيبي بأنه بادر إلى ذلك وهو يشعر بتأنيب الضمير لأنه لم يدعهما لمشاركته ورفيقه وجبتهما التي تتكون من طبق من الفاصوليا الحمراء وآخر من الفول؛ فالمبلغ الذي يملكه لن يكفي لإضافة طبق أو طبقين، لكنه يكفي لإضافة وجبتهما البسيطة إلى الفاتورة.

ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «بهذا المبلغ الذي دفعته ثمن عشائي ورفيقي كان يمكننا قبل سبع سنوات أن نتناول الوجبة نفسها طيلة أسبوع كامل، أو يمكنني أن أتناول بها وجبتين من اللحوم والأسماك، أما الآن لا أدري كيف يستطيع الناس حتى دخول المطاعم في صنعاء».

مساعدات من تعز إلى صنعاء

خلال أبريل (نيسان) الماضي قلص الانقلابيون الحوثيون كميات المساعدات الغذائية المقدمة من برنامج الغذاء العالمي والمخصصة للموظفين العموميين، ليزيد ذلك من تضاؤل الموائد التي تتجمع حولها العائلات اليمنية، خصوصاً في مناطق سيطرة الانقلابيين، وهو ما لاحظه الصهيبي في زيارته.

كان الصهيبي عاد إلى صنعاء لقضاء بعض حاجياته؛ بعد سبع سنوات من نزوحه منها، حين تسببت الحرب بفقدان عمله؛ إلى مسقط رأسه، حيث يعمل في الزراعة والبناء وأعمال أخرى بالأجر اليومي، واستقر به الحال على الرغم من قسوة المعيشة، وخلال رحلته هذه حمل معه كيساً كبيراً مليئاً بمواد غذائية من امرأة عجوز في قريته إلى ابنها المقيم في صنعاء.

لم تكن هذه العجوز أول من يرسل مواد غذائية إلى أقاربها في العاصمة صنعاء، فمنذ سنوات تعودت الكثير من العائلات في المناطق المحررة مقاسمة أقاربها في مناطق سيطرة الانقلابيين الحوثيين ما تتحصل عليه من المساعدات الغذائية عبر المنظمات الدولية، وهذه هي طريقة المساندة الوحيدة لهم؛ نظراً لصعوبة مساندتهم بالنقود.

يمني يطهو أوراق نبتة «الحلص» لإطعام أسرته في محافظة حجة (برنامج الغذاء العالمي)
يمني يطهو أوراق نبتة «الحلص» لإطعام أسرته في محافظة حجة (برنامج الغذاء العالمي)

يذكر الصهيبي أن الشاب الذي حمل إليه كيس المواد الغذائية المرسل من والدته كان ممتناً جداً، وأبدى خجلاً كبيراً لأنه يفترض أن يقوم هو بكفالتها، غير أن الأوضاع المعيشية فرضت هذه الحال عليهما، فهو يعمل مدرساً في مدرسة خاصة، وراتبه الذي ينقطع خلال إجازة الصيف؛ يكفي بالكاد لدفع إيجار المنزل وإطعام عائلته الصغيرة.

«سأعزمك على الحاصل يا محمد... عصيدة من الغَرِب والوزف اللذين أرسلتهما أمي، أنت تعرف الظروف». هكذا دعا الشاب الصهيبي بخجل لتناول وجبة الغداء في منزله، حيث «على الحاصل» جملة يستخدمها اليمنيون لإزالة الحرج عند تواضع ما يقدمون من وجبات لضيوفهم وتعني المتوفر من الأكل.

والغَرِب (بفتح الغين وكسر الراء)، هو حبوب السورغم الذي يعدّ منه اليمنيون بعض المخبوزات إلى جانب العصيدة، وهي وجبة تتكون من خلط الدقيق بالماء الساخن، أما الوزف فهو الأسماك الصغيرة المجففة، والتي يصنع منها اليمنيون صوصاً يتناولونه مع العصيدة أو المخبوزات.

نبتة «الحلص» بديلاً

هذا الشاب يبدو أسعد حظاً من غيره ممن كانوا يتلقون مساعدات غذائية من أقاربهم في المناطق المحررة، فلأن أمه العجوز تعيش وحدها في قريتها في محافظة تعز؛ ولديها قطعة أرض تزرعها بالاستعانة بشباب القرية؛ يتوفر لها قدر لا بأس به من الحبوب والدقيق سواء من تلك التي تزرعها أو التي تأتي مساعدات إلى جانب بعض البقوليات.

على العكس من ذلك، يبدي نجيب طه، من أهالي مديرية الشمايتين في محافظة تعز أيضاً، أسفه من تراجع كميات المساعدات الغذائية التي تقدمها المنظمات الإغاثية إلى حد كبير، وهو ما منعه من إرسالها إلى عائلة شقيقه المتوفي، والذين يقيمون في العاصمة صنعاء.

تسببت إجراءات الحوثيين ضد المطاعم في رفع أسعار الوجبات (فيسبوك)
تسببت إجراءات الحوثيين ضد المطاعم في رفع أسعار الوجبات (فيسبوك)

ففي السابق كانت عدد من المنظمات الإغاثية دولية وإقليمية تقدم سلالاً غذائية متنوعة تفيض أحياناً عن حاجة العائلات فتضطر إما إلى بيعها والاستفادة من أثمانها في شراء حاجيات أخرى كالأدوية أو المستلزمات المدرسية لأطفالها، أو ترسلها مع المسافرين أو سيارات النقل إلى أقاربها في المناطق الخاضعة للانقلابيين الحوثيين.

يذكر نجيب أن عائلة شقيقه طلبت منه مرة أن يرسل لها ما يستطيع من نبتة «الحلص» أو «الغلف» وقد شعر حينها بتأنيب الضمير؛ لأن حاجة أقاربه إلى هذه النبتة تعني أنهم لا يجدون ما يأكلونه خلال الفترة الأخيرة التي عجز فيها عن مساندتهم؛ وتقديراً منهم لظروفه القاسية، طلبوا منه هذه النبتة التي لن تكلفه إلا عناء جلبها من منابتها في الوديان وتعبئتها في أكياس وإرسالها إليهم.

وتسببت الأزمة المعيشية في اليمن بدفع اليمنيين إلى تناول هذه النبتة بكثرة، خصوصاً في مناطق سيطرة الانقلابيين الحوثيين، وبحسب ما يفيد الأهالي في محافظة حجة (شمال غرب)؛ فإن الحلص أوشك على الانقراض من الكثير من المناطق بسبب التنافس على اقتطافها، وعدم السماح لها بالنمو.

يشرح عائض علوان حيلته لإطعام أولاده الأربعة أطعمة جيدة الفوائد بأنه يضطر وزوجته إلى الصيام خلال النهار والاكتفاء بوجبتي الإفطار والعشاء اللتين تتكونان من أي نوع من أنواع الخبز إلى جانب السحاوق أو الفول أو الفاصوليا، وغالباً ما تغيب هذه الأصناف ويكتفيان بالخبز والشاي ليتركا وجبة الغداء لأطفالهما.

ويفسر علوان ذلك بأنه يسعى جاهداً لتوفير دجاجة أو اثنتين وتقسيمهما على وجبات غداء عدة كل أسبوع، وحرمان نفسيهما منها مقابل أن يستمتع الأطفال بأكبر قدر ممكن منها، فبعد ارتفاع أسعار اللحوم والأسماك والدجاج؛ لم يبقَ أمامه إلا هذه الحيلة للحفاظ على صحة أطفاله من سوء التغذية.

عائلة يمنية بلا مأوى تتناول وجبتها في الشارع (رويترز)
عائلة يمنية بلا مأوى تتناول وجبتها في الشارع (رويترز)

ويحذر الطبيب على الموشحي من آثار كارثية على صحة اليمنيين بسبب سوء التغذية الحاصل حالياً، وخصوصاً لدى الأطفال والرضع، فالعادات الغذائية التي انتشرت بسبب الفقر والبطالة تضر بصحة الجميع، إلا أن الأطفال هم الفئة الأكثر ضعفاً، وتبدأ معاناتهم من عدم تلقي الأمهات تغذية صحية خلال فترتي الحمل والرضاعة، وعندما يبدأ الطفل بالأكل فإن فقر العائلات لا يسمح لها بتقديم وجبات صحية له.

ويشير الموشحي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى زيادة احتمال إصابة الجيل الحالي من الرضع بالتقزم وضعف البنية الجسدية واختلالات في المناعة وهشاشة العظام وضعف الإدراك، ويؤكد أنه لن ينجو من طائلة هذه الأمراض حتى أولئك الأطفال الذين يملك آباؤهم جينات مقاومة للأمراض.


مقالات ذات صلة

وزير يمني: أوراق الحوثيين تتهاوى... و«طوق نجاة» أممي لإنقاذهم

العالم العربي وزير الإعلام اليمني معمر الإرياني (الشرق الأوسط)

وزير يمني: أوراق الحوثيين تتهاوى... و«طوق نجاة» أممي لإنقاذهم

تحدَّث وزير يمني عن تحركات أممية «محمومة» لإنقاذ الحوثيين تحت شعار «إحياء مسار السلام»، في وقت «تلوح في الأفق لحظة سقوط الجماعة طال انتظارها».

«الشرق الأوسط» (عدن)
العالم العربي مقاتلة تقلع من حاملة طائرات أميركية لضرب الحوثيين في اليمن (الجيش الأميركي)

القمع الحوثي يزداد ضراوة بالتوازي مع تصاعد الحملة الأميركية

فيما اعترف زعيم الحوثيين في اليمن بتلقي 1200 غارة جوية وقصف بحري خلال 6 أسابيع من حملة ترمب، كثفت الجماعة من أعمال القمع ضد السكان بتهم التخابر مع واشنطن.

علي ربيع (عدن)
العالم العربي قيادات حوثية تزور مركزاً صيفياً في الحديدة (فيسبوك)

انقلابيو اليمن يبتزون سكان الحديدة لإلحاق أبنائهم بالمعسكرات

اتهمت مصادر حقوقية في محافظة الحديدة اليمنية الحوثيين باستغلال معاناة السكان وإغرائهم بتقديم مساعدات إغاثية ومالية مقابل إلحاق أبنائهم بالمعسكرات الصيفية.

«الشرق الأوسط» (صنعاء)
العالم العربي تطعيم مليون طفل ضد الأمراض القاتلة في مناطق سيطرة الحكومة (إعلام محلي)

تهديدات الحوثيين تغلق مستشفى تديره «أطباء بلا حدود»

دفعت تهديدات الحوثيين منظمة «أطباء بلا حدود» لتعليق أنشطة مستشفى تديره في مناطق سيطرة الجماعة، بالتزامن مع عودة تفشي الأوبئة، وفي مقدمتها الكوليرا والحصبة.

محمد ناصر (تعز)
العالم العربي دخان يتصاعد بسبب ضربة ليلية أميركية استهدفت موقعاً مفترضاً للحوثيين في صنعاء (إ.ب.أ)

الرئاسة اليمنية تشير إلى احتمال قريب للخلاص من الحوثيين

وسط إشارات يمنية رئاسية إلى احتمالية الخلاص من الحوثيين هذا العام، استهدفت الضربات الأميركية ليل الأربعاء - فجر الخميس مواقع مفترضة للجماعة في صنعاء وصعدة.

علي ربيع (عدن)

إعلام «حوثي»: طائرات أميركية تواصل غاراتها على الحديدة وصنعاء

تجهيز طائرة أميركية على سطح حاملة الطائرات «كارل فينسون» بالقنابل قبل انطلاقها بتنفيذ عمليات إغارة ضد جماعة «الحوثي» (صفحة حاملة الطائرات عبر «فيسبوك»)
تجهيز طائرة أميركية على سطح حاملة الطائرات «كارل فينسون» بالقنابل قبل انطلاقها بتنفيذ عمليات إغارة ضد جماعة «الحوثي» (صفحة حاملة الطائرات عبر «فيسبوك»)
TT
20

إعلام «حوثي»: طائرات أميركية تواصل غاراتها على الحديدة وصنعاء

تجهيز طائرة أميركية على سطح حاملة الطائرات «كارل فينسون» بالقنابل قبل انطلاقها بتنفيذ عمليات إغارة ضد جماعة «الحوثي» (صفحة حاملة الطائرات عبر «فيسبوك»)
تجهيز طائرة أميركية على سطح حاملة الطائرات «كارل فينسون» بالقنابل قبل انطلاقها بتنفيذ عمليات إغارة ضد جماعة «الحوثي» (صفحة حاملة الطائرات عبر «فيسبوك»)

أفاد تلفزيون «المسيرة» التابع لجماعة «الحوثي» اليمنية، يوم الجمعة، بأن الطائرات الأميركية واصلت غاراتها على العاصمة صنعاء وعلى محافظتي الحديدة ومأرب.

وأوضح التلفزيون أن عشر غارات أميركية استهدفت محافظة الحديدة، منها ست غارات على مديرية باجل وأربع استهدفت منطقة رأس عيسى، في حين شنت الطائرات الأميركية سبع غارات على محافظة مأرب.

وتشن جماعة الحوثي التي تسيطر على أجزاء واسعة من اليمن، هجمات على إسرائيل وعلى السفن في البحر الأحمر منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 دعماً للفلسطينيين في غزة. وتسبّبت هجمات الحوثيين في تعطيل التجارة العالمية، ودفعت الولايات المتحدة إلى مهاجمة أهداف مرتبطة بالجماعة.

وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أمر في 15 مارس (آذار) ببدء حملة عسكرية ضد جماعة الحوثي، متوعداً إياها باستخدام «قوة مميتة» و«القضاء الكامل» على قدراتها، في إطار مسعى واشنطن لوقف تهديدات الجماعة للملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن، ولردع الهجمات المتكررة التي تستهدف إسرائيل.

وتعلن جماعة الحوثي بين الحين والآخر أنها تشن عمليات بالصواريخ والطائرات المسيّرة تستهدف حاملتي الطائرات «هاري ترومان» و«كارل فيسنون» والسفن المرافقة لهما، وهما اللتان تنطلق منهما الطائرات لتقصف أهدافاً للجماعة في اليمن.